الثلاثاء، 18 يوليو 2017

أزمة القرار الشعبي في النظام الديمقراطي

أزمة القرار الشعبي في النظام الديمقراطي

من الأزمات التي تعانيها الديمقراطية الغربية على المستوى الجماهيري أن غالبية الأفراد ليست بالضرورة قادرة على اتخاذ قرارات سليمة وجيدة، فمثلاً قد يطالب الرأي العام الشعبي باتباع سياسة معينة تجاه قضية محددة أو دولة معينة، لكن قد يكون القرار هنا خطأ جسيماً وفادحاً من وجهة نظر المختصين والضالعين، خاصة أن هذا التوجه الشعبي غالباً ما يكون -لسذاجته الثقافية- واقعاً تحت تأثير إعلام مضلل، أو نخب بارعة في استمالته وتشويه رؤيته.

ولذلك نجد أنه بمجرد ظهور نتيجة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تعاملت بريطانيا كلها تقريباً مع هذه النتيجة على اعتبار أنها كارثة مروعة حلت بالبلاد، بل وقع أكثر من أربعة ملايين بريطاني على عريضة يطالبون فيها بإجراء استفتاء جديد.

لقد كان منح الشعب الحق في أن يقول رأيه في تلك القضية الحساسة خطأ فادحاً لا يغتفر، وأن رأي الشعب قاد إلى كارثة، ورأى البعض أن المسؤولية يتحملها فريق الساسة الذين قادوا عملية الدعوة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وأنهم ضللوا الشعب بالمعلومات غير الصحيحة التي قدموها، وبتعمد التقليل من شأن السلبيات المتوقعة للخروج من الاتحاد.

كذلك انتقدت الصحف الألمانية الاعتماد على الديمقراطية في اتخاذ قرارات ذات تأثير عالمي كهذا؛ لأنها تُسوّي بين العواجيز وبين الشباب في اتخاذ قرارات سيتحمل عبئها الشباب؛ حيث قالت صحيفة زود دويتشي: "كبار السن يحددون مستقبل الشبان الذين سيعانون من تبعات الخروج"، موضحة من خلال بيانات الاستفتاء أن كبار السن هم مَن حسموا النتيجة؛ إذ صوت ثلاثة أرباع من الشباب لصالح البقاء، بينما صوت كبار السن فوق ستين سنةً بأغلبية ضد البقاء.

لقد عكست تلك التجربة صدى مشاعر مهمة، وحقيقية تجاه الجماعات المختلفة، التي تعيش ضمن إطار الديمقراطيات الغربية، وقد ظهر أن هناك عالمين مختلفين من الناس، كان التحصيل العلمي، والعمر، والهوية الوطنية، عوامل حاسمة في التصويت؛ إذ صوّت الناخبون الشباب من جميع الخلفيات الاقتصادية، كما صوّت أرباب التعليم الجامعي بشكل ساحق لصالح البقاء، في حين سعى الناخبون من كبار السن، والعاطلون عن العمل، الذين لديهم شعور قوي بالهوية الوطنية الإنكليزية نحو الخروج.

كما أرجعت الصحيفة البولندية "فيبورجا" السبب في هذه النتيجة لاتباع الأنانية الوطنية.

ويرى مقال نُشر في مجلة "فورين أفيرز" للكاتبة كاثلين ماكنمارا أن "الاستفتاء البريطاني الذي جرى مؤخراً على عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي هو خير مثال على (الديمقراطية الزائفة)"؛ حيث ترى الكاتبة أن الاستفتاء كان مقامرة متهورة نجحت في تحويل قضية حقيقية، وهي الحاجة لجدل أكثر انفتاحاً حول شرعية الاتحاد الأوروبي، إلى صراع سياسي بين نخبة انتهازية إلى حد مثير للخجل.

وتشير إلى أنه قد عُصف بالمناقشة الصاخبة حول استمرار عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي بجملة من الأكاذيب والتحريفات الكثير منها يتراجَع عنها الآن بشكل واضح من قِبَل دعاة الخروج البريطاني أنفسهم.

ونوهت الكاتبة بأن الصحافة البريطانية تبدي "أسفاً منمقاً" لدعمها للخروج، للأسف، مشيرة إلى أن العديد من الناخبين البريطانيين لم يعرفوا بالضبط ما هو الاتحاد الأوروبي، كما تؤكد البحوث التي أجريت مؤخراً، والتي تنم عن عدم وجود معرفة وافية حول الاتحاد.

إن من غیر الطبیعي أن یتم تجاهل الفوارق الإدراكیة والمعرفیة بین الناس بهذه الصورة التي تجعل من حق الجمیع إبداء رأیه في كل شيء بلا امتلاك البعض لأدنى معرفة وبلا تفرقة بین شخص وآخر، كيف يكون صوت أستاذ جامعي مخضرم في الشؤون السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية مساوياً لرجل الشارع البسيط الذي لم يتلقَّ أي نوع من التعليم، بل قد يبيع صوته بكيلو لحم أو ببعض دراهم؟

كيف نسوي بين العاقل والأحمق، والمتعلم والجاهل، والصالح والطالح، والرزين والسفيه؟
يقول الفيلسوف الإغريقي الشهير سقراط عن الديمقراطية:
"إنها لا تثق بالمقدرة والكفاءة والمواهب، وتقدر العدد أكثر من المعرفة، فلا غرابة أن تعم الفوضى في البلاد التي يسودها الجهل؛ حيث تقوم الجماهير بوضع القرارات في سرعة وجهل. أليس من الجهل أن يحل مجرد العدد محل الحكمة؟ وعلى العكس، ألا نرى الناس مجتمعين في جماعات، أكثر سخافة وعنفاً وقسوة منهم وهم منفصلون منفردون؟".

وبقية القصة معروفة، فلقد حكمت الجماهيرية الديمقراطية الأثينية على سقراط بالموت بالسم، فتجرعه راضياً مطمئناً بعد أن أيقن أنه أدى رسالته تجاه مجتمعه.

وأرسطو في كتابه "السياسة" قدَّمَ تصنيفاً سداسياً لأشكال الحكم، وضع من خلاله الديمقراطية ضمن أشكال الحكم المنحرفة والفاسدة، وكذلك أفلاطون في كتابه "الجمهورية" صنف الديمقراطية ضمن نظم الحكم الفاسدة.

يرى أرسطو أن النظام الديمقراطي ما هو إلا عبارة عن حكم طغياني مُقسَّم على عدة أفراد، أما أفلاطون فقد اعتبرها نظاماً سیئاً للحكم، وكان یدفع نحو ضرورة أن یسند الحكم لأصحاب المعرفة والعلم، رافضاً فكرة المساواة بین الجمیع في ذلك، وهو بذلك یتبع مجملاً الاتجاه الذي یدفع إلیه أستاذه سقراط؛ حیث ضرب مثلاً في ذلك بالمریض الذي یجب أن یرجع للطبیب المتخصص، ولا یستمع لرأي الأكثریة؛ لأنه سیموت حینها!

إن تهمة أفلاطون ضد الديمقراطية هي ببساطة أنها تنتهك النظام الطبيعي الصحيح في أي مجتمع، وذلك باختلاق مساواة اصطناعية بين أفراد هذا المجتمع.

فكيف يفترض أن من حق كل المواطنين - على حد سواء - أن يكون لهم رأي في الشؤون الحساسة والتخصصية للدولة، دون أي اعتبار لقدراتهم وخبراتهم، ولهذا فقد أصبح المفتاح الرئيسي لمستقبل أي سياسي ناجح يكمن في أن يكون قادراً على التحدث بشكل مقنع بالنسبة لمثل هذا المواطن الساذج؛ لهذا السبب أصبح "فن الخطابة" ذا قيمة عالية جداً في العمل السياسي الديمقراطي دون غيره من المهارات التخطيطية أو العلمية، فضلاً عن الدينية والأخلاقية بالطبع.

ويعتقد أفلاطون أيضاً أن النظام الديمقراطي يقود البلاد التي يحكمها بحسب أهواء وشهوات الشعب وليس بحسب المصلحة العامة التي -في أغلب الأحيان- لا تتماشى مع تلك الأهواء والشهوات.

يقول الدكتور أندرياس سوفرنيو في كتابه "الفلسفة العلاجية للفرد والدولة": "إن أفلاطون قد رفض الديمقراطية بشكل كامل، ورفض بشكل خاص المبدأ الذي يكفل لأي مواطن حرية التعبير عن رأيه السياسي، وممارسة التأثير الحتمي لهذا التعبير في تقرير سياسات الدولة، وذلك لأن أفلاطون اعتقد أنه من الواضح جداً أن ليس كل المواطنين قد تم إعدادهم وتدريبهم على الحياة الاقتصادية أو العسكرية أو قد تم إطلاعهم على الوظائف المختلفة للحكومة -على سبيل المثال- وبالتالي فإنهم لا يخضعون في آرائهم السياسية للمنطق المناسب لهذه المجالات، وبالتالي فلا يمكن الاعتماد على تلك الآراء في اتخاذ القرارات الصائبة للحكومة".

ويقول البروفيسور إريخ كوفميل، أستاذ الفكر السياسي بجامعة سسكس بالمملكة المتحدة في كتابه "الفكر اللاديمقراطي": "إن أفلاطون قد وجه العديد من الانتقادات للديمقراطية، ولكن يمكن تلخيص انتقاداته في أربع أطروحات محددة، هي:
- النظام الديمقراطي هو نظام تعددي يفتقر لأي نوع من الوحدة السياسية.
- الديمقراطية تجنح دائماً للاستجابة ولاتباع رغبات الشعب وتقلباته، ولا تستجيب للمصلحة العامة التي غالباً لا يدركها السواد الأعظم من الشعب.
- الديمقراطيات الضخمة من حيث اتساع الدولة وتعقد التركيبة الاجتماعية وازدياد عدد السكان تفشل في إتاحة القدر المناسب من التعبير السياسي لكل عناصر المجتمع، مما يشكل عاملاً لتثبيط المواطنين عن المشاركة في الحياة السياسية والعامة.
- الديمقراطية هي نظام سياسي يديره بعض الحمقى! ويكون أفضل شيء هو أن يتولى إدارة شؤون الدولة المتخصصون، بصرف النظر عن مدى تمثيلهم لرغبات الشعب وأهوائه، وذلك لأن إدارة شؤون الحكم إذا تركت للشعب سيؤدي ذلك لخلل كبير في الدولة؛ لأن الشعب لا يعرف ما الذي يفعله على وجه الحقيقة.

ويكمل كوفميل: "وأفلاطون يرى في نظريته الخاصة بالحكم والدولة، أن هناك حالة مثالية هي التي يجب أن تسود النظام السياسي الناجح، وهي أن يتولى الحكم ممثلون عن إرادة الشعب بالتعاون مع أهل الخبرة والتخصص الذين لا يهم أن يكونوا منتخبين من قِبَل الشعب أو ممثلين عن رغباته".

بالطبع فإن كلام البروفيسور إريخ كوفميل حول نظرية أفلاطون للحكم يفتح باب النقاش حول أحد أهم عناصر الحكم في الفكر السياسي الإسلامي وهو "أهل الحل والعقد".

ثم ولو افترضنا أن الاقتراع الانتخابي مر في أجواء تطبعها النزاهة والشفافية والمصداقية، فقد يكون من أصبح يمثل الناخبين ليست له القدرة على تسيير شؤون الدولة وليست له الكفاءة والخبرة اللازمة لذلك، بل انتخبه الناس لبراعته الحوارية أو وعوده الانتخابية الفضفاضة.

إن مما تحتاج إليه الديمقراطية أن يكون من يمثل مجموع الأمة ذوو كفاءة علمية وخبرة، علاوة على وعي المجتمع ونضجه السياسي حتى يتم القضاء على منطق الولاءات الضيقة، إضافة إلى الأخذ بآراء وتصورات المعارضة، وأخذها بعين الاعتبار أثناء عملية اتخاذ القرارات.


ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/khaled-najjar/story_b_17473832.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات