الأحد، 17 سبتمبر 2017

منمنمات

منمنمات

يقول "عبد الصمد": لا تُستساغ الدنيا دون نَزَق وتهوُّر..
قال "عبد الصمد": ما الدنيا إلا استثناء من العدم، كما أن النور استثناء من الظلام.

هزّ "عبد الصمد" رأسه أسفاً، وقال: سيئ أن تعيش حياتك على الهامش، لكن الأسوأ أن تعيشها كبطلِ رواية يحترق بنيران كاتبها أو قرّائها.

طاف "عبد الصمد" بشوارع الحي مرّات استعصت على العدّ حتى نال منه التعب، فأشفقتُ عليه وسألته: لم ترهق نفسك هكذا؟
فقال: إنما الهوى لمن هوى.

رأيت "عبد الصمد" يسير على أطراف أصابعه وينظر إلى موطئ قدميه وقال: أخشى أن أطأ النمل في بيوته فأتجرع الحسرة ما حييت.

انقطع "عبد الصمد" عن زيارتنا فترة تجاوزت الشهر، فذهبنا لرؤيته، اقتربنا من بيته وسمعنا غناءً عذباً ينبعث من الداخل، صوت أقرب لهديل الحمام وتنفّس الصُبح، طرقنا بابه فقيل لنا: لا مرحباً بكم.

سألت "عبد الصمد" أن يأتي معنا لتقديم واجب عزاء في فقيد، فقال: وهل يجوز لفقيد أن يُعزّي في فقيد؟!

سألت "عبد الصمد": ما الإنكار؟
قال: أن ترى الشيء بعينك فقط.
- وما الكُفر؟
قال: أن تُنكر وجود الحق رغم وضوحه كشمس في كبد السماء.


رأيت "عبد الصمد" يلهو مع أطفال الحي وكان أكثرهم مرحاً وصياحاً، ثم توقف وقال: يكره اللهو مع الأطفال من يكره الحياة.

بعودتي عصر يوم، شاهدت "عبد الصمد" يحمل بيديه جمرات يرمي بها بيت أحدهم، سألته عمّا يفعل؟
فقال: مخطئ من يظن أن رجم إبليس في الحج فقط!

ذهبت يوماً للمقابر مع "عبد الصمد" حتى توقف أمام قبر مهجور تساقطت جدرانه، ثم انخرط في بكاء شديد، وتلا ما شاء من آيات الذكر الحكيم، فسألته: تعرف صاحبه؟!
قال: لا، وجدته مهجوراً فأردت أن أؤنس صاحبه في وحدته بعد أن هجره أهله.

عقب صلاة الجمعة الماضية، وقف "عبد الصمد" وسط الميدان، وصرخ في الناس: أقيموا الصلاة. فنهره البعض وسخر منه آخرون، بينما سيطر وجوم وفزع على وجوه بعض العارفين.

"عبد الصمد" ربما أعرفه منذ زمن، أو قابلته مؤخراً صدفةً كما نقابل يومياً كثيراً من الناس، لكن تبقّى أن علق بالذاكرة، فتتبعته بدايةً ثم تبعته واتخذته هادياً ومرشداً، يسمو بقامته فأراه أحياناً فوق البشر بكثير، تقطر الحكمة من فيه وأحياناً يهوي في مدارج اللهو فيتجاوز الصبية في نزقهم.. سمعته وشاهدت تصرفاته فكتبت عنه كما رأيت وسمعت.

جمعني و"عبد الصمد" جلسة ختم "القرآن الكريم" على روح فقيد زميل، بنهاية اللقاء مُدّت مائدة الطعام وقد حوت أشكالاً مختلفة من لحوم وحلويات، فرأيته يصول ويجول على المائدة وسط دهشة الحضور، ثم قام وحمد الله كثيراً وقال: للفقيد الرحمة، ولأهله الصبر والسلوان!

ألقى "عبد الصمد" جريدته على طول ذراعه والغضب يعتريه وقال: صراع "الأفيال" أو لهوها كارثة على رؤوس الحشائش.

مرّ "عبد الصمد" ذات يوم بجمع من الناس يتوسطهم أحدهم يخطب فيهم بحماسة شديدة، فتفُل عن يساره ثلاثاً ومضى.

رأيت "عبد الصمد" يلهو بأرجوحة صنعها بين جزعي شجرتين متجاورتين بالخلاء وهو يشدو قائلاً: كن مع الحياة وتأرجح معها فبكَ أو معك تلهو.

نهض "عبد الصمد" وقد زاده صمته جلالاً ووقاراً، وقال بصوت عذب: الحياة منحة ولا تنتهي بالموت.
سأله أحدهم: لكننا سنموت!
قال: الموت هو انقطاع الآثار فاترك أثراً وراءك كي تظل حياً.

التقيت صديقاً فوجدت ضحكته الصافية قد غادرت وجهه وحلّ مكانها كدر غريب لا يستقيم مع شخصيته.
سألته عن سر شروده وضيقه؟
فقال: انظر إلى الطبيعة من حولك، فإن وجدت نسمة هواء نظيفة فاطلب ما تشاء.
قلت: حقاً ما قلت، وبينما نئنُّ من وطأة شرودنا سمعنا من بعيدٍ "عبد الصمد" يصيح: من أعمالكم سُلّط عليكم.

رغم جبروت "عباس" فتوّة الحي وطاغيته، فإنه كان يرتعد كفأرٍ عندما يرى "عبد الصمد" ضعيف البنية، الصامت أغلب الوقت الشارد الذهن، وقد استغربت بشدةٍ ذلك، فسألت "عبد الصمد"، فقال وعلى محيّاه شبح ابتسامة وأَدَها مبكراً: من قلب العتمة يبزغ النور.

لا أعرف مكاناً محدداً يقيم به "عبد الصمد"، لكن كلما رغبت في رؤيته تسوقني قدماي إليه حتى أجده أمامي، وقد سألته كثيراً عن عنوانه فقال: عنواني حيث يسوقك قدرك وتقودك قدماك.

ذهبت وصديقاي لرؤية "عبد الصمد " في خلوته التي تقع على أطراف المدينة بمنطقة نائية تخلو من صنوف الحياة التي نعرفها، ونسير على غير هدىً حتى يرأف بنا، فنراه جالساً تحت شجرة أو قابعاً خلف صخرة كبيرة، فإن التقت عيوننا به، هبّ مرحِّباً بنا.

سألت "عبد الصمد" عن اختفائه بالنهار وظهوره ليلاً فقط؟
فقال: لا يستقيم النهار إلا بشمس واحدة.

سألت "عبد الصمد": أجدُك مِقداماً، ألا تخاف؟
قال: من لا يخاف هم الموتى.



ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mahmoud-hamdoun/story_b_17961664.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات