الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

ليتهم جميعاً عماد جاد!

ليتهم جميعاً عماد جاد!

أكثر الدساتير المجتمعية صرامةً، هي التي لا تُدون على الورق، بل لا يعترف بها أحد إذا سألته عنها، ولا يستطيع المرء أن يجاهر بها مثلاً، أو يناقش صحتها من عدمها، إلا أن جميع أفراد المجتمع يعرفونها، ويلتزمون بها، ويعرفون الطرق الآمنة للخروج عنها إذا لزم الأمر.. المهم أن يظل الفرد ملتزماً بالقواعد؛ ليضمن انتماءه للقطيع. مثلًا؛ كانت قوانين المافيا في أميركا، في مطلع القرن الماضي، تحكم أحياء كاملة، بل امتد الأمر لخضوع ولايات كاملة لسيطرة زعماء المافيا الإيطالية، والشرطة تمثِّل ادعاء السيطرة وتطبيق القانون، وأفراد الأحياء الفقيرة يعرفون القوانين غير المدوّنة، يعرفون أكثر مما يعرفون القوانين النظامية، ويهابون سُلطة زعيم المافيا أكثر مما يهابون سُلطة حاكم الولاية.. الكل يعرف، ويلتزم، ويطيع.. ولا يقدر على المجاهرة بقواعد اللعبة؛ المهم أن نحافظ على الشكل المتفق عليه.


هكذا يتسامح المجتمع مع مَن تضع "الطرحة" فوق شعرها، وإن كشفت باقي ملابسها أكثر مما تخفي؛ فمعيار الشرف الأخلاقي مرتبط بـ"الحجاب" الذي تم اختصاره في قطعة قماش تغطي الشعر، بغض النظر عن باقي ضوابطه.. أما السافرة بلا حجاب - أو "طرحة" في واقع الأمر- فخارج نطاق الرحمة الأخلاقية للأبد، بغض النظر عن أي شيء آخر.. وهكذا يتسامحون مع التحرُّش الجنسي؛ بمنتهى السلام النفسي تُلام الفتاة المتحرَش بها، ويُترك المتحرّش ليكمل يومه في سلام، ويجد مئات المتطوعين لتبرير جرائمه.. جرّب مثلاً أن تسير وقد وضعت يدك على كتف زوجتك- مثلاً- وراقب نظرات اللوم والكراهية التي ستجد نفسك محاطاً بها، وربما يتطور الأمر أن تسمع بعض التعليقات المؤذية لكما، بينما لو أمسك أحدهم صدرها، رغماً عنها، وفرّ ضاحكاً على دراجته النارية، بين ضحكات واستهزاء نفس المارة والمشاهدين، دون أن يحاول أي منهم أن يساعدها.. بالمناسبة التعيسة، حدث هذا الموقف بالضبط، بنفس المفارقة بين مشهديه، مع أحد أصدقائي.

قواعد اللعبة المختلّة ازدواجية المعايير معروفة.. ويُطلق عليها لفظ للتدليل في العلن اسمه "التركيبة العجيبة الجميلة للمجتمع المصري".. ومن يَخرج عن القواعد المعروفة يُسحق بلا رحمة، كما هو معروف.

مثلًا كيف يجرؤ أن يخرج شيخ أزهري، الشيخ والمنشد ذو الصوت البديع "إيهاب يونس"، على شاشة التليفزيون، مرتدياً زي الأزهر وعمامته؛ ليغني لأم كلثوم؟! صحيح أن قرّاء مصر العظام كانوا دارسين للموسيقى؛ لأن احتراف تلاوة القرآن وترتيله يتطلب معرفة وإلماماً جيداً بعلم المقامات الموسيقية؛ مثلًا الشيخ عبد الباسط عبد الصمد كان يعزف على العود، والشيخ "محمد عمران" له أكثر من تسجيل وهو يغني لأم كلثوم، إلا أن كل هذا كان مسموحاً به في الماضي! قواعد اللعبة اختلفتْ الآن؛ صحيح أننا لا نُحرّم الموسيقى في العلن، وكانت استوديوهات الفضائيات- أيام حكم د. محمد مرسي- تقضي آناء الليل وأطراف النهار تسلخ في الإسلاميين السيئين الذين يحرّمون الموسيقى والفنون، لكن مَن قال إن الأزهر يمكن أن يرحم الشيخ إيهاب يونس؟ أُحيل للتحقيق، وأوقف عن العمل، وتم سلخه على صفحات الجرائد؛ فزي الأزهر الشريف لا يمكن أن تدنسه الموسيقى، يُسمح فقط بتدنيسه بفتاوى دعم الاستبداد، بل يُفضل أن يُسبّح مرتادوه بحمد الحاكم، وإن أراق الدماء وأشاع المظالم، بل ندعو له بالمزيد من التوفيق في إراقة الدماء إن لزم الأمر.

قوانين اللُعبة عموماً تسمح للأقوياء بخرقها، لكنها تسحق مَن لا يمتلك الحماية إن حاول تجاوز حدوده.. يعني مثلاً لا مانع من أن يلوّح ضباط الأمن بأصابعهم الوسطى في أوجه المتظاهرين، لا بأس من أن يقف أحدهم ليتبول فوق رؤوس المتظاهرين عند المجمع العلمي.. لكننا ننتفض غضباً وتقززاً عندما يقول الممثل "أحمد الفيشاوي" لفظاً يعبر عن تقززه من سوء شاشة العرض في مهرجان "الجونة" السينمائي.. اللطيف أن المذيع "عمرو أديب"، الذي شنّ هجوماً لاذعاً على الفيشاوي بسبب فعلته، هو نفس المذيع الذي سب الإسلاميين- المتجمهرين أمام مدينة الإنتاج الإعلامي- بأمهاتهم، على الهواء في برنامجه، منذ أربع سنوات تقريباً. سُبة بذيئة يعرفها المصريون جيداً، لكن بالطبع تناسى الجميع فعلة المذيع اللامع؛ فهو يُروِّج للطرف الأقوى الآن، ويحظى بحمايته.

وهكذا صُدم الجميع عندما كتب عضو البرلمان "عماد جاد" في صحيفة الوطن، مدافعاً عن لقاء السيسي برئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو"، وتحدث عن وجوب الاعتراف بالدور الفعّال الذي لعبته إسرائيل في إنجاح "ثورة 30 يونيو"، وأن اتباع العقلانية في تقييم الأمور هو الحل، وليس الشعارات الحنجورية.. تلقى "عماد جاد" الكثير من السباب المندهش؛ لأنه قال ما يعرفه جميع المقرّبين من السلطة وكل رجالاتها، لكنهم لا يجرأون على إعلانه بمثل هذه الصراحة الفجّة. نفس الانحطاط الذي عبّر عنه "عماد جاد" في مقالته يُقال ويُفعل على أساسه أضعاف أضعافه.. بالنسبة لي على الأقل، "عماد جاد" خصم جدير بالاحترام أكثر من "مصطفى بكري" وأمثاله، من المتغنين بالقومية والعروبة، وهم يُسبّحون بحمد أميركا وإسرائيل في الغرف المغلقة.

أعتقد أنه لو امتلك المجتمع المصري شجاعة إعلان ما يقولونه في الغرف المغلقة، بعيداً عن الأعين، لانتهت الكثير من مشاكل ازدواجيتنا المُهلكة، ازدواجية المجتمع الأخلاقوي في العلن، الذي يتسامح معك طالما تفعل ما تفعله في الخفاء؛ فينخر السوس في أساساته كلها، حتى كاد بنيانه أن ينقض فوق رؤوسنا جميعاً.



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/ahmed-medhat/story_b_18107506.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات