الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

ضربة الوطن التي أوجعتني

ضربة الوطن التي أوجعتني

فتحت عينيّ.. كنت ممددة على فراشي غير قادرة على الحركة، فالآلام المبرحة في جسدي تزيد مع الوقت، ما كنت أقوى على القيام، ولكن كعادتي أقاوم وأقاوم، وهل أملك إلا مقاومة تغيظ أعدائي وتشد أزري، وتقوي عودي، وتعين من حولي من بناتي وأخواتي وطالباتي على المضي في الطريق مهما كانت الصعاب، وعلى الصمود برغم كل التحديات.

ولكن هذه المرة ألمي أشد، وجرحي أعمق، فما تعرضنا له فاق كل ما سبق، وتجاوز فيه الظالمون كل الحدود.

تحاملت على نفسي، وقاومت لأستطيع أن أرقد على سريري في مواجهة مرآة كبيرة، فزعت لما رأيت حالي، فكثرة البكاء جعلت عينيّ منتفختين، ووجهي شاحب اللون، نظرت لنفسي لأرى إنسانة مختلفة تماماً عما كنت عليه منذ يومين، نظرت في المرآة واقتربت أكثر وأكثر، وعادت بي الذاكرة لذلك اليوم الذي غير فيّ الكثير، وتذكرت...


استيقظت في صبيحة يوم الأربعاء الموافق 27/ 5/ 2015 كعادتي مهمومة، لكن نشيطة، فلدي الكثير من العمل الثوري في هذا اليوم، أعددت اللوحات، رتبنا موعد النزول ومكان وقوفنا، فمنذ فض رابعة ونحن مستمرون بالنزول في الميادين والسلاسل البشرية لمقاومة الظلم والظالمين، وإيقاظ الضمائر والغافلين، وإظهار قوة بأسنا وعزيمتنا للشامتين، شعارنا (أروا الله من أنفسكم خيراً، وأروهم من أنفسكم بأساً وقوة)، وغايتنا (معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون).

نزلنا هذه المرة مكاناً جديداً، فلم نقف في مكاننا المعتاد، بدأت أخواتي وبناتي في التوافد والقدوم جماعات وأفراداً، من بعد صلاة العصر.

كنا ننتظم صفا متراصاً وجهنا للسيارات والعربات القادمة ومن خلفنا خط السكة الحديد تليها الأراضي الزراعية.

وقفت أخواتي وكل واحدة منهن تمسك لوحة خُطّ عليها بعض عبارات الثورة والصمود، وأعلام مصر الحبيبة المغتصبة وأعلام رابعة ميدان الشهداء الأبطال، لنعلن بها صمود الثائرين وننادي بالحرية للمعتقلين.

تختلف ردود أفعال الناس من حولك، فمن مؤيد مساند يرفع علامات العزة والتحية، ومن معارض أو مخالف يرفضك، ولكن بإشارة أو تجهم يبدو على قسمات وجهه وهمهمات لسانه، أو بذيء ذي قلب ميت يسب الواقفين ويلعن الثابتين، يتفل عليك من شباكه أو يخرج من فمه ما هو أقذر مما ترى حولك من قمامة.


نقف في حدود الثلاثين دقيقة ثم نجمع حاجياتنا وننطلق عائدين.

عادة يكون معنا بعض الشباب والإخوة الكرام للحماية والحيلولة بيننا وبين السفهاء المتهجمين، ولكن الأغلب يكون من النساء بعد اعتقال الرجال ومطاردة الأبطال واغتيال الشهداء، فتجد من الصامدات الثائرات بنت الشهيد وأم المعتقل وزوجة المطارد، وأخت البطل..

لم تزد وقفتنا عن العشر دقائق وإذا بمجموعة من البلطجية والمخبرين يقومون بقطع الطريق والبدء بمهاجمة الأخوات، فأخذوا الأعلام وقطعوها وضربوا النساء بالعصي.

كان الهجوم في منتصف السلسلة، فانقسم الخط إلى جزأين؛ جزء في مقدمة المسيرة؛ حيث بدأ البلطجية بالهجوم فتجمع الإخوة والشباب للدفاع عن النساء في المقدمة، وجزء في مؤخرة المسيرة حيل بينه وبين التقدم ولم يعد أمامنا إلا عبور السكة الحديد.

وكنت مع مجموعة من أخواتي في نهاية المسيرة جاءنا أحد الإخوة على عجل قائلاً: "انزلوا بسرعة وتفرقوا في الأراضي الزراعية، البلطجية ضربوا الإخوة وخدوهم في ميكروباص على المركز".

ساعتها أسقط في أيدينا، نزلت بسرعة أنا وما يقارب اثنتي عشرة أختاً وطالبة جامعية وسط الحقول، كنت في نهاية المجموعة سبقتنا البنات وفوجئت بصبي لا يتجاوز العاشرة من العمر يركض وراء بنات الجامعة بعصا غليظة كدت أموت قهراً ركضت خلفه وأنا أكاد أجن كيف لطفل بهذه السن أن يكون بهذه الوقاحة، فأمسكت العصا من يده وجمعت ملابسه بين يدي وقلت له بغضب شديد: "إياك تمد ايديك على واحدة من بناتي وإلا هقطعك فاهم؟!".
جرى بسرعة باكياً بعد أن تركته وذهب في اتجاه البلطجية على الشارع الرئيسي، حاولنا بسرعة الانتشار ولكن نظرت خلفي فوجدت ثلاثة من البلطجية ومع كل منهم عصا غليظة يركضون نحونا، قلت لأخواتي: خلاص اتحاصرنا، خبأت هاتفي في ثيابي وترقبت ما هو آت...

كنا ثلاث متأخرات خلف المجموعة، جاء البلطجية وكان أحدهم يبدأ بالضرب بالعصا والآخر يتبع بضربة من كفه الغليظة على وجوهنا، بدأوا بالأخت الأولى فصرخت من الألم وتساقط زجاج نظارتها من شدة اللطمة، واتجهوا للثانية، كان أشد ما يؤلمني في هذا الوقت ضعفي وعجزي عن الدفاع عن أخواتي، أقبلوا عليّ فصرخت فيهم: "إياك تضرب تتشل إيديك"، وقفت متصلبة أمام ضرباته فلم أصرخ ولم أبدِ أي ألم.

كانوا من يجدون معها عصا أو شيئاً للدفاع عن نفسها لا يتركونها حتى يكسروا العصي على جسدها من شدة الضرب، فرمينا ما بأيدينا علّنا منهم نسلم.

سبقنا البلطجية للحاق ببناتنا، كنت أسمع صرخاتهن وبكاءهن من شدة الضرب وهجوم البلطجية عليهم.


وتفرقت بنا السبل، وانقطع بنا الطريق في الأراضي الزراعية، بقيت أنا وأخت واحدة معي حاولنا أن نتماسك ونسرع بالجري ونحن لا نرى أحداً من الأخوات نهائياً، وفجأة ظهر أمامي حيوان مسعور في صورة بشر، كان يرتدي ملابس الفلاحين ويمسك في يده خيزرانة طويلة ووراءه الولد ذو العشرة أعوام لا أدري من أين خرج ولا من أي طريق جاء وبعينين هما حمم الجحيم، قال: بتضربي الواد يابنت الـ *** علي الطلاق لأقطعك.
وبطاقة حيوان مفترس تهجم علي أنا وأختي كان يرفع يديه لتصافح عنان السماء ثم يهوي بخيرزانته على أجسادنا، كنت أشعر بلحم ظهري يتقطع، وكأن عصاه تضرب العظم لا اللحم، كانت صرخاتي والأخت المرافقة لي تملأ الفضاء، كنا نقفز عن الأرض من شدة الألم، وكأن الكون لم يبق فيه أحد يسمع ولا بشر يغيث..

وقف أشباه الرجال يتطاولون على امرأتين بلا شرف ولا رحمة ولا ذرة إنسانية..
حاولنا الإفلات من بين أيديهم وافترق الطريق لوجود ترعة مائية، فكنت وأختي في طرف وهم في الطرف الآخر يقذفوننا بالحجارة، نفادي أنفسنا بالانحراف أو الانخفاض تارة ويصيبنا بعض ما يقذفون تارة أخرى.

وجدنا نخلة فارتمينا تحتها فما عادت أرجلنا تحملنا من التعب، وإذا بحيوان آخر يخرج علينا ممسكاً مطواة فأمسك برقبتي ورقبة أختي المرافقة لي واضعا سلاحه على رقبتي، وقال: " أنا جاي بقى أقتلكم يابنات الـ***** بس قبل ما أقتلكم هغتصبكم وأقطعكم حتت"، كنت أرى جحوظ عينيه وأرى العروق النافرة من يديه وأنا أدفعه بما أوتيت من قوة، فتيقنت بأني وقعت بين يدي مدمن مخدرات لا يشعر بنفسه، قلت له وأنا أكاد ألفظ أنفاسي: "اتق الله خاف من ربنا احنا ما عملناش فيكم حاجة"، وبدون تردد قال لي: "أنا كافر ماعرفش حد اسمه ربنا"، فصرخت بصوتي المبحوح: ياااااااااارب أغثنا يااااااارب ما لي سواك.
رباه هذا غادر أدمى فؤادي الطاهر، رباه إني أرفض العيش بذل ضمه القهر المرير، رباه إني حرة قد ضاق بي الوطن الكبير.

جاءت مجموعة من البلطجية فسحبونا من بين يديه، وقالوا: سيب بنات الـ**** دول هنوديهم على المركز يلا يا بنت الـ**** إنت وهي..

خلع الشيطان غطاء رأسي وأختي وربطوها حول رقابنا وبدأوا يجروننا منها وهم ينادون بعضهم: "يلا بينا ع المركز".

عندها كان التعب قد بلغ مني مبلغاً ما عادت معه قدماي تحملاني، كان جسمي يرتجف، وأنا مستسلمة لمن يجرني، كنت أفكر في زوجي وابني وإخوتي، فقد بلغ وقتها شوقي لهم أقصى مداه، افتقدت حمايتهم ورعايتهم، ولا أدري لما تراءى لي أبي في جلبابه وعمامته الناصعة ولحيته البيضاء مع أفول شمس ذلك اليوم العصيب وكأنه يقف أمامي حزيناً.

آه يا أبتاااااه أتجرأ العبيد علينا لهذه الدرجة؟! الكريمات العفيفات تُكشف عوراتهن ويضربن ويسحلن في الأراضي، كم أشتاق يا أبت لضمتك وحنانك آااااه يا أبت لو رأيتني لكسرت أياديهم بل أعناقهم على ما فعلوا وما أجرموا.


وجدت رجلاً يقبل علينا من بعيد فلاح وكأنه كان يعمل في أرضه ولما سمع الأصوات أقبل، وبينما كان البلطجية يجروننا استنجدت به، وأنا أكاد أسقط من فرط التعب والألم: "الله يكرمك انجدنا من إيديهم يا عم الحاج، والله ما عملنا أي حاجة، خليهم يسيبونا".

وكأنه كان يعرف بعضهم فقال بحزم: سيبهم يا واد إنت وهو عيب كده بقى.
خلص حجابي من بين أياديهم وأخلى سبيلنا.

حاولنا التماسك وغطينا رؤوسنا وعدنا للهرب مرة أخرى.
كان بعض الشباب الغيور المرافقين لنا قد نزلوا للدفاع عن البنات وجدت شابين منهم اتجهوا نحونا، وكانت أصوات البلطجية مازالت قريبة وكلهم يحملون مطاوي وأسلحة بيضاء.

قال لي أحد الشباب: أمي أنتم بخير.
قلت له: الحمد لله لكن ابعد من هنا بسرعة يا ابني الله يرضى عليك، الكلاب دول لو مسكوكم هيؤذوكم..
ولم أكمل حديثي حتى اقتربت أصوات بعض البلطجية: هاتوا الاتنين دول والله ما هنسيبكم إلا لما ندبحكم الليلة.
فقال: سامحينا يا أمي سامحينا إننا ما قدرناش ندافع عنكم..
قلت له: روح يا ابني بسرعة نعوذ بالله من قهر الرجال نعوذ بالله من قهر الرجال.

مشينا أنا وأختي نجر معنا آلامنا ونترقب الطريق حولنا خائفين، وبعد فترة وصلنا عند أول الطريق واقتربنا من البيوت كنا نمشي بمحاذاة سكة القطار، ونحن نرى البلطجية ينتشرون في المكان ويشهرون السنج والمطاوي إلى أن وصلنا إلى بيت أخت لنا، فأشرت على مرافقتي بأن ندخل حتى تهدأ الأمور، إلا أنها رأت لقرب بيتها بالذهاب إليه أفضل.

طرقت جرس الباب وفتحت لي صاحبة البيت، وهي متلهفة علي، فقد كانت معنا في بداية الوقفة عندما رأيتها لا أدري ما حدث لي.

انهارت آخر قلاع صمودي وثباتي وانهرت باكية وارتميت في أحضانها، وأنا أقول: آااااااااه يا وطني، آاااااااه يا أخواتي، آااااااه يا بناتي.

حضنتي باكية تهدئ من روعي وتصبرني، ولكن كل ما لمست جزءاً من جسدي صرخت من الألم، جاءت أخت أخرى وساعدتاني على الصعود للبيت، وهما تسألاني: عملوا فيك إيه يا حبيبتي؟

ما كنت قادرة على الجواب، كان أشد ما يؤلمني ظهري وكتفاي فبدأتا بكشف ثيابي، وجدت إحداهما تبكي بشدة وهي ترى ظهري، وتقول: يا حبيبتي يا أختي يا حبيبتي.
كنت كمن جلد ظهره في حد، أجل جلدت يا بلادي، طلبت لك الحرية والكرامة فجلدت، أردت إحياء قلوب ماتت، وضمائر خربت، وفطرة طمست فجلدت، علمت أن تساقط الطغيان مرهون بتحرير القلوب، أردت تحريرها فجلدت، بلادنا الحبيبة التي كانت تقتلك حسرة لو كرهتها، صارت تقتلك حسرة لو أحببتها، ولأني أحبها جلدت.

بدأت وأخواتي نطمئن على بناتنا وأخواتنا كانت الإصابات متعددة، أصيبت العديد منهن بجروح قطعية في الرأس ورضوض شديدة أدمت أيديهن وأرجلهن، هذا غير إصابات الإخوة واعتقال العديد منهم.


وصلت إلى بيتي بعد صلاة العشاء ووجدت بناتي وجاراتي في انتظاري، والبيت يسوده القلق بعد انتشار الأخبار، دخلت عليهم مهزومة النفس مرفوعة الرأس، باسمة الثغر، دامية الفؤاد، أطمئنهن وأتجنب ملامستهن لجروحي، وآلام جسدي تأبى إلا أن تذكرني بما عانيت، ولن أنسى صرخات أسماء وسارة، وبكاء مريم والزهراء وعيون صغيرتي منة الله الخائفة وهن يرَيْنَ جروحي وما ألم بي.

أصرت جاراتي على أن نذهب للطبيب، والاطمئنان عليّ، فقد كانت إحدى الضربات قد أصابت كفي وأصابعي بشدة ولم أشعر بها حتى المساء.

مرت ليلتي الأولى بزحام الزوار وتفقد الأحباب، واتصال الغائبين، ولكن الليلة التالية كانت أشد ألماً، فضعف جسدي وتحطم فؤادي، وتذكري للأحداث والأشخاص والضربات، صرخات الألم، وبشاعة الضرب وجحوظ عين ذلك الكافر ـ كما اختار لنفسه ـ الذي آذانا وهددنا بالقتل والاغتصاب كان يتراءى أمام عينيّ كلما أغمضتهما، كنت وما زلت أحتفظ بملامح الأشخاص في ذاكرتي ليوم القصاص.

وفي الصباح أُبْلغتُ أن عندنا وقفة في مكاننا المعتاد كل جمعة، كان شعور بالضعف والخوف يسيطر علي، ولكن والله أعلم أني خشيت على نفوس أخواتي وطالباتي وبناتي أن تصيبها ذرة يأس أو لحظة قنوط أو تراجع وتردد عن الطريق الذي اخترنا.

ويدور بين جنباتي صراع بين حب نفسي والهم بقضيتي، بين التماس الأعذار واختيار الثبات والإصرار، بين اليقين بضعفي ورؤيتي للحق بيقين، بين شماتة عبيد الدنيا والفوز بصحبة عباد الآخرة، ولكن رفضي لما أعيشه من ذل وهوان وحتى لا تعيشه ابنتي ولا أختي انتصرت على ضعف نفسي ونزلت في اليوم التالي، وقفت مع أصحاب القضية، فلعل وقفة في سبيل الله يمحو الله بها الذنوب ويكفر عنا بها الخطايا.


ما زالت يداي ترتعشان وينقبض قلبي، ويضيق صدري وأنا أسجل هذه الشهادة للتاريخ، وأروي للدنيا جمعاء ما أصاب نساء مصر في عهد الخسيس الخائن، آثرت فيها عدم ذكر أسماء أخواتي حباً لهن وحماية، وإلا فوالله إنهن كن أقوى وأشد صبراً وصموداً مني، هذا ونحن بالميادين فما بالكم بتيجان الرؤوس اللواتي تضيق بهن سجون الظالمين.

ولكني سأظل أحلم ببزوغ فجر جديد، أصغي فيه لصوت أذان الحق، وتطّلع أعيني العطشى لكوثر عدل الله وجميل قدره، وسنظل القابضين على الجمر في زمن الرصاص، حتى ننصب قريباً موازين القصاص.



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/gihan-maher-akl/story_b_18425712.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات