عندما نزلنا إلى الشوارع في ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني وما مررنا بها من أحداث من يوم 28 يناير/كانون الثاني مروراً بموقعة الجمل وما تلا التنحي من أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء والعباسية وقد شهدتها جميعاً لم نتوقع تلك القساوة والدماء، وكنا نرى تلك الأحداث منتهى الدموية للمجلس العسكري، ولم نتصور أن تلك الأحداث الدموية لن تعادل ما سنراه ورأيناه بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 من أحداث، كنا ضد المجلس العسكري واستمراره في السلطة أو خروج قياداته خروجاً آمناً دون محاسبة على جرائمهم، لكن كان لا يزال في عقولنا جميعاً أن أبناء الجيش هم إخوتنا وبنو جلدتنا الذين لن يفعلوا فينا ما فعلته قوات الداخلية، وما مارسته من قتل وتعذيب بحق شعبهم، إلا أن يوم الثامن من يوليو/تموز 2013 كان اليوم الذي تكشفت فيه الحقائق أمام أعيننا وبدمائنا ودماء إخوتنا.
نعود لصبيحة يوم 7 يوليو/تموز 2013 حيث استيقظت صباحاً على صوت أحد الشباب أمام "عمارات العبور 1" الملاصقة لدار الحرس الجمهوري "ذلك الشاب لم أرَه بعد أحداث الحرس الجمهوري إلا شهيداً في أحداث المنصة"، وكان ذلك الشاب عَذْب الصوت بليغ الكلام يلقي أبياتاً من الشعر كتبها بنفسه ليلهب حماس الشباب والمعتصمين أمام دار الحرس الجمهوري، ذلك الشاب لم يعرف اسمي أو أعرف اسمه إلا أننا اجتمعنا في نفس الميدان وتحت نفس الهدف حماية الثورة ومكتسباتها، حالنا كحال كثير من شباب مصر الطاهر، وبدأت أعداد الشباب حوله تزداد شيئاً فشيئاً، فكوّنا حلقة كبيرة أمام الحاجز الشائك الموضوع آنذاك أمام دار الحرس الجمهوري، وبدأت المنصة بفتح بعض الأغاني الثورية وبدأ ترتيب الأماكن والخيام وحملات التنظيف، وتقاسمنا بعض المياه والأكل مع قوات المظلات المكلفة بحراسة دار الحرس الجمهوري، وأثناء ذلك كنت قد لاحظت وجود سيارة تابعة للجيش يقوم أفراد الحرس بنقل كراتين شركة "شيبسي" منها، لكن الغريب أن معظمنا الذين كنا بالقرب منهم بدأنا نحس برائحة تشبه الغاز المسيل للدموع، وعندما دققت بالنظر محاولاً معرفة مصدر الرائحة لمحت قَدَراً داخل إحدى الكراتين المفتوحة عبوات الغاز المسيل للدموع التي كنا نجمعها في أحداث الثورة، وقد أبلغت المنصة بوجود كميات كبيرة من قنابل الغاز تنقل في تلك الصناديق، وكانت تلك بوادر التحضير لما يخططون له؛ حيث تفاجأنا جميعاً بعد ذلك بقطع الكهرباء عن الشوارع المحيطة بدار الحرس وقت صلاة المغرب والتحليق المكثف لطائرات الهليكوبتر، والتي ظلت تحلّق على ارتفاع منخفض وطيلة الليلة السابقة للأحداث.
صلينا العشاء والتراويح وبدأنا نعود للخيم لنرتاح قليلاً، خاصة أن منا مَن كان في تظاهرة أمام مقر وزارة الدفاع وعاد متعباً، فيما فضَّل البعض العودة لميدان رابعة ليصلي القيام هناك على أن يعود عند صلاة الفجر، وبدأنا صلاة الفجر صبيحة يوم 8 يوليو/تموز 2013 كما العادة، وعند الركعة الثانية تماماً وإذ بأصوات صفارات الشباب الذين يحرسون مدخل الاعتصام من جهة صلاح سالم تعلو شيئاً فشيئاً وأصوات التكبيرات، فتوقعنا أنها مجموعات من البلطجية تحاول اقتحام الاعتصام، فخرجنا جميعاً من الصلاة في اتجاه أصوات الصفارات والتكبيرات، وكانت صدمتنا في جحافل من القوات الخاصة للشرطة والمدرعات تتقدم وتلقي بكميات كبيرة جداً وغير مسبوقة من الغاز؛ حيث تكونت سحابات من الغاز المسيل للدموع على طول الشارع وصولاً لمحول الكهرباء كان بالقرب من عمارات العبور 2 والذي احتمينا به من الرصاص مع عجزنا تماماً عن التصدي لهم بسبب الغاز، حيث بدأنا جميعاً بالتساقط إما اختناقاً أو بطلقات الرصاص العشوائية والكثيفة، التي لم تتوقف من جهة القوات المتقدمة من صلاح سالم، وكذلك بعد محاصرتنا من قِبَل قوات الصاعقة والمظلات التي كانت تحرس دار الحرس من الجهة المقابلة؛ حيث شكلوا كماشة وأطلقوا علينا النار بكثافة، مما تسبب في إصابات حتى في صفوفهم بسبب كثافة النيران التي ألصقوها بنا بعد ذلك.
كلما حاولت تذكّر تلك اللحظات أتذكر غيوم الغاز التي أحاطت بنا من كل اتجاه، أتذكر كيف لم نستطِع حتى فتح أعيننا من الغاز وتساقطنا جميعاً واحداً تلو الآخر، رأيت بعيني سقوط مجموعة الحراسة جهة صلاح سالم كاملة بمن فيهم الأزهريون المعممون الذين تقدموا ليحاولوا التهدئة كما العادة، لكن رصاصات الغدر أسقطتهم شهداء وجرحى.
كانت كثافة النيران جنونية، وكل ما أذكره محاولتي العودة للخلف باتجاه المنصة أمام دار الحرس، لكني سقطت وفقدت الوعي وأنا أحاول تفادي الرصاص عند مدخل إحدى عمارات العبور، وقد حملني أحد الشباب ليسعفوني في إحدى النقاط تحت عمارات العبور 2 ولم أعِ إلا وأنا تحت أيدي أحد الأطباء يحاول إسعافي من اختناق الغاز وما صاحبه من تشنجات.
وبعد أن تعافيت قليلاً قال لي الطبيب: إننا يجب أن نعود بأي طريقة لميدان رابعة فقد حوصرنا من كافة الاتجاهات، وأغلقوا كل الشوارع المؤدية من وإلى ميدان رابعة بما فيها شارع الطيران، وكلما حاولت إلقاء نظرة بالخارج يباغتوننا بالرصاص، وأرى أفراد الشرطة العسكرية وقوات الصاعقة والشرطة والمظلات كلهم يفتشون الخيام ويتفقدون الجرحى ويُجهزون عليهم بدم بارد، ويتأكدون من موت كل مَن أُصيب، وأخذوا شيئاً فشيئاً بدخول مداخل العمارات المجاورة لدار الحرس الجمهوري لتمشيطها وتصفية واعتقال مَن تبقى فيها، وبالفعل رأيتهم يقتحمون مصلى كان تحت عمارات العبور 2، وقد أجهزوا على كل مَن فيه من المعتصمين الذين احتموا بداخله، حينها ركضت أنا ومجموعة أخرى في شارع خلفي بين أسوار دار الحرس ومدخل مواقف السيارات الخاصة بسكان العمارات في محاولة للخروج، لكننا فوجئنا بطلقات الرصاص من أحد أبراج الحراسة المطلة على الشارع، فدخلنا داخل أحد مواقف السيارات تحت إحدى البنايات، فألقى الجندي بقنبلة غاز داخل الموقف، مما اضطرنا للخروج سريعاً ونحن نختنق من الغاز، فأخذ يضرب علينا طلقات الرصاص وكأنه في رحلة صيد يصطاد، احتميت أنا ومَن بقي من المعتصمين في الموقف المجاور للموقف الآخر وعندما حاولنا الصعود من السلم الداخلي، فوجئنا بسكان العمارة يغلقون الباب الخاص بالموقف من داخل العمارة ويمنعوننا من الخروج.
لم أصدّق ما يحدث، كنت في حالة صدمة وجسمي في منتهى البرودة أشاهد تلك الطلقات التي قد تصيبني في أي لحظة، وأرى أولئك الذين يمنعوننا حتى من الاحتماء من الرصاص دون طلب مساعدة منهم، حينها جلست على الأرض بجانب إحدى السيارات أحاول استيعاب ما يحدث، أحاول الاستيقاظ من ذلك الكابوس، لكن للأسف لم يكُن كابوساً إنما واقعاً مأساوياً لم يخفف عنّي فيه إلا قِطٌّ صغير جاء يتمسح بي، فأخذت أحضنه وأبكي بحرقة وأشكوه إنسانية وجدتها فيه ولم أجدها في بني جلدتنا من البشر.
يُتبَع..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/khaled-hatem-shalaby/-1_82_b_17804316.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات