الثلاثاء، 19 سبتمبر 2017

موقف فاضح

موقف فاضح


"سبحان الله.. في النفس: كِبرُ إبليس، وحسدُ قابيل، وعُتُوّ عاد، وطغيانُ ثمود، وجرأة النمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقِحة هامان، وهوى بلعام، وحِيَلُ أصحاب السبت، وتمرّد الوليد، وجهلُ أبي جهل.."
ابن القيم - الفوائد

.


(1)

حكاية تُنقل في كُتب السلوك والتصوف أن رجُلاً ظل عشرين عاماً يُصلي في الصف الأول ولم يتخلّف مرة، وفي يوم تأخر يسيراً فصلى في الصف الثاني.

فلما انتهى من صلاته نظر إليه الناس فوجدوه في الصف الثاني، فخجل من نفسه أن قد رأوه في الصف الثاني، فعلم أن فرحه في عشرين مضت كان بنظر الناس إليه.

وهذا هو الحال مع كثير من معاني الحياة، لا تنكشف إلا بمواقف كاشفة، وإن شئنا الدقة فلنسمّها (فاضحة).

مواقف تفضح الإنسان أول ما تفضح أمام نفسه، تجعل الخجل يعتريه كلما نظر لنفسه في مرآة الزمان.
مما يُروى (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ونزيد بأن (الناس في عافية فإذا اُختبروا = انكشفوا).
وهذا المعنى هو معنى الحياة الأول: نُبلى ليعلم ربنا -علماً يُحاسبنا عليه- أيُنا أحسن عملاً!

وفي الأحباب مختص بوجد ** وآخر يدعي معه اشتراكا
إذا اشتبكت دموع في خدود ** تبين من بكى ممن تباكى
فأما مَن بكى فيذوب شوقاً ** وينطق بالهوى مَن قد تباكى

(2)

المُثل العُليا.. الحِكم العظيمة.. المعاني النبيلة.. الحكايات التي تطرب لها أرواحنا.. والتي تمنينا أن نصير أبطالها في التضحية والفداء يوماً.

المعاني التي تُصوغ لنا الحياة في قالب سماويّ نعانق فيه القمر = ما يلبث كثيرٌ من هذه المُثل أن يتلاشى في لحظة اختبار حقيقية.

لحظة وموقف وكلمة وفعل تخبرنا جميعها أننا وثقنا في الأشياء من حولنا أكثر من اللازم، ووثقنا في الأشخاص أكثر من اللازم، وثقنا في أنفسنا دون داعٍ!

وأن ثقتنا هذه كان لا بد لها من أن تُختبر ليُعلم صدقها من زيفها.
يثق البعض في قوتهم.. في أنهم أقدر.. أجمل.. أفضل.. أخلص.. أرحم.. أكرم.. أعف..
يظنون أن (أفضل) التفضيل قد نحتها العرب لأجلهم.. وعند المَحك تظهر المعادن، فالناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام.

تظهر الأنانية والأثرة محل الإيثار والعطاء، والبخل محل الكرم، والشُّح محل الإنفاق، الضعف الذي يُلام عليه محل الجِدّ والقوة، والقبح القابع في خبايا النفوس يلوح بوجهه حتى يُغطي جمال الروح.. يخرج قبيحاً كعادته دوماً، مثله كقُبح أم قتلت صغيرها بيديها لأجل كرهها لضحكاته، يجد الناس القسوة تغلب الرحمة، والشر يغلب الطيبة، يجدون مُثلهم التي كانوا يظنون قد ذابت جميعها.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

(3)

ليس الأمر أننا تغيّرنا من الأحسن للأسوأ كما يحلو للبعض أن يطلق في هذه الحادثات الفاضحة.
إنما الأمر في أننا لم نُختبر من قبل.. لم ندرِ هل صدقاً وحقاً نستطيع أن نعيش ما نؤمن به أم أنها موجات من الأوهام صدقناها بغير برهان.

كان صديقي عفَّ اللسان، نزيه اليد، لم نعهد عليه سوءاً. غالب الظن أنه ظن أن حياته لن تتلوث قط. قدر الله عليه وقضى بأن يترأس على أُناس وملك فوقهم سُلطة. لم أرَ صديقي لشهور طويلة. لكن أحد هؤلاء المرؤوسين كان من الأصدقاء هو الآخر حكى لي عنه..

حكى عن إنسان يتفوه بأقذع الشتائم ليل نهار، يقذف أمهاتهم، يسب الديانة، لا يركع ركعة بينهم.
وبيننا هو التقي النقي.. لا يُظهر من ذلك شيء ولا نستريب فيه.

لما سمعت هذا علمت أن صديقي لم يتغير عن سابق عهده بيد أن حاله هذا كان مدفوناً تحت الرماد فلما أتى الريح وانقشع الرماد تجرأ وظهر ما كان فيه مكتوماً.

وكل إنسان منا تحت رماده أمواج من الباطل والدَخَن والسوء.. فقط يحتاج لموقف كاشف ليُفضح أمام نفسه.

الابتلاءات صعبة ولا يقدر عليها كل الناس.. هذه حقيقة ينبغي أن نعلمها..
وأن كل إنسان يبتلى بما يُصلحه هو.. وهذه حقيقة أخرى قالها المقداد بن عمرو لرجل تمنّى مشهده بين يدي رسول الله.

علينا أن نعلم أن حبنا لذواتنا وحبنا لمن نحب حجب عنا الكثير من الرؤية، لم نرَ غير الخير بيدَ أن الناس ليسوا جميعاً على الخيرية التي كنا نظن، وأن طيبة قلوبنا لن نهدي بها العالم ولن نجعل البشرية في حال أطيب.

ربما عصمتنا قلوبنا -إن طهرت حقاً- من أن نقع نحن في الغواية كما غوت أغلب هذه البشرية.. وإن فعلت فقد فزنا حقاً.

ليس عبثاً أن يستعيذ النبي من شر نفسه وهو المُطهر المبرأ في خطبة الحاجة (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)، ويكرر استعاذته هذه في كل خطبة.. يكررها لأنه يعلم أن أنفسنا بها شرور تستحق الاستعاذة بالله منها.

الله القوي المتين الذي نلوذ به ونعوذ، وندخل في حماه بين مآسي هذه الحياة.
إبليس والدنيا ونفسي والهوى ** كيف الخلاص وكلهم أعدائي

الله الرحيم.. الله الكريم.. الله المستعان.



ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mohamed-fatouh-wally/-_13344_b_17992272.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات