السبت، 10 يونيو 2017

مريم ويوسف الصديق

مريم ويوسف الصديق


وأتاني صوتُ الإمام يقيم صلاة العشاء في المسجد المجاور لغرفة نومي ويقرأ: "قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيَاً مَنْسِيّاً"، انتفضت في فراشي وانهمرت دموعي، وأحسست بضيقي وقد نفثه صدري في زفرة هي مزيج من الراحة والنشيج.

كنت أمرُّ بحالة ضيق شديدة، أدخلتني في نوبة اكتئاب، وقتها شعرت بالذنب الشديد، واتهمت ذاتي بضعف الإيمان، حتى أتاني صوتُ الإمام يقرأ الآية بصوته الرخيم الهادئ المطمئن: "يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيَاً مَنْسِيّاً" وكأنه هاتف سماوي ملائكي يقرأ لي ويوجه رسالته لي "ألا تخافي ولا تحزني"! فمريم العذراء البتول هي الأخرى مرت بهذا الشعور الإنساني، شعرتْ بالضيق ودخلتْ في حالة اكتئاب جعلتها تتمنى الموت.

وذكرتُ مريم، مرات ومرات قرأت الآيات التي تَذكرها وتذكر قصتها، ومرات ومرات أيضاً قرأت قصتها في كتب عدة، على اختلاف مشارب الكتب ومؤلفيها، لكنني ولا مرة لامست الجانب الإنساني في قصة خير نساء الأرض، مريم البتول.

كأن الآية الكريمة التي جاءتني في وقت مثالي لتمسَّ شغاف قلبي ولأتخيل "مريم"، تلك الشابة الصغيرة التي ما لبست تخلع ثوب الطفولة تتعرض لهذه الأمانة وهذا الاختبار العظيم.

تخيلتها وهي ترقد تحت النخلة وقد اجتمع عليها ألم الرحم يعتصر ليخرج للنور الوليدَ المبارك، مع ألم النفس وهي لا تدري كيف ستواجه به العالم، وكيف ستفسر للناس الأمر.
تخيلتها تصرخ وحيدةً منبوذةً تحت النخلة، تتمنى الموت، حتى تتخلص من محنتها.

كان الحزن قد برح بها، فبعد قليل سينبلج الألم فجراً في صورة طفل، هو النور يبدد ظلمات العالم، كانت تعْلم هذا يقيناً، لكن هل يعلم الناس ذلك؟ كيف ستحمله على ذراعيها وتأتي به قومها؟! ماذا ستقول؟! وكيف ستفسر؟!

هنا استبدّ بها الألم، وجأرت لخالقها بالصراخ تستغيث، وتمنت الموت، قالت: "يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيَاً مَنْسِيّاً".

مسكينة مريم! لكن يد الله الحانية والتي تأتينا في صور كثيرة، أتتها تربت عليها في صورة معجزة، رضيعها الذي ما إن لامس الأرض حتى ناداها من تحتها "لَا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً".

إنه التثبيت والربط على القلب يا مريم، رضيعك المعجز يؤازرك ويطلب منك ألا تحزني وأن تقري عيناً. وليس هذا فقط؛ بل هزي إليك بجذع النخلة، وكلي واشربي وقرّي عيناً، وفوق كل ذلك وكما نقول نحن المصريين "سيبيلي الليلة دي"؛ أي اتركي الأمر لي، قولي لهم: "إني صائمة عن الكلام"، وأنا سأتصرف، هكذا بكل بساطة.

لكن يد الله الحانية لا تأتي فقط في صورة معجزات يعجز العقل عن تفسيرها وتخرس الألسنة أمامها، لكنها قد تأتي في صورة أبسط وأقرب للمنطق الإنساني وحدود إدراك العقل، مع أنها معجزة في التأثير، إنها صورة الصديق الصدوق، الذي يشد من أزرك، ويفكر معك، ويقف بجانبك، صديق نسميه في مصر "الصاحب الجدع".

ولعل "أجدع " صاحب في التاريخ كان من نصيب السيدة "مريم".. إنه "يوسف النجار" خطيبها، ورفيق دربها، في السراء والضراء، صديق لا يوازيه في "الجدعنة" سوى "أبو بكر الصديق"، من وجهة نظري المتواضعة.

فالثاني عندما قالوا له: صاحبك طلع السماء، وزار بيت المقدس في ليلة أو بعض ليلة، لم تهتز له شعره في تكذيب، فكان الصديق هو اسمه، وكانت الجدعنة في الرفقة هي منهاجه.

كذلك سبقه في "الجدعنة" يوسف النجار، الذي ما إن آتاه خبر حمل مريم، لم يسمح للشك بالتسلل لنفسه، وقرر استبيان الأمر بنفسه، وشد الرحال لمريم في أورشليم، يسألها، ويسمع منها، وما إن حكت له حتى صدقها، هكذا بكل بساطة؛ بل إنه لم يكتف بالتصديق فقط؛ فحمل على نفسه بكل "الجدعنة" أن يتحمل معها وعنها، وأن يواجه معها العالم كتفاً بكتف.

وتخيلتهما وهما يدخلان "الناصرة"، بلدتهما الصغيرة النائمة في حضن الجبل، بالحمل الثمين الغريب، ونظرات الناس تنهشهما، ذلك الذي قطف الثمرة قبل أوانها، وتلك التي دنست شرف أسرتها.

تخيلت يوسف النجار يدخل مرفوع الرأس، متنمراً، مستعداً للدفاع عن مريم والوليد بآخر قطرة من روحه.

بينما اعتصر قلبي شفقةُ على مريم في ذلك المشهد المهيب، مريم بنت عمران الذي كانت أقصى أمانيه أن يخدم في المعبد الكبير الذي بناه جده داود، فيأخذ زوجته ويشد رحاله بالسفر ويحقق أمنيته ليموت ناسكاً عابداً.

وعندها كانت فجيعة زوجته فجيعتين؛ فجيعة فقْد الزوج والصاحب والرفيق، وفجيعة ذهاب شرف خدمة بيت الله من أسرتها، وفي محاولة أخيرة للإبقاء على الشرف العظيم ببيتها، تنذر "حنة" ما في بطنها محرَّراً لخدمة المعبد العظيم في "أورشليم".

مريم التي دخل عليها زوج خالتها زكريا فوجد عندها فاكهة في غير موسمها، وعندما سألها عن مصدرها، أجابت ببساطة بأنها "من عند الله"، الأغرب من بساطتها في الرد هي البساطة التي صدقها بها زكريا، لم يثنّ السؤال، فقط صدَّقها. هكذا بكل بساطة.

مريم الذي تنافس على كفالتها أشراف "أورشليم" وكهنتهم، حتى فاز بها نبي الله زكريا زوج خالتها "إلياصابات".

مريم المجلّلة بكل هذا التاريخ الأسري المشرف، تدخل اليوم قريتها، تحاصرها الأعين المتهمة، وتنهشها الألسن الحداد، بينما تتوارى أمها من سوء ما بُشّرت به.
أي ابتلاء وأي ألم أصعب على النفس؟!

لكن يد الله الحانية ترْبت مرة أخرى على قلبها المنتفض خوفاً وإشفاقاً من الموقف.
فتشير للصغير؛ ليشرح لهم في لسان طلق، وكلمات كمياه سلسبيل تنزل على أجواف عطشى في قيظ صيفي، فتبتل الأرواح وتهدأ وتسكن، وتنام الفتنة على هدهدات الصغير.
"إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً، وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ، وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً، وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلِنِي جَبَّاراً شَقِيّاً، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ، وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً".

وهكذا تفتح الناصرة ذراعيها للصغير وأمه وكفيله، ليحيا أشهراً قبل أن تفرَّ به أمه من هول الملك الطاغية يبحث عنه ليقتله.

إن سفر مريم بابنها وقطعها الصحارى، وعملها في الحقول وقد ربطته إلى صدرها- هي رحلة كفاح وعذاب تحملتها الصغيرة مريم. هي أشياء قد يفهمها عقلي الإنساني عن رحلة كفاح أم عظيمة، لكن يوسف النجار يعود ليدهش عقلي من جديد، أي "جدعنة"، وأي رجولة تلك التي تدفع صديقاً لترك بيته وأهله، وقطع الصحارى القاحلات، والهرب من جنود طاغية القتل عنده أرحم أساليبه، ثم العمل في بلاد غريبة لسنوات وسنوات، قبل أن يرجع بالعائلة المقدسة مرة أخرى للناصرة بعد انجلاء الغمة ليظل متحملاً المسئولية حتى وافته المنية!

فأي حياة يمكن أن تكون أشد؟! وأي شخصية بشرية عادية يمكن أن تكون أعظم؟!
رحم الله يوسف النجار وجزاه كل الخير عن قلبه الطيب وعن جدعنة ستظل مثالاً يحتذى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

انزاح همّي وانجلى اكتئابي وعشقت مريم، وصرت كلما مرت بي مشكلة أو نائبة، أذكر مريم، وأعلم أن الحزن حق والإكتئاب وارد، لكن لا يأس من يد الله الحانية، تأتينا في أي صورة كانت، لكنها ستأتي لا محالة، فالرحمن اسمه وفعله.


ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/wfaa-nazeeh/-_11942_b_16961188.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات