السبت، 30 سبتمبر 2017

ورحل الفارس النبيل "عاكف".. ويبقى الأثر

ورحل الفارس النبيل "عاكف".. ويبقى الأثر

الرجال في كل عصر لهم علامات وآثار، والمخلصون منهم يتركون أثراً واضحاً في عموم الناس، ويسير حبُّهم في الوجدان، فالرجل الصالح يترك أثراً صالحاً أينما حلّ، والمؤمن كالغيث أينما حل نفع.

والأستاذ عاكف -يرحمه الله- من القلائل الذين اجتمعت عليهم القلوب، فأحبّه كل من عرفه وتعامل معه، سواء كان من الإخوان أو من غيرهم، أو حتى من يعاديهم مع الإنصاف.

والإنسان حينما يقرأ قول الله عز وجل: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" (سورة الأحزاب: 23)، يتذكر كل الذين أوفوا بما عاهدوا الله عليه من الصبر على البأساء والضرّاء، وحين البأس. وأحسب أن الأستاذ عاكف من هؤلاء ولا نزكِّيه على الله وهو حسيبه.

حينما خرج الأستاذ عاكف من السجن في عام 1974، لم يمكث كثيراً في مصر وذهب للعمل مستشاراً للندوة العالمية للشباب الإسلامي في المملكة العربية السعودية، وكان له نشاطه الواضح في توعية الشباب وتربيتهم على الإيمان والعمل الجاد، وحينما شعر بمحاولة تهميشه، قدّم استقالته فوراً، وانتقل إلى ألمانيا حيث عمل مديراً عاماً للمركز الإسلامي بميونيخ، قبل أن يعود إلى مصر ليُنتخب عام 1987 عضواً في مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان وعضواً في مجلس الشعب المصري، وقد عُرف بنشاطه وحيويته، وحبه للخير والسعي في قضاء حوائج الناس.

وكانت لي بعض المواقف عشتها مع الأستاذ عاكف وكانت لها عظيم الأثر في نفسي ووجداني، حيث كان لي شرف القرب منه منذ عام 2002، وكنت -حينئذ- رئيساً لتحرير موقع "إخوان أونلاين"، من هذه المواقف:

الموقف الأول: كان الأستاذ عاكف عضواً في مكتب الإرشاد، وذات يوم أردنا عمل حوار معه للموقع، واتفقت مع المصور أن نذهب صباحاً في الموعد الذي حدده الأستاذ عاكف، ولكن -للأسف- المصور تأخر عن الموعد 10 دقائق؛ ومن ثمّ ذهبنا متأخرين عن الموعد، فإذا بالأستاذ عاكف يُظهر غضبه وامتعاضه لتأخُّرنا، حيث كان من صفاته الانضباط في الموعد، لا يتأخر عنه ولا يتخلف، وقال لنا: هل الشباب الذين يتأخرون في الموعد قادرون على بناء أمة؟!

الموقف الثاني: يدل على حرصه وتمسُّكه بمبدأ الشورى، حيث كانت بالنسبة له مُلزمة، حينما تم انتخابه في يناير/كانون الثاني 2004 مرشداً عاماً لجماعة الإخوان المسلمين، وكُنت جالساً مع بعض الزملاء في الغرفة المجاورة، علمت أنه أصرّ بعد انتخابه على عدم اعتماده مرشداً إلا بعد أخذ رأي إخوانه المسؤولين في التنظيم الدولي، وحينما جاءت الموافقة بالإجماع، قال: الآن أتحمل المسؤولية وأنتم جميعاً معي لخدمة دعوتنا وأمتنا.

الموقف الثالث: يتضح فيه حرصه على قول كلمة الحق وصلابته في مواجهة الظالم حتى لو كلّفه ذلك حياته، ففي يوم 16 مايو/أيار 2004، تم اعتقال مجموعة كبيرة من الإخوان من 7 محافظات، وكنت الوحيد من محافظة الجيزة ضمن هذه المجموعة؛ لرئاستي تحرير موقع "إخوان أونلاين"، ووُجهت لنا تهم مضحكة، منها قلب نظام الحكم، وإرسال كوادر إلى أفغانستان والعراق لتدريبهم على حمل السلاح للعودة لإقامة الخلافة الإسلامية!

وفي إحدى جلسات العرض على النيابة، أصيب المهندس أكرم زهيري بجروح جرّاء سرعة سيارة الترحيلات وهو بداخلها، وكان يعاني مرض السكري، ولم يتم إسعافه، وتعنّت ضابط المباحث في السجن، وكان اسمه محمد العشماوي، ورفض عرضه على الطبيب؛ مما أدى إلى وفاته. وحينما ذهب الأستاذ عاكف لتقديم واجب العزاء لأهله وإخوانه في الإسكندرية خاطب مبارك قائلاً: "أنا وأنت من العمر نفسه.. وأقف أنا وأنت على أعتاب الدار الآخرة، فلنستعد لما نقدمه".

الموقف الرابع: يدل على عمق حبه لكل من يقترب منه، وتفقُّده أحواله، والسؤال عنه. ذات يوم في أحد الأعياد بعد صلاة العيد، وجدت جرس التليفون يرن، فإذا به الأستاذ عاكف قائلاً: كل سنة وأنت طيب يا ولدي، كيف حالك وحال أولادك؟ سلِّم عليهم جميعاً. شكرته شكراً جزيلاً، وقلت في نفسي: ما هذه الشخصية الجميلة التي تجبرك على حبها والقرب منها. وهذا الموقف كان له بالغ الأثر في نفسي وعلى أولادي، وأصبحت عادة مطردة.

الموقف الخامس: كُنت في زيارة لدولة الكويت لحضور زواج أخي هناك في عام 2009، ومكثت نحو أسبوعين لا أتصل بفضيلته، فإذا بي أجده يبادر يالاتصال والسؤال عليّ، وقال: أين أنت يا ولدي؟! وقال عبارة باللغة العامية المصرية تدل على أنني جافيته ولم أتواصل معه، حيث قال: "لماذا لم تتصل بي يا برّاوي؟!"، هكذا كانت مشاعر الرجل مع من يقترب منه، مشاعر تفيض بالحب والحنان.

الموقف السادس: مع الصحافة والصحفيين، كانت طريقة الأستاذ عاكف تتسم بالبساطة وعدم التعقيد، ولم يهتم بالبروتوكول الخاص بالمرشد، وقد اختلفت معه في ذلك، فإذا أراد أن يتواصل معه أي صحفي أو صحفية لا يجد مشقة في الوصول إليه والحديث معه، وكان جريئاً، يطرح ما يقتنع به بكل قوة وصرامة.

ولم يكن كما روّج بعض الحاقدين على الإخوان، بأنه ليس وطنياً! قلت لهم: كيف لرجل مضى في السجن، حينها، ما يقرب من 24 عاماً دفاعاً عن وطنه ودعوته، مناضلاً من أجل تحريره من الإنكليز، وساعياً للإصلاح والتغيير في مصر أن يكون هكذا؟!

كانت هذه مواقف خاصة، وهناك مواقف أخرى عامة، كان لها تأثير كبير في دعوة الإخوان المسلمين ومصر والعالم، منها:

الموقف السابع: حرصه على إنقاذ مصر وتقديمه مبادرة للإصلاح الداخلي، فلم يمكث في منصبه أكثر من 3 أشهر، إلا وطرح مبادرته الشهيرة في 3 مارس/آذار 2004، وكان من أهم ملامحها:

أن "الإخوان المسلمين يرفضون كل صور الهيمنة الأجنبية ويُدينون أشكال التدخل الأجنبي كافة في شؤون مصر والمنطقة العربية والإسلامية، والإصلاح الشامل هو مطلب وطني وقومي وإسلامي، وأن الشعوب هي المعنيّة أساساً بأخذ المبادرة لتحقيق الإصلاح الذي يهدف إلى إنجاز آمالها في حياة حرة كريمة ونهضة شاملة وحرية وعدل ومساواة وشورى.

والبداية يجب أن تكون من الإصلاح السياسي، الذي هو نقطة الانطلاق لإصلاح بقية مجالات الحياة كلها والتي تُعاني في مصر والوطن العربي والإسلامي تدهوراً متسارعاً يكاد يصل بنا إلى القاع.

إن القيام بريادة هذا الإصلاح لا تقوى عليه حكومة ولا أي قوة سياسية منفردة؛ بل هو عبء يجب أن يحمله الجميع، وإن المصالحة الوطنية العامة التي تؤدي إلى تضافر الجهود جميعاً هي فريضة الوقت، ليس لمجرد الوقوف ضد المخططات الهادفة إلى استباحة المنطقة؛ بل للنهوض من عثراتنا وعلاج مشكلاتنا. وتُبنى هذه المبادرة على:

بناء الإنسان المصري، ومكافحة الفقر، والإصلاح السياسي، والإصلاح الاجتماعي، والإصلاح الاقتصادي، والإصلاح القضائي، والإصلاح الانتخابي، والاهتمام بالمرأة والإخوة الأقباط، والتعليم والبحث العلمي، وإصلاح الأزهر الشريف".

الموقف الثامن: حرصه على الدفع بإخوانه لتحمُّل المسؤولية، وضرب المثل لكل القوى السياسية في مصر أن الإخوان يمثلون النموذج في تداول السلطة بشكل سلمي، وكان ذلك بعد انقضاء مدته الأولى كمرشد عام للإخوان في اعام 2010، واللائحة الداخلية للإخوان تتيح له مدة ثانية لمدة 6 أعوام أخرى، ولكنه رفض الاستمرار في موقعه، رغم كل الضغوط التي مارسها الإخوان عليه للاستمرار في موقعه، ولكنه أصرّ، ولم يرجع عن موقفه. وبالفعل، تم انتخاب مرشد خلفاً له وهو الدكتور محمد بديع، فكَّ الله سجنه ومن معه، ورجع الأستاذ عاكف خطوة إلى الوراء عضواً في مكتب الإرشاد.

الموقف التاسع: حينما قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني في عام 2011، وشارك الإخوان فيها مع الشباب وعموم الشعب المصري، تقدّم الإخوان بعد ذلك إلى الانتخابات التشريعية، وكانت لهم الحظوة في الحصول على عدد كبير من المقاعد في مجلسي الشعب والشورى، وحاول الإخوان الدفع بشخصية من خارج الإخوان للترشح للانتخابات الرئاسية، ولكنهم لم يفلحوا في ذلك، فقرروا خوض الانتخابات الرئاسية بمرشح إخواني، وكان الأستاذ عاكف من أشد المعارضين لذلك.

وبعد أن قرروا خوض الانتخابات نتيجة لقرار مجلس الشورى العام، سكت الأستاذ عاكف عن رأيه، وتبنَّى رأي إخوانه بعد ذلك. وهذا يدل على تجرد الرجل وتمسكه بالشورى مهما خالفت رأيه.

الموقف العاشر: موقفه من السيسي ومن حوله، لم يكن الأستاذ عاكف مستريحاً لشخصية السيسي، وحذّر منه مبكراً، وحينما وقع الانقلاب العسكري في مصر عام 2013، شعر الرجل بالحزن الشديد على دولة كبيرة مثل مصر لما نالها من الحكم العسكري.

ولكن السيسي لم يمهله وقام باعتقاله من بيته في التجمع الخامس، ووضع زبانية السيسي أسلحة في بدروم بيته لإيهام الناس أنه يحمل السلاح، ولفّق له تهماً عجيبة، وشهد العالم كله التعنت الشديد معه في السجن، وعدم السماح له بالعلاج المناسب، وهذه الطريقة القاسية، الخالية من أي رحمة، التي لقيها الأستاذ عاكف؛ جاءت كنوع من الانتقام والإهانة لبطل عاش مناضلاً ومات مكافحاً.

وطُلب منه أن يكتب بخط يده التماساً بالعفو والرحمة من السيسي للإفراج عنه والاعتراف بحكومته؛ لكنه رفض فعل ذلك، كما رفضه أيضاً بشبابه في أثناء حكم جمال عبدالناصر، وقال إنه لن يفعل ذلك في سن الشيخوخة ويفضّل أن يموت بكرامة في زنزانة السجن عن الإذلال في منزله.

هذه بعض المواقف لهذا الفارس النبيل المناضل الداعية شيخ المجاهدين الأستاذ عاكف، أسأل الله -عز وجل- أن يسكنه فسيح جناته ويحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.



ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/gamal-nassar/post_16046_b_18146470.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات