الخميس، 1 يونيو 2017

صناعة الخوف

صناعة الخوف


الخوف أقوى أعداء العقل دون منازع، فنادراً ما يتغلب العقل أو على أقل تقدير يحتوي الخوف، لكن غالباً ما ينجح الخوف في السيطرة وإغلاق العقل تماماً.

يقول السياسي الإيرلندي أدموند بيرك إنه ليس هناك شعور يسلب العقل كل قوى التصرف والتفكير بصورة مؤثرة مثل الخوف!

وذكر الفيلسوف الروماني لاكتاتيوس، منذ قرون، أن الخوف والحكمة لا يجتمعان في مكان واحد.

لم يعد الخوف مجرد أعراض نفسية يهتم بها علماء وأطباء النفس؛ بل أصبح صناعة تحترفها الأنظمة الاستبدادية، سواء كانت ديكتاتوريات عسكرية أو مدنية. تحدثت ناعومي وولف، في مقال لها بجريدة الغارديان عام 2007، عما سمته "تصنيع الفاشية"، أو ما يُعرف اليوم بـ"صناعة الخوف"، والتي هي على ما يبدو امتداد لقاعدة ميكافيللي الذهبية: "من الأفضل أن يهابك الناس على أن يحبوك".

يمكن للخوف -تحت ظروف معينة- أن يقنع الكثيرين بالتنازل عن الحرية مقابل وعود جوفاء بالأمن والقوة، وهذا دأب القادة والسياسيين عبر الزمن، ويتغير شكل الخوف المُصدر بما تقتضيه الظروف والجماهير المستهدفة عبر العصور.

فالخوف في زمن حرب الثلاثين عاماً بأوروبا كان الساحرات، وفي ألمانيا النازية كان الشيوعيين واليهود، وعند إسبانيا "فرانكو" كان الهوية والبربرية، وتغيّر عبر الزمن حتى وصل في وقتنا هذا إلى فزاعة العصر "الإرهاب".

إنها الخطة القديمة الجديدة، خلق تهديد مرعب وغير مفهوم بشكل كبير؛ خطر الإرهاب-الشيوعية-المؤامرات الخارجية-البربرية... فهم يعلمون جيداً أن الناس لديهم الاستعداد للتضحية بحريتهم إذا شعروا بأنهم في خطر حقيقي؛ بل لديهم استعداد كامل لتقبُّل الممارسات الدموية للسلطة الحاكمة طالما تتم في حق غيرهم.

لا يمكن نشر الخوف بين الجماهير دون تجسيده في صورة أعداء داخليين وخارجيين، عندما يخاف الناس -كما أسلفنا- فإنهم يكونون أكثر استعداداً لقبول إجراءات تنتقص من حرياتهم الشخصية؛ بل حتى من مقومات حياتهم الأساسية.

ففي الوقت الذي كان "يلتسن" يدكّ فيه البرلمان بالدبابات، كان يمرر القرارات الاقتصادية التي أفقرت الشعب الروسي؛ قانون الباتريوت الأميركي المشبوه الذي سلب الأميركيين حرياتهم الشخصية، تم تمريره في أعقاب أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول، تحت مبرر الاستعداد للحرب على الإرهاب؛ "لينكولن" نفسه فرض الأحكام العرفية في أثناء الحرب الأهلية؛ حريق الرايخستاج في 27 فبراير/شباط 1933 تم اتخاذه ذريعةً لقمع الشيوعيين الألمان وتعزيز سيطرة النازيين على مقاليد الحكم في ألمانيا.

ولا تستطيع أي دولة أن تسيطر على الجماهير دون أن تُحكم السيطرة على ما يلقى في عقولهم، أي التحكم في وسائل الإعلام. جميع الديكتاتوريات فعلت ذلك: إيطاليا في العشرينات، وألمانيا في الثلاثينات، وألمانيا الشرقية في الخمسينات، وتشيكوسلوفاكيا وديكتاتوريات الشرق الأوسط العسكرية في الستينات، وديكتاتوريات أميركا الجنوبية في السبعينات، والصين وروسيا، وغيرها الكثير.

وعبرها يتم استهداف الرموز المعارضة للحكم من مختلف التوجهات، والتحريض عليهم عبر وسائل الإعلام؛ ما يجعل الناس يشعرون بأن الكل مستهدَف بعد تعرُّض الرموز -التي في العادة ما تكون مقدسة لدى الجمهور- للنقد والاتهام، وأن السلطة لن تتهاون مع أحد في الحفاظ على مصالحها، بالإضافة إلى هدف آخر؛ وهو جعل فئة كبيرة من الناس تصدّق وتقتنع بكل ما يُبث من أكاذيب وتحريض.

ولا تكتفي الدولة المستبدة بالمعارضين فقط؛ بل توسِّع دائرة الخوف لتطول المتعاونين والأقارب أو حتى المتعاطفين معهم، وهي أمور نشهدها في زمننا هذا، فلا يمكن أن يتعاطف الناس مع خائن أو عميل -بحسب تصنيفهم- يعمل ضد مصلحة البلد، أو يتعاون مع أعدائها.. المهم أن تتسع تهم الخيانة والتجسس لتصبح فضفاضة إلى أقصى قدر ممكن.

وما يجعل عمليات التحريض أكثر النقاط خطورةً -يقول عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون- أن الجماهير لا تفكر عقلانياً عند تلقيها المعلومات، فهي تتبنى الأفكار مرة واحدة أو ترفضها دون مناقشة أو اعتراض، ودائماً ما تتبنّى الجماهير العواطف العنيفة والمتطرفة، فالتحريضات المؤثرة عليها تغزو عقلها وتجعلها تميل إلى التحول لفعلٍ وممارسة فوراً.

وتعزز الدولة سيطرتها، عبر استصدار القوانين الاستثنائية أو ما يُعرف بـ"حالة الطوارئ" التي أصبحت حجة تتخذها الحكومات لتمرير أي إجراءات، ويمكن أن تستمر حالة الطوارئ هذه أشهراً، أو سنوات، وربما عقوداً أحياناً..!

الأمر كله صراع نفوذ وتصفية حسابات، عبر زرع مستبد جديد أو تبييت آخر في حُكمه، والمتضرر الأول والأخير هو الشعب الذين -بكل أسف- هو جزء مساهم في هذه اللعبة القذرة.

أختتم مقالي هنا بما قاله الشاعر والكاتب الإسباني فرناردو آرابال للجنرال فرانكو، في رسالة يذكِّره فيها بما جَنَتْه إسبانيا من الحرب الأهلية:

"مناخ من الفوضى وانعدام الأمن كان يعصف بإسبانيا، هذا ما بررتَ به انقلابَك العسكري وقلْت حينها إن إسبانيا كانت بربرية صرفة!

إنك أنت من أتى بالبربرية، تلك التي كانت في عصر ملوك الكاثوليكيين والاستبداد الديني، فأنا لا أعتقد أن هناك أخياراً وأشراراً، هناك فقط عنف أعمى وضحية مغمورة بالرماد".




ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/emad-a-alemdoly/post_15123_b_16900220.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات