الأربعاء، 12 يوليو 2017

"إيغوري" في مكتب الترجمان

"إيغوري" في مكتب الترجمان

في سبتمبر|أيلول من عام 2014، حكمت محكمة صينية على ثلاثة شبان إيغوريين (حسين محمد، تورغون توهتيناز، وإسكندر إيهيت) بالإعدام، وبالمؤبد على فتاة (باتيغول توهتي)؛ لأنها حامل.

المُحاكمة لقيت -وقتها- صدى واسعاً في الإعلام الصيني، وتم تسويقها باعتبارها نصراً أمنياً كبيراً، سيما أن الشبان الأربعة تم اتهامهم بالمسؤولية عن حادث إرهابي في محطة قطار، أسفر عن مقتل 35 مدنياً فيما وصفه الإعلام الصيني بأحداث 11 سبتمبر الصينية.

pregnant woman

استمرت محاكمة الشباب يوماً واحداً فقط، صدر خلالها الحكم غير القابل للطعن أو الاستئناف، وأصبح في حيز وجوب التنفيذ فور النطق به.. لكن، وبعد تنفيذ الحكم، تحدثت تقارير دولية عن غياب الأدلة التي تؤكد تورط الشبان في الواقعة، ومتهمةً السلطات الصينية بمحاولة إغلاق القضية أمام الرأي العام بأية صورة ممكنة.

pregnant woman

تقول التليغراف في تقرير لها حول الواقعة: (لم يقدم المسؤولون في محكمة الشعب المتوسطة في كونمينغ سوى القليل من التفاصيل عن خلفية المتهمين، لكن أسماءهم تشير إلى أنهم مواطنون من الأقلية العرقية من أصل الإيغور بمنطقة شينجيانغ الشمالية الغربية).

انتماء الشبان الأربعة لأقلية الإيغور كان كافياً في نظر المحكمة لاتهامهم بالوقوع "تحت تأثير الفكر الديني المتطرف"، الأمر الذي كان كافياً أيضاً للحكم بإعدامهم من الجلسة الأولى.

هذه الواقعة ليست سوى مثال لما يعايشه الإيغوريون الذين برزت قضيتهم -عربياً- خلال الأيام الماضية إثر اعتقال العشرات منهم في مصر؛ حيث يدرسون بالأزهر الشريف، قبل أن تتحدث أنباء عن ترحيلهم إلى محتل بلادهم، بعد اتفاقية أمنية جرى توقيعها بين مصر والصين خلال الأسابيع الماضية.

على غير العادة، تبدو أخبار توقيع الاتفاقيات رتيبة في نشرات الأخبار، لكنْ في مصر وحدها، سرعان ما تتم ترجمة تلك الاتفاقات (الأمنية منها على وجه الخصوص) إلى إجراءات قمعية في بلد احترف تلك الممارسات بحق مواطنيه، وبدا الأمر يسيراً في حق ضيوفه الفارين إلى رحاب أزهره "الشريف".


في مصر، ربما لا يعرف كثير من مواطنيها أن بينهم عشرات الإيغوريين؛ إذ تغلب "الانطوائية" على الطلاب الإيغوريين في الأزهر (الصيغة الرسمية النظامية الوحيدة لوجودهم داخل البلاد)، ربما لأن "السرية" التي عايشوها طوال حياتهم في بلدهم الأم، قد انطبع على سلوكهم حتى في بلاد المسلمين "الحرة".

تقع جامعة الأزهر في قلب منطقة سكنية عامرة في القاهرة، وكذلك جامعها الشريف، إلا أن سكان تلك المنطقة ربما لا يسعفهم بحث الذاكرة عن إيغوري التقوه وتعارفوا إليه، أمر يتنافى تماماً مع سلوكيات التحريض والخروج التي تتهمهم بها حكومة الصين، التي صارت مصر شريكتها في سوق الاتهام وضبط المتهمين.

عشتُ في القاهرة 8 سنوات، منها عام ونصف العام في مقابلة الجامع الأزهر، لم ألتقِ فيها إيغورياً واحداً (ربما كنا نحسبهم إندونيسيين).. المرة الوحيدة التي تكلمتُ فيها مع أحدهم كانت في مكتب توثيق الشهادات بمنطقة الترجمان بالقاهرة نهاية الـ2014، ربما لأنه مكان يدخله الشبان غير مختارين، كان شاباً بسيطاً في ملبسه، متحفظاً في نظراته، يحاول قدر المستطاع أن يرتكن إلى زاوية لا يمكن رصده منها، كأنه يتمنى أن ينفتح في الجدار مقعد يستوعب سكونه في الطابور الطويل.


تحتاج تلك الطوابير عادة إلى ما يكسر رتابتها؛ لذا ألقيتُ عليه السلام بلغة عربية أحاول أن أجعلها واضحة، رد متحفظاً بشكل لا يشجع على حوار.. ربما ذلك ما جعلني أكثر حرصاً على الحديث إليه، تلك عادة يعرف لها تفسيرها علماء النفس.

سألته: مَن أي البلاد؟.. راح يفكر!.. استغربتُ كيف يفكر إنسان في إجابته على سؤال كهذا، قال كأنه يخطف الكلمات: الصين.. قلت: من تركستان؟ (وكنت أظن أن تركستان محافظة صينية)، فاحمر وجهه، وقال: أنت من الأزهر؟ قلت: لا.. تردد أكثر وهو يحرك شفتيَهه كأنه يهم أن يقول شيئاً أو لا يدري ما الذي يجب عليه قوله، ثم توقف عن الكلام. بادرته مجدداً: أنا أدرس في كلية دار العلوم، هي كلية شرعية كالأزهر، لكنها غير تابعة له، هناك درسنا عن الإيغور، نعرف أنهم ممنوعون من الصلاة والصيام، ثم حكيت له عن الشبان الأربعة المعتقلين الذين تم إعدام ثلاثة منهم، وأريتُه صورة من محاكمتهم كانت على هاتفي.

بدأت مساحات الحديث تتسع، حكى لي الشاب أكثر عن حياته، وكيف كانت رحلة وصوله إلى الأزهر عبر انتقالات شملت خمس دول، لا يجرؤ الشاب على أن يعلن بوضوح عن أن يقصد دراسة الأزهر.

كان أكثر ما يلفت الانتباه في تلك المحادثة هو دهشته من أن (العوام) غير الأزاهرة يعرفون الإيغور، لم أرد أن أصدمه وأخبره الحقيقة، كان فرحاً للغاية حين كذبت عليه وأخبرته أن المصريين يعرفون جيداً ما يحصل في بلده المحتل، ويتابعونه بشغف واهتمام.

قطع اقترابه من باب المعاملة الحديث، وغاب، وغابت معه قصته، إلا أن الاعتقالات الأخيرة أعادتها إلى الذاكرة كأنها وقع الأمس.. تذكرت فجأة تفاصيل حكاها لم أنتبه لها لحظة قالها، ربما هو لمَم الحديث في أوقات الانتظار، كلمات تلتقطها الأذهان وتغيب عن الآذان، ثم تعود فجأة صدى في نفوس أصحابها حين تحفزها الحوادث.


تذكرتُ جيداً تنهيدة الأمان التي لخص مشاعره فيها، قبل أن ينطق بوثوق: ثم في النهاية جئت إلى مصر والحمد لله.. تذكرتُ ما حكاه عن والده الذي باع ما يملك من أجل أن يؤمن له نفقات الرحلة المقدسة إلى أروقة الجامع الأزهر.. تذكرت اعتقال أخيه الذي لم يرَه منذ 7 سنوات، تذكرت حديثه عن أمه التي تحكي لجاراتها عن مختارها في بلاد الشرق، الذي سيعود غداً ليرتقي منابر الجلسات الخاصة في منازل المطاردين.

أخيراً، لا أعرف عن مصير هذا الشاب شيئاً، لكن أرى صوراً أخشى أنها تحصل الآن.. أرى صورة والده يغالب العجز وهو يتلقى خبر اعتقال نجله، أرى صورة أمه وهي تصرخ في جنبات الدار أمام صورة ترفعها على حائط بيتهم المتهالك لحبيبها الغائب منذ سنوات، أرى تنهيدته مرة أخرى، لكنها هذه المرة ليست كسابقاتها أبداً.


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/ammar-mtawea/story_b_17463998.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات