مَهدُ العبور الثاني: يوم لم ترَ أمي رجولتي الأولى
عودتي الأولى من فلسطين المحتلة لم تَكن نَمطية، كانت عَودة غارقة بالرجولة، تخليت في العبور الأول عن مَهمتي الصحفية امتثالاً لأخلاق المهنة؛ كي لا أخلط انبهاري بعملي الصحفي.
وطأت قدماي أراضي رفح المصرية بعد أن انهار أحد الأنفاق الحدودية بجواري وقت شَرعت في عبور النفق المتواضع الذي كنت أتدرب فيه، بعد أن أتى أمر النزول إلى النفق عبر جهاز اللاسلكي من شخص لا أعلمه.
الهواء الهادر الذي تخطى زجاج السيارة في الطريق الصحراوية ما بين رفح والشيخ زويد وانقطاعات البحر الزرقاء في الأفق القريب تُقاطع نظري من حين لآخر، كل هذا كان يُعيد تَشكيل رجولتي تماماً مَرة أخرى وقت أن بدأت في استعادة تجربتي القريبة التى انتهت من دقائق لم تتعدّ الساعة الواحدة، وأحاول الغرق في التفكير، والسيارة تَطوي طريقها مُسرعة مُزعِجة بلا اهتمام لِقُدس ما يجول بعقلي، كانت محاولتي فَرض تركيزي فيما حدث لي أن أثبت تِلك الجينات بي تلك التي غيرتني بعد هذه الزيارة الأولى لقطاع غزة.
شعور اجتاحني مع هذا التفكير المتسارع بأن عضلات كتفيّ تزداد رجولة، وأن شعري بدأ في الصَمت متجهاً نَحو الشَيب، دليلاً على نمو رجولتي بعد أن صَحِبتُ شُيَباً في جولات قصيرة أعادوا تشكيل وجهة نظري عن الحياة والسلاح والقصف وعبور الحدود والقتلى، وكيف الصبر في حَضرة الحرب.
كانت أمي تَعُدني رَجلاً منذ صغري، تفرح بخطواتي الرجولية، وقيمي في إطار العائلة الاجتماعي، بزيارة ما، بحديث ما، بموقف ما مع أبناء عمومتي، تلك القيم التي تُعد في عِداد الأعراف القروية.
بعد أن تَخطيت العريش بدأت ثقتي تتَعزز بنفسي ميلاً بعد ميل، وأشكر السيد يسري فودة الذي علِق تعبيره هذا بذهني فاقتبسته هنا الآن.
وَقت شَعرت بثقتي بنفسي عَمِدتُ لتَنكيس رأسي للأرض خوفاً من عبث الغرور بي.
وبدأت مرة أخرى في طَرح سؤال على نفسي مفاده ماذا عن وقت دخولي على أمي في الوهلة الأولى بعد هذه الزيارة؟ هل ستلحظ كيف تغير رجلها الصغير بعد رحلة لما وراء الحدود أم لا؟!
لم تَكن أمي تعرف أين كان مستقري فيما مضى من أيام، ولم أخبرها صراحة، بل تَعمدت حياكة كذبة بيضاء تليق بِطُهر قلب أمي؛ كي لا يراودها خوف فوق خوفها الطبيعي عليّ.
لم ترَ أمي رجولتي التي أحببت، والتى اقتحمتني من بعد تِلك الزيارة، لم ترَ سلاحاً مُنتصباً تجاه الحدود في عيني اليُمني، ولا غُترة شُيَب فلسطين المنسقة باللونين الأبيض والأسود على شكل مربعات لا نهائية من الثورة فوق رؤوس هؤلاء الرجال، ولم ترَ سيارات المرابطين التي تُهرول في الفجر بين الطرقات، ولم يُراودها أن طائرة زنانة صَحبتني في لقائي الأول بمرابطي الشمال في جباليا، وأن رَجلاً ما في زاوية تحت شجرة زيتون علمنيّ كيف أميز صَوت الطائرة الزنانة عن غيرها من طائرت الاستطلاع، وكيف أن صَوت الزنانة قد يَحملني إلى الجنة إذا ما صَدقت بالقصف فنثرتنيّ أشلاء غير مكتملة التفكير.
أخذت مشاعري المتأججة تِلك بعد هذه الزيارة إلى غرفتي ونِمت وأنا مكتمل الرجولة.. وحين استيقظت في اليوم التالي اتخذتُ قراراً بأن أعبر الحدود مَرة أخرى ،بأن أغرق حتى انتهاء رُوحي في الصحراء وبين الزيتون، وأن أجلس وقتاً أكثر طولاً في خان يونس، وفي هذا الصباح التالي نَفسه اعتذرت عن مَهمة صحفية جديدة لي من رئيس التحرير، وقدمت له اعتذاراً عن رفضي إتمام مهمتي الأم التي ذهبت من أجلها إلى فلسطين، فتفَهم أسبابي وشعرت أنا بالارتياح.
ومن ثَم جَهزت نفسي للعبور الثاني الذي هَد رُوحي بسلسلة أخرى من طرقي للعبور لا لحدود فلسطين فقط، بل لدول أخرى شكلت منيّ ما أنا عليه الآن من حزن يُشعرني بالمَوت، وكلما هَممت بالكتابة استشعرت نهاية قريبة لا أعلم أي نهاية صدقاً، لكن ربما نهاية حياتي؛ لذلك أكتب بنهم كلما استطعت، وربما نهاية حصيلتي اللغوية كي أحافظ علي صَمتي أكثر حتى الوصول إلى لقاء الله، وربما ذوبان مشاعري مني بلا قدرة على التمسك بها تجاه كل شيء، وأصبح أنا لا شيء على الإطلاق.
وإلى اللقاء مع سيرة العبور الثاني في تدوينة أخرى.
وطأت قدماي أراضي رفح المصرية بعد أن انهار أحد الأنفاق الحدودية بجواري وقت شَرعت في عبور النفق المتواضع الذي كنت أتدرب فيه، بعد أن أتى أمر النزول إلى النفق عبر جهاز اللاسلكي من شخص لا أعلمه.
الهواء الهادر الذي تخطى زجاج السيارة في الطريق الصحراوية ما بين رفح والشيخ زويد وانقطاعات البحر الزرقاء في الأفق القريب تُقاطع نظري من حين لآخر، كل هذا كان يُعيد تَشكيل رجولتي تماماً مَرة أخرى وقت أن بدأت في استعادة تجربتي القريبة التى انتهت من دقائق لم تتعدّ الساعة الواحدة، وأحاول الغرق في التفكير، والسيارة تَطوي طريقها مُسرعة مُزعِجة بلا اهتمام لِقُدس ما يجول بعقلي، كانت محاولتي فَرض تركيزي فيما حدث لي أن أثبت تِلك الجينات بي تلك التي غيرتني بعد هذه الزيارة الأولى لقطاع غزة.
شعور اجتاحني مع هذا التفكير المتسارع بأن عضلات كتفيّ تزداد رجولة، وأن شعري بدأ في الصَمت متجهاً نَحو الشَيب، دليلاً على نمو رجولتي بعد أن صَحِبتُ شُيَباً في جولات قصيرة أعادوا تشكيل وجهة نظري عن الحياة والسلاح والقصف وعبور الحدود والقتلى، وكيف الصبر في حَضرة الحرب.
كانت أمي تَعُدني رَجلاً منذ صغري، تفرح بخطواتي الرجولية، وقيمي في إطار العائلة الاجتماعي، بزيارة ما، بحديث ما، بموقف ما مع أبناء عمومتي، تلك القيم التي تُعد في عِداد الأعراف القروية.
بعد أن تَخطيت العريش بدأت ثقتي تتَعزز بنفسي ميلاً بعد ميل، وأشكر السيد يسري فودة الذي علِق تعبيره هذا بذهني فاقتبسته هنا الآن.
وَقت شَعرت بثقتي بنفسي عَمِدتُ لتَنكيس رأسي للأرض خوفاً من عبث الغرور بي.
وبدأت مرة أخرى في طَرح سؤال على نفسي مفاده ماذا عن وقت دخولي على أمي في الوهلة الأولى بعد هذه الزيارة؟ هل ستلحظ كيف تغير رجلها الصغير بعد رحلة لما وراء الحدود أم لا؟!
لم تَكن أمي تعرف أين كان مستقري فيما مضى من أيام، ولم أخبرها صراحة، بل تَعمدت حياكة كذبة بيضاء تليق بِطُهر قلب أمي؛ كي لا يراودها خوف فوق خوفها الطبيعي عليّ.
لم ترَ أمي رجولتي التي أحببت، والتى اقتحمتني من بعد تِلك الزيارة، لم ترَ سلاحاً مُنتصباً تجاه الحدود في عيني اليُمني، ولا غُترة شُيَب فلسطين المنسقة باللونين الأبيض والأسود على شكل مربعات لا نهائية من الثورة فوق رؤوس هؤلاء الرجال، ولم ترَ سيارات المرابطين التي تُهرول في الفجر بين الطرقات، ولم يُراودها أن طائرة زنانة صَحبتني في لقائي الأول بمرابطي الشمال في جباليا، وأن رَجلاً ما في زاوية تحت شجرة زيتون علمنيّ كيف أميز صَوت الطائرة الزنانة عن غيرها من طائرت الاستطلاع، وكيف أن صَوت الزنانة قد يَحملني إلى الجنة إذا ما صَدقت بالقصف فنثرتنيّ أشلاء غير مكتملة التفكير.
أخذت مشاعري المتأججة تِلك بعد هذه الزيارة إلى غرفتي ونِمت وأنا مكتمل الرجولة.. وحين استيقظت في اليوم التالي اتخذتُ قراراً بأن أعبر الحدود مَرة أخرى ،بأن أغرق حتى انتهاء رُوحي في الصحراء وبين الزيتون، وأن أجلس وقتاً أكثر طولاً في خان يونس، وفي هذا الصباح التالي نَفسه اعتذرت عن مَهمة صحفية جديدة لي من رئيس التحرير، وقدمت له اعتذاراً عن رفضي إتمام مهمتي الأم التي ذهبت من أجلها إلى فلسطين، فتفَهم أسبابي وشعرت أنا بالارتياح.
ومن ثَم جَهزت نفسي للعبور الثاني الذي هَد رُوحي بسلسلة أخرى من طرقي للعبور لا لحدود فلسطين فقط، بل لدول أخرى شكلت منيّ ما أنا عليه الآن من حزن يُشعرني بالمَوت، وكلما هَممت بالكتابة استشعرت نهاية قريبة لا أعلم أي نهاية صدقاً، لكن ربما نهاية حياتي؛ لذلك أكتب بنهم كلما استطعت، وربما نهاية حصيلتي اللغوية كي أحافظ علي صَمتي أكثر حتى الوصول إلى لقاء الله، وربما ذوبان مشاعري مني بلا قدرة على التمسك بها تجاه كل شيء، وأصبح أنا لا شيء على الإطلاق.
وإلى اللقاء مع سيرة العبور الثاني في تدوينة أخرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/ahmed-eltokhy/-_11715_b_16728234.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات