قارَب عمري على الثلاثين عاماً، انقطعت علاقتي بأي شيء له علاقة بالتعليم منذ أمدٍ بعيد، شغلت وظائف عديدة، تدرجت في المناصب، وما زالت ليلة أول يوم دراسي تثير رعبي حتى يومنا هذا، لست أدري لماذا؟! قشعريرة تنتشر في أنحاء جسدي، انقباض في الصدر غير معلوم الأسباب، ثمة كآبة ما تُخيّم على المكان، إظلام تام في شوارع الحي، أعمدة الإنارة تبكي فراق أطفال الحي الذين شغلتهم التحضيرات النهائية لأول يوم دراسي، صمت تام فلا صخب ولا صراخ ولا لَعِب حتى منتصف الليل كعادة كل ليلة، هدوء يسبق لعاصفة مُنتظرة غداً في الصباح الباكر،
ثمة تلبّك وتقلصات معوية ربما بسبب المجهول الذي سوف ألاقيه غداً مع أول يوم دراسي، رائحة العيش "الفينو" منتشرة في الجو، رائحة الجبن مع شرائح الطماطم أيضاً شريك في هذه الليلة المقبضة، رائحة مربى الفراولة اللزجة أيضاً متصدرة لهذا المشهد وبقوة، خليط هذه الروائح معاً تكاد تشتمه أنفي الآن بعد كل هذه السنين، ربما هذا سبب الارتباك الذي أُعانيه، ليت الزمان توقّف قبل هذه الليلة حيث كانت شوارع الحي مكتظة بكل هؤلاء الأطفال؛ نلهو جميعاً في مدخل البناية لا نبالي بالاستيقاظ مبكراً ولا المسؤوليات التي ستلقى على عاتقنا، يا لها من مأساة إنسانية تنتظرني غداً، سيحمل ظهري المسكين حقيبة وزنها نصف وزني تقريباً؛ لأقطع المسافة من شرق بلدتنا حيث الحي الهادئ لغربها حيث مدرستي الصاخبة، أسير بين الحانات عبر الأزقة الضيقة، أستمع لصوت البرامج الصباحية التي يبثها الراديو فجميع حانات البلدة على نفس موجة الراديو.
أستمع للشطر الأول من الكوبليه من مذياع تلك الحانة قائلاً: "حلاوة شمسنا وخفّة ضِلنا" لأستكمل الاستماع لشطر الكوبليه الثاني من مذياع الحانة المجاورة؛ ليكمل: "الشمس عندنا ربيع طول السنة"، عذراً لهذا الكذب الذي تبثه إذاعة الشرق الأوسط، نعم فقد كان هذا نص أغنية لفرقة رضا كنت أسمعها دوماً كل صباح، أظنها الآن تغيرت لتصبح:
"حرارة شمسنا وثقِل ظلنا، الشمس عندنا جحيم طول السنة" ربما بسبب الاحتباس الحراري ومصانع الإسمنت والسيراميك التي انتشرت في ربوع الجمهورية.
ها قد وصلت مدرستي بعد عناء شديد وبعد أن انكسر ظهري بفعل تلك الحقيبة اللعينة، صوت مكبر الصوت المزعج ذي الصوت المتقطع بطل لهذا المشهد، فلم تتمكن إدارة المدرسة من إصلاحه من العام الماضي، الإدارة اكتفت فقط بأعمال التركيبات لصنابير نحاسية جديدة بدل التي سُرقت العام الماضي، مدرس التربية البدنية هو الراعي الرسمي لمراسم طابور الصباح، يصرخ في الميكروفون في محاولات يائسة منه لإعادة ترتيب المشهد والسيطرة على هذه الألوف المؤلفة من الطلبة والتي اصطفت في فناء المدرسة، وها هم زملائي يظهرون تباعاً على المنصة،
لتبدأ مراسم طابور أول يوم دراسي، فها هي فاتنة المدرسة وملكة جمالها وفتاة أحلامنا جميعاً تطل علينا من جديد، أظنها هي الحافز الوحيد لتواجدنا في هذا الفناء الكئيب، تُقدم بصوتها العذب الإذاعة المدرسية، تقرأ علينا المقدمة الكلاسيكية والتي لا نملها أبداً بصوتها الرقيق، ها هي تُقدم زميلنا ليقرأ على مسامعنا ما تيسر من الذكر الحكيم فهو نجم الإذاعة المدرسية بلا منازع هو أيضاً المسؤول عن فقرة الحديث الشريف وأي شيء له علاقة بالدين، يشتهر بين الأساتذة بتدينه ولكننا نعلم حقيقته جيداً فهو ليس كذلك هو فقط يريد أن يتصدر المشهد لجذب انتباه جميلة الجميلات، كم هو شخص محظوظ! فقد خرج اسمه للتو من بين شفتيها أثناء تقديمه لنا، محظوظ ليس فقط لكونها تعرف اسمه الثلاثي؛ بل لأن المسافة بينه وبينها عدة سنتيمترات معدودة تكاد تختلط أنفاسه بأنفاسها، ها هو أخيراً قد انتهى من جميع الفقرات الدينية، لتُقدم زميلاً آخر يقرأ علينا حكمة اليوم،
الوقت كان ضيقاً للغاية ولم يستطع تحضير حكمة جديدة فخرج علينا بهذه الحكمة الحامضة التي عفا عليها الزمن والتي نصها: "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد"، قالها بابتسامة بلهاء وكأنه أطلعنا على سر حربي لم نكن نعلمه من قبل، من جاء بك إلى هنا بحق السماء، ربما الواسطة! فالجميع يعلم أن أمك أستاذة مادة العلوم وقد أشركتك في الإذاعة المدرسية عنوة، وهي تعلم جيداً أنك محدود الموهبة ولكنك أخذت فرصة تلميذ آخر قد تمنى أن يجاور ولو للحظات فاتنة المدرسة، ها هو يتوارى عن الأنظار ليظهر زميل آخر ليلقي على مسامعنا نشرة الأخبار الصباحية، فلا جديد أيضاً فأخبار اليوم نفس أخبار الأمس نفس أخبار العام الماضي، هي نفس أخبار العام القادم..
انتفاضة الأقصى ما زالت مستمرة.
سيادة الرئيس يتفقد مشروع توشكى القومي الذي بمثابة العبور للمستقبل وها أنا أحدثكم بعد أن عبرت وحدي للمستقبل ومشروع توشكى ما زال هناك في الماضي، وقد أبى أن يعبر معنا، لأسباب لا يعلمها أحد!
لماذا لا يعبر أي مشروع قومي بمصر للمستقبل؟ لماذا؟! أظن مشروع قناة السويس سينضم لقائمة المشاريع القومية التي ستأبى أن تعبر للمستقبل كما فعلها توشكى من قبل.
الأهلي الفائز ليلة أمس كالعادة وها أنا أحدثكم بعد عشرين عاماً وما زلت أؤكد لكم تلك المعلومة.
وأخيراً الطقس معتدل نهاراً مائل للبرودة ليلاً.
انتهت النشرة، ليخرج فجأة من وراء الكواليس ثلاثة تلاميذ طوال القامة ملامحهم صماء، عابسو الوجوه، يرتدي كل منهم كاب أحمر وقد تزين بنسر ذهبي في المنتصف، أظنهم أصبحوا الآن كوادر هامة في الجيش أو الشرطة أو على أقل تقدير أمناء شرطة؛ ليختفي من على المنصة كل هؤلاء الطلبة المدنيين السابق ذكرهم من على المنصة، ليبدأوا بتحية العلم الخفاق في السماء، لنردد خلفهم وكلنا حماسة وولاء لهذا الوطن في نبرة واحدة: "تحيا جمهورية مصر العربية"، وها أنا أحدثكم من المستقبل بعد أن تغير نص التحية فأصبح "تحيا مصر"
أصبح شعاراً سياسياً بعد أن كان وطنياً، بعد أن ارتبط الشعار بأشخاص لا بأوطان، أصبح شعاراً مبتذلاً يُردد بتهكم والإحباط ينتابنا جميعاً لما آل إليه حال وطننا، لنتساءل فيما بيننا: هل ما زالت بالفعل تحيا؟ وهل ما زلنا نؤمن بمن يردده على مسامعنا ليل نهار؟
ثمة تلبّك وتقلصات معوية ربما بسبب المجهول الذي سوف ألاقيه غداً مع أول يوم دراسي، رائحة العيش "الفينو" منتشرة في الجو، رائحة الجبن مع شرائح الطماطم أيضاً شريك في هذه الليلة المقبضة، رائحة مربى الفراولة اللزجة أيضاً متصدرة لهذا المشهد وبقوة، خليط هذه الروائح معاً تكاد تشتمه أنفي الآن بعد كل هذه السنين، ربما هذا سبب الارتباك الذي أُعانيه، ليت الزمان توقّف قبل هذه الليلة حيث كانت شوارع الحي مكتظة بكل هؤلاء الأطفال؛ نلهو جميعاً في مدخل البناية لا نبالي بالاستيقاظ مبكراً ولا المسؤوليات التي ستلقى على عاتقنا، يا لها من مأساة إنسانية تنتظرني غداً، سيحمل ظهري المسكين حقيبة وزنها نصف وزني تقريباً؛ لأقطع المسافة من شرق بلدتنا حيث الحي الهادئ لغربها حيث مدرستي الصاخبة، أسير بين الحانات عبر الأزقة الضيقة، أستمع لصوت البرامج الصباحية التي يبثها الراديو فجميع حانات البلدة على نفس موجة الراديو.
أستمع للشطر الأول من الكوبليه من مذياع تلك الحانة قائلاً: "حلاوة شمسنا وخفّة ضِلنا" لأستكمل الاستماع لشطر الكوبليه الثاني من مذياع الحانة المجاورة؛ ليكمل: "الشمس عندنا ربيع طول السنة"، عذراً لهذا الكذب الذي تبثه إذاعة الشرق الأوسط، نعم فقد كان هذا نص أغنية لفرقة رضا كنت أسمعها دوماً كل صباح، أظنها الآن تغيرت لتصبح:
"حرارة شمسنا وثقِل ظلنا، الشمس عندنا جحيم طول السنة" ربما بسبب الاحتباس الحراري ومصانع الإسمنت والسيراميك التي انتشرت في ربوع الجمهورية.
ها قد وصلت مدرستي بعد عناء شديد وبعد أن انكسر ظهري بفعل تلك الحقيبة اللعينة، صوت مكبر الصوت المزعج ذي الصوت المتقطع بطل لهذا المشهد، فلم تتمكن إدارة المدرسة من إصلاحه من العام الماضي، الإدارة اكتفت فقط بأعمال التركيبات لصنابير نحاسية جديدة بدل التي سُرقت العام الماضي، مدرس التربية البدنية هو الراعي الرسمي لمراسم طابور الصباح، يصرخ في الميكروفون في محاولات يائسة منه لإعادة ترتيب المشهد والسيطرة على هذه الألوف المؤلفة من الطلبة والتي اصطفت في فناء المدرسة، وها هم زملائي يظهرون تباعاً على المنصة،
لتبدأ مراسم طابور أول يوم دراسي، فها هي فاتنة المدرسة وملكة جمالها وفتاة أحلامنا جميعاً تطل علينا من جديد، أظنها هي الحافز الوحيد لتواجدنا في هذا الفناء الكئيب، تُقدم بصوتها العذب الإذاعة المدرسية، تقرأ علينا المقدمة الكلاسيكية والتي لا نملها أبداً بصوتها الرقيق، ها هي تُقدم زميلنا ليقرأ على مسامعنا ما تيسر من الذكر الحكيم فهو نجم الإذاعة المدرسية بلا منازع هو أيضاً المسؤول عن فقرة الحديث الشريف وأي شيء له علاقة بالدين، يشتهر بين الأساتذة بتدينه ولكننا نعلم حقيقته جيداً فهو ليس كذلك هو فقط يريد أن يتصدر المشهد لجذب انتباه جميلة الجميلات، كم هو شخص محظوظ! فقد خرج اسمه للتو من بين شفتيها أثناء تقديمه لنا، محظوظ ليس فقط لكونها تعرف اسمه الثلاثي؛ بل لأن المسافة بينه وبينها عدة سنتيمترات معدودة تكاد تختلط أنفاسه بأنفاسها، ها هو أخيراً قد انتهى من جميع الفقرات الدينية، لتُقدم زميلاً آخر يقرأ علينا حكمة اليوم،
الوقت كان ضيقاً للغاية ولم يستطع تحضير حكمة جديدة فخرج علينا بهذه الحكمة الحامضة التي عفا عليها الزمن والتي نصها: "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد"، قالها بابتسامة بلهاء وكأنه أطلعنا على سر حربي لم نكن نعلمه من قبل، من جاء بك إلى هنا بحق السماء، ربما الواسطة! فالجميع يعلم أن أمك أستاذة مادة العلوم وقد أشركتك في الإذاعة المدرسية عنوة، وهي تعلم جيداً أنك محدود الموهبة ولكنك أخذت فرصة تلميذ آخر قد تمنى أن يجاور ولو للحظات فاتنة المدرسة، ها هو يتوارى عن الأنظار ليظهر زميل آخر ليلقي على مسامعنا نشرة الأخبار الصباحية، فلا جديد أيضاً فأخبار اليوم نفس أخبار الأمس نفس أخبار العام الماضي، هي نفس أخبار العام القادم..
انتفاضة الأقصى ما زالت مستمرة.
سيادة الرئيس يتفقد مشروع توشكى القومي الذي بمثابة العبور للمستقبل وها أنا أحدثكم بعد أن عبرت وحدي للمستقبل ومشروع توشكى ما زال هناك في الماضي، وقد أبى أن يعبر معنا، لأسباب لا يعلمها أحد!
لماذا لا يعبر أي مشروع قومي بمصر للمستقبل؟ لماذا؟! أظن مشروع قناة السويس سينضم لقائمة المشاريع القومية التي ستأبى أن تعبر للمستقبل كما فعلها توشكى من قبل.
الأهلي الفائز ليلة أمس كالعادة وها أنا أحدثكم بعد عشرين عاماً وما زلت أؤكد لكم تلك المعلومة.
وأخيراً الطقس معتدل نهاراً مائل للبرودة ليلاً.
انتهت النشرة، ليخرج فجأة من وراء الكواليس ثلاثة تلاميذ طوال القامة ملامحهم صماء، عابسو الوجوه، يرتدي كل منهم كاب أحمر وقد تزين بنسر ذهبي في المنتصف، أظنهم أصبحوا الآن كوادر هامة في الجيش أو الشرطة أو على أقل تقدير أمناء شرطة؛ ليختفي من على المنصة كل هؤلاء الطلبة المدنيين السابق ذكرهم من على المنصة، ليبدأوا بتحية العلم الخفاق في السماء، لنردد خلفهم وكلنا حماسة وولاء لهذا الوطن في نبرة واحدة: "تحيا جمهورية مصر العربية"، وها أنا أحدثكم من المستقبل بعد أن تغير نص التحية فأصبح "تحيا مصر"
أصبح شعاراً سياسياً بعد أن كان وطنياً، بعد أن ارتبط الشعار بأشخاص لا بأوطان، أصبح شعاراً مبتذلاً يُردد بتهكم والإحباط ينتابنا جميعاً لما آل إليه حال وطننا، لنتساءل فيما بيننا: هل ما زالت بالفعل تحيا؟ وهل ما زلنا نؤمن بمن يردده على مسامعنا ليل نهار؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mahmoud-khalifa-el-sayed/-_12864_b_17698322.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات