السبت، 19 أغسطس 2017

السـر الفلسطيني!

السـر الفلسطيني!

لم أَدَّعِ يوماً من الأيام أنني نظرت إلى فلسطين بالتعصب القومي والوطنية والشعارات والصراخ (الهتاف) مطلقاً، وذلك لأنني أعتقد أنها تُظهر مواطن الضعف لا القوة في كل مواطن عربي مثلي، فلا الصراخ ولا الهتافات ستفعل شيئاً، ولا حتى الوطنية التي أورثونا إيَّاها كبضاعة فاسدة ستقدم شيئاً، فالوطنية مفهوم واسع وعميق جداً، يبدأ عندما تنشأ بينك وبين الوطن علاقة من الإغداق بالعطاء المتبادل، وهذا ما لا ينطبق علينا أبداً، فنحن منذ عَرَفنا هذا الوطن علَّمونا كيف نقيم علاقة سرقة متبادلة بيننا وبين الوطن!!

لم أعرف فلسطين ولم أرها بكل أسف، لكنني نشأتُ وترعرعتُ في حضن وسواعد أُخوَّتي الفلسطينية، فأن تكون طالباً لم يبلغ بعدُ سنَ الرشد، ومن حوله معلمون وأساتذة ورفاق من فلسطين يلقِّنونك علوم الحياة، ويقفون بجانبك بمواقف مختلفة في مدرسة الحياة، ومن ثم تنتقل إلى ميادين العمل فتجد من يمسك بيدك ويشجعك ويدربك على الإبداع فلسطينياً أيضاً!

ما زلت أذكر أول عبارة تلقيتها من بروفيسور جامعي، فلسطيني الأصل، عندما وصلت إلى بلد الاغتراب وأنا على أعتاب الثامنة عشرة من العمر، ألا وهي "أن الغربة والاختلاط مع الثقافات المختلفة هي التي ستجعل منك رجلاً". وبعيداً عن الشخصانية والعواطف إذا ما قرَّرت أن تحلل التجربة الفلسطينية الإنسانية تجدها تجربة متوازنة ناضجة في أغلبها، وكذلك عصامية بحتة بدأت في البحث عن الاستقرار بعيداً عن وطن لم يعرف يوماً الاستقرار، فمن مهمة إيجاد وطن جديد يحتضن طاقاتهم ويستقبل تفاصيل حياتهم، إلى الانتقال لمجالات إبداعية تجعلهم قادرين على الحضور والبروز والمنافسة.

وبغضِّ النظر عن عواطف العرب الكاذبة، ودموع التماسيح التي بالكاد سمحت للأردن أن يمنح بعضهم جنسيته مشكوراً، إلا أن التعاضد فيما بينهم كان سمة أساسية حاضرة في الروح والتربية الفلسطينية، ولعلّ هذه الصفة كانت أبرز أسباب النجاح لديهم، فتراهم متآلفين ومتماسكين في وجه الغرباء عنهم، بل ويستميلونهم بذكاء حتى الوصول إلى الفكرة والغرض المرجوَّين.

صمدوا في ظل غياب قيادة سياسية تُمثل مواقفهم أو تُدافع عن حقوقهم، تجاوزوا مرحلة وجود دولة ومؤسسات ترعاهم، وصار الانتماء لديهم روحانياً، بعيداً عن الواقع والحقيقة، في حين نرى اليوم شعوباً متفسِّخة تفوح منها روائح الخيانة والسرقة والنهب، بحجة غياب مظاهر الدولة، وكأن الدولة بطريقتها البوليسية كانت هي حقاً الحل الأمثل!!

بتبسيط شديد يمكننا تلخيص أبرز أسرار نجاح التجربة الإنسانية الفلسطينية فيما يلي:

- الواقعية والتأقلم مع الوضع القائم، وجعل حلم العودة ليس عائقاً أمام البحث عن حياة جديدة هم جديرون بها ويستحقونها.

- إرساء دعائم الحياة الجديدة، ويتمثل ذلك بضرورة حمل جنسية أخرى تساعدهم في جميع نواحي الحياة، وتُبعد عنهم شبح التعقيد والإساءة، بسبب الاختلاف عن باقي المواطنين، ولا ننسى أن ننوه إلى نقطة رئيسية، أن جميع مجتمعات العالم المتقدم متعصبة لجنسيتها، ولا تُحبِّذ الأجنبي إلا المجتمعات العربية!

- البحث عن الإبداع في المجالات الصناعية والتجارية، والجرأة في المشاريع، ووجود روح المغامرة والثقة والإيمان بالوصول.
- استعمال جميع الإمكانات البشرية العقلية والمهنية، مهما كان البعد والقرب عن المجال الحقيقي لكل فرد فيهم، بغية اقتلاع النجاح في النهاية.

- ربط العمل بالعلم، وليس العكس، وهذه نقطة جوهرية، فمن المهم جداً بناء عملك أو حرفتك المختارة على أسس معرفية قوية، بدلاً من التمسُّك بعلم نظري لإيجاد عمل لا يمت لما تعلمته بصلة.

في ظل اجتماع هذه العوامل نجحت التجربة المريرة الفلسطينية، لتُنتج إنساناً حقيقياً قادراً على أن يقدم طاقته للإنسانية من رحِم تآمر الآخرين، وفشل الوطن في تأمين أبسط الإمكانات المطلوبة لكل مواطن طبيعي.

ومن هنا ندعو جميع الإنسانية، وبالأخص الذين أنهكتهم ثورات الربيع أو الفشل العربي، أن يجعلوا من السرِّ الفلسطيني مثالاً واقعياً ناجحاً ورزيناً لحياتهم، وتغليب روح المنطق والتعاضد، كقوة دافعة لكل عمل وفكرة مبدعة تجعل منا مجتمعات عملية مثقفة متصالحة مع ذاتها، تمهيداً للانطلاقة الكبرى، وليس العبث والصياح والسرقة في الظلام، فزمن العنتريات البلهاء أوشك على الانقراض.




ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/tarek-ahmed-rafik-kasem/-_12917_b_17721838.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات