كما كان متوقعاً، جاءت الزيارة التي قام بها 3 وزراء لبنانيين من قوى "8 آذار" إلى دمشق مدوّيةً بدلالاتها، فاقعةً بأبعادها المحلية والإقليمية، ثقيلةً بنتائجها السياسية على أكثر من صعيد، وذلك رغم محاولات الفريق الحكومي المعترض عليها (تيار المستقبل والقوات اللبنانية) التقليل من مخاطرها.
يكتنف مشهد وزيرين من الثنائية الشيعية - حزب الله وحركة أمل (قبل أن يلحق بهما في اليوم التالي وزير من تيار المردة برئاسة النائب سليمان فرنجية)- وهما يستظلّان بصورة جدارية ضخمة لرئيس النظام السوري، معلّقة في قاعة الاستقبال بمعبر جديدة يابوس الحدودي بين البلدين، رمزية كبرى كافية أن تختصر وحدها كل الدلالات التي تزخر بها هذه الزيارة.
من الصعب ألّا يعيد هذا المشهد اللبنانيين بالذاكرة إلى الحقبة التي كانت تستقبل خلالها صورةُ الرئيس السوري حافظ أسد الوافدين إلى مطار بيروت الدولي (قبل أن يصبح مطار رفيق الحريري الدولي على أثر اغتيال رئيس الوزراء السابق)، فيدفع بعضهم إلى التحسّر على أيام "عزّ" ما كان يسمّى الوجود العسكري السوري في لبنان، وينكأ الجراح التي ما زالت مفتوحة عند البعض الآخر منهم منذ تلك الفترة الزمنية الكئيبة.
أما القصد من هذا الإخراج المتقن بالصوت والصورة، خصوصاً مع ما رافق الاستقبال المهيب من مبالغة في الحفاوة، وتقصّد التلفزيون السوري نقله مباشرة على الهواء، فهو إفهام كلّ من لا يريد أن يفهم في لبنان، لا سيما من يعترض على إنهاء القطيعة الرسمية المستمرّة منذ 6 سنوات مع نظام متّهم دولياً بأفظع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مع شعبه، أن التطبيع مع هذا النظام أصبح أمراً واقعاً لا مفرّ منه، والقول إلى كلّ من لا يزال يتجرّأ في بيروت على رفض سياسة المحاور في المنطقة، إنه يجري استتباع لبنان إلى محور الممانعة بالقوّة، شاء من شاء، وأبى من أبى.
فبعد نغمتي ضرورة التنسيق بين الجيشين اللبناني والسوري، وحتمية التنسيق مع النظام السوري في موضوع عودة اللاجئين السوريين من لبنان، يطلّ علينا التطبيع القسري مع النظام السوري بأبهى حلله، من خلال زيارة يقوم بها 3 وزراء لبنانيين لحضور معرض دمشق الدولي وبحث الأمور الثنائية بين البلدين، وذلك على الرغم من عدم موافقة مجلس الوزراء على هذه الزيارة (اعتراض رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري ووزراء "14 آذار")، لا سيما أنّ السلطة الإجرائية في لبنان تناط بمجلس الوزراء.
أما الجدل الدستوري حول طبيعة هذه الزيارة، أي إن كانت رسمية أم شخصية، بعد عدم موافقة مجلس الوزراء عليها، فلا يغني ولا يسمن من جوع، ولا يستطيع أن يلغي مفاعيلها السياسية الحاصلة على أرض الواقع.
تجري هذه الزيارة في أغسطس/آب 2017، في ظلّ سيطرة إيرانية -إمّا مباشرة من خلال الحرس الثوري الإيراني، وإما بواسطة الميليشيات المذهبية التابعة لها- على أجزاء واسعة من سوريا، كما أن الزيارة تحصل بعد أن أعلنت ماكينة حزب الله الإعلامية انتصاره في معركة جرود عرسال على هيئة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وبعد أن أسقطت هذه الماكينة الإعلامية أدبيات "الحشد الشعبي" -كحام مقدّس للكيان- على الواقع اللبناني، وأن قامت بتخوين كلّ من سوّلت له نفسه الاعتراض على ما يقوم به الحزب، لا سيما عندما يكون الاعتراض من باب ضرورة حصر السلاح بيد الدولة وحدها.
وتأتي هذه الزيارة في سياق من إعلام البروباغندا المشابه لما جرى في أغسطس/آب 2006، عندما أعلن حزب الله انتصاره على إسرائيل في حرب تموز من ذاك العام، واستثمر إقليمياً هذا الانتصار بإهدائه إلى محور الممانعة، أولاً إلى إيران التي كانت مأزومة في مفاوضاتها حول الملف النووي، وثانياً إلى رئيس النظام السوري لتعويمه عربياً بوجه خصومه من المحور العربي المقابل، فتلقّف وقتها بشار أسد هذا "الانتصار"، وألقى خطابه الشهير الذي نعت فيه الرؤساء العرب بـ"أنصاف الرجال".
أمّا فرض التطبيع القسري مع النظام السوري من خلال هذه الزيارة، فمفاده محاولة قهر إرادة قسم كبير من اللبنانيين الذين عانوا الأمرّين من النظام السوري، والاستهزاء بمشاعر اللبنانيين -لا سيما من أبناء الطائفة السنّية- الذين يتضامنون مع إخوانهم السوريين فيما يتعرّضون له من حرب همجية من قبل هذا النظام، خصوصاً مع ما رافق الزيارة من إزالة لليافطات المعترضة عليها في طرابلس (شمال لبنان)، وكأنّ المطلوب هو التسليم بنظرية حلف الأقليات في الإقليم ومبدأ الحمايات الميليشياوية المذهبية، والتخلّي عن منطق الدولة الجامعة التي يجب أن تحمي جميع مكوناتها ومواطنيها.
والمقصود أيضاً من هذه الزيارة، التي ضربت بعرض الحائط عدم موافقة مجلس الوزراء ورئيسه عليها، هو إظهار رئيس مجلس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، بمظهر الضعف، وأنّه غير قادر على ضبط الإيقاع الحكومي، أو على فرض سلطته على الوزراء بصفته مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء (المادة 64 من الدستور)، لا سيما أن الزيارة تأتي في ظل تخلٍّ عربي واضح عن لبنان، وبعد سلسلة من التنازلات من قِبل الحريري وفريقه، خصوصاً منذ التسوية التي أتت بالعماد عون -حليف حزب الله- رئيساً للجمهورية.
مع هذا التطبيع القسري الذي ترسيه هذه الزيارة، من الجلي أن سياسة اليد الممدودة وثقافة الاستسلام التي تنتهجها أحزاب "14 آذار" المشارِكة في الحكومة قد أثبتت عقمها؛ هذه السياسة غير قادرة على النهوض بالبلد رغم كل التنازلات؛ لأن الفريق الآخر لا يسعى إلى الشراكة في الحكم؛ بل إلى التسلّط والتفرّد بالخيارات المصيرية في لبنان، خدمةً لمحور الممانعة الذي ينتمي إليه هذا الفريق.
في ضوء هذه المعطيات، تصبح الاستقالة من الحكومة أفضل من البقاء فيها. أمّا الفريق الذي يحاول فرض إرادته على باقي اللبنانيين، فمن الجائز تذكيره بأنّه، نظراً إلى تعقيدات الواقع اللبناني وتشعّباته، كان دائماً من الصعب، لا بل من المستحيل فرض منتصر مزهوّ بنفسه في لبنان، فقد أثبت هذا البلد مراراً أنّه عصي على الإخضاع، أو على هيمنة فئة معيّنة، أو على قمع الحريات فيه، لا سيّما أنّ رماله المتحرّكة قادرة على أن تبتلع الجميع.
يكتنف مشهد وزيرين من الثنائية الشيعية - حزب الله وحركة أمل (قبل أن يلحق بهما في اليوم التالي وزير من تيار المردة برئاسة النائب سليمان فرنجية)- وهما يستظلّان بصورة جدارية ضخمة لرئيس النظام السوري، معلّقة في قاعة الاستقبال بمعبر جديدة يابوس الحدودي بين البلدين، رمزية كبرى كافية أن تختصر وحدها كل الدلالات التي تزخر بها هذه الزيارة.
من الصعب ألّا يعيد هذا المشهد اللبنانيين بالذاكرة إلى الحقبة التي كانت تستقبل خلالها صورةُ الرئيس السوري حافظ أسد الوافدين إلى مطار بيروت الدولي (قبل أن يصبح مطار رفيق الحريري الدولي على أثر اغتيال رئيس الوزراء السابق)، فيدفع بعضهم إلى التحسّر على أيام "عزّ" ما كان يسمّى الوجود العسكري السوري في لبنان، وينكأ الجراح التي ما زالت مفتوحة عند البعض الآخر منهم منذ تلك الفترة الزمنية الكئيبة.
أما القصد من هذا الإخراج المتقن بالصوت والصورة، خصوصاً مع ما رافق الاستقبال المهيب من مبالغة في الحفاوة، وتقصّد التلفزيون السوري نقله مباشرة على الهواء، فهو إفهام كلّ من لا يريد أن يفهم في لبنان، لا سيما من يعترض على إنهاء القطيعة الرسمية المستمرّة منذ 6 سنوات مع نظام متّهم دولياً بأفظع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مع شعبه، أن التطبيع مع هذا النظام أصبح أمراً واقعاً لا مفرّ منه، والقول إلى كلّ من لا يزال يتجرّأ في بيروت على رفض سياسة المحاور في المنطقة، إنه يجري استتباع لبنان إلى محور الممانعة بالقوّة، شاء من شاء، وأبى من أبى.
فبعد نغمتي ضرورة التنسيق بين الجيشين اللبناني والسوري، وحتمية التنسيق مع النظام السوري في موضوع عودة اللاجئين السوريين من لبنان، يطلّ علينا التطبيع القسري مع النظام السوري بأبهى حلله، من خلال زيارة يقوم بها 3 وزراء لبنانيين لحضور معرض دمشق الدولي وبحث الأمور الثنائية بين البلدين، وذلك على الرغم من عدم موافقة مجلس الوزراء على هذه الزيارة (اعتراض رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري ووزراء "14 آذار")، لا سيما أنّ السلطة الإجرائية في لبنان تناط بمجلس الوزراء.
أما الجدل الدستوري حول طبيعة هذه الزيارة، أي إن كانت رسمية أم شخصية، بعد عدم موافقة مجلس الوزراء عليها، فلا يغني ولا يسمن من جوع، ولا يستطيع أن يلغي مفاعيلها السياسية الحاصلة على أرض الواقع.
تجري هذه الزيارة في أغسطس/آب 2017، في ظلّ سيطرة إيرانية -إمّا مباشرة من خلال الحرس الثوري الإيراني، وإما بواسطة الميليشيات المذهبية التابعة لها- على أجزاء واسعة من سوريا، كما أن الزيارة تحصل بعد أن أعلنت ماكينة حزب الله الإعلامية انتصاره في معركة جرود عرسال على هيئة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وبعد أن أسقطت هذه الماكينة الإعلامية أدبيات "الحشد الشعبي" -كحام مقدّس للكيان- على الواقع اللبناني، وأن قامت بتخوين كلّ من سوّلت له نفسه الاعتراض على ما يقوم به الحزب، لا سيما عندما يكون الاعتراض من باب ضرورة حصر السلاح بيد الدولة وحدها.
وتأتي هذه الزيارة في سياق من إعلام البروباغندا المشابه لما جرى في أغسطس/آب 2006، عندما أعلن حزب الله انتصاره على إسرائيل في حرب تموز من ذاك العام، واستثمر إقليمياً هذا الانتصار بإهدائه إلى محور الممانعة، أولاً إلى إيران التي كانت مأزومة في مفاوضاتها حول الملف النووي، وثانياً إلى رئيس النظام السوري لتعويمه عربياً بوجه خصومه من المحور العربي المقابل، فتلقّف وقتها بشار أسد هذا "الانتصار"، وألقى خطابه الشهير الذي نعت فيه الرؤساء العرب بـ"أنصاف الرجال".
أمّا فرض التطبيع القسري مع النظام السوري من خلال هذه الزيارة، فمفاده محاولة قهر إرادة قسم كبير من اللبنانيين الذين عانوا الأمرّين من النظام السوري، والاستهزاء بمشاعر اللبنانيين -لا سيما من أبناء الطائفة السنّية- الذين يتضامنون مع إخوانهم السوريين فيما يتعرّضون له من حرب همجية من قبل هذا النظام، خصوصاً مع ما رافق الزيارة من إزالة لليافطات المعترضة عليها في طرابلس (شمال لبنان)، وكأنّ المطلوب هو التسليم بنظرية حلف الأقليات في الإقليم ومبدأ الحمايات الميليشياوية المذهبية، والتخلّي عن منطق الدولة الجامعة التي يجب أن تحمي جميع مكوناتها ومواطنيها.
والمقصود أيضاً من هذه الزيارة، التي ضربت بعرض الحائط عدم موافقة مجلس الوزراء ورئيسه عليها، هو إظهار رئيس مجلس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، بمظهر الضعف، وأنّه غير قادر على ضبط الإيقاع الحكومي، أو على فرض سلطته على الوزراء بصفته مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء (المادة 64 من الدستور)، لا سيما أن الزيارة تأتي في ظل تخلٍّ عربي واضح عن لبنان، وبعد سلسلة من التنازلات من قِبل الحريري وفريقه، خصوصاً منذ التسوية التي أتت بالعماد عون -حليف حزب الله- رئيساً للجمهورية.
مع هذا التطبيع القسري الذي ترسيه هذه الزيارة، من الجلي أن سياسة اليد الممدودة وثقافة الاستسلام التي تنتهجها أحزاب "14 آذار" المشارِكة في الحكومة قد أثبتت عقمها؛ هذه السياسة غير قادرة على النهوض بالبلد رغم كل التنازلات؛ لأن الفريق الآخر لا يسعى إلى الشراكة في الحكم؛ بل إلى التسلّط والتفرّد بالخيارات المصيرية في لبنان، خدمةً لمحور الممانعة الذي ينتمي إليه هذا الفريق.
في ضوء هذه المعطيات، تصبح الاستقالة من الحكومة أفضل من البقاء فيها. أمّا الفريق الذي يحاول فرض إرادته على باقي اللبنانيين، فمن الجائز تذكيره بأنّه، نظراً إلى تعقيدات الواقع اللبناني وتشعّباته، كان دائماً من الصعب، لا بل من المستحيل فرض منتصر مزهوّ بنفسه في لبنان، فقد أثبت هذا البلد مراراً أنّه عصي على الإخضاع، أو على هيمنة فئة معيّنة، أو على قمع الحريات فيه، لا سيّما أنّ رماله المتحرّكة قادرة على أن تبتلع الجميع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/sagi-sinno/story_b_17787598.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات