الأربعاء، 1 نوفمبر 2017

الفضاء الإلكتروني والشؤون الدولية

الفضاء الإلكتروني والشؤون الدولية

أصبح من الشائع الآن الحديث عن "العصر الرقمي"؛ فقد ولجنا بحق العصر الذي أصبحت فيه تكنولوجيا المعلومات تشغل الحيز الأكبر والأوسع من حياتنا اليومية، وتفاعلاتنا الاجتماعية بمختلف أشكالها، وذلك منذ أن أصبحت شبكة الإنترنت البنية التحتية الأولى في العالم لكل ما له علاقة بالعلاقات التجارية والاقتصادية والتكنولوجية.

لقد تحولت شبكة الإنترنت منذ ما يقرب من العقدين إلى شبكة النفع العام؛ حيث تقوم مراكز معالجة البيانات العملاقة بتوفير خدمة الإنترنت للشركات والأفراد على حد سواء، وقد ترتب على ذلك أن تحولت الإنترنت إلى العقل الفعلي للعالم؛ حيث تربط الملايين من البشر وأجهزة الحاسوب بشبكات معقدة يقوم على برمجتها كل مَن يملك المعرفة التقنية، ويتوفر لديه جهاز حاسوب رخيص الثمن؛ والنتيجة كانت تشكل عالم افتراضي أو فضاء إلكتروني أصبح يحل شيئاً فشيئاً محل الفضاء المادي، الأمر الذي سيكون له تداعيات كبيرة على طريقة وأسلوب حياتنا، نحن البشر.

إن الفضاء الإلكتروني ومن خلال تغلغله الكبير في تعاملاتنا الحياتية والاجتماعية أصبح يفرض تأثيراً متزايداً على الشؤون العالمية والنظام الدولي.

فإذا كان تعريف السياسية في آخر المطاف هو إدارة الممكن من أجل تحديد من يحصل على ماذا وبأي وقت وكيف؟ فإن الفضاء الإلكتروني سوف يكون ساحة هامة وربما رئيسية للتفاعلات السياسية في المستقبل القريب حيث تتزايد أهمية الفضاء الإلكتروني في الشؤون الأمنية العالمية، والاقتصاد الدولي، والمنظمات والمجتمعات الدولية، كما تتزايد سرعة انتشار الأفكار والمعلومات، الأمر الذي يحمل في داخله بوادر توجهات تحولية Transformative Trends.

ولا شك أن الفضاء الإلكتروني ومن خلال ما أصبح يتمتع به من أهمية قصوى في تسيير شؤوننا السياسية والاجتماعية والاقتصادية سيجلب اهتمام الكثير من الخبراء وصناع القرار، وذلك استعداداً للتعامل مع ظاهرة ما يعرف بالسياسة الرقمية، وما تفرضه من تحديات ما زالت إلى حد الآن يشوبها الكثير من الغموض.

وبناء على ذلك يعتبر تقديم مراجعات مختصرة عن تأثير القضاء الإلكتروني على السياسة العالمية أمراً في غاية الأهمية؛ وسوف نسعى - بداية - ومن خلال مجموعة من المقالات إلى تسليط الضوء على خمس من القضايا المركزية التي تشهد تأثراً واضحاً بالسياسة الرقمية والفضاء الإلكتروني في وقتنا الحاضر.

وهذه القضايا هي: المجتمع المدني العالمي، حوكمة الفضاء الإلكتروني، التطور الاقتصادي في العصر الرقمي، تأثير الفضاء الإلكتروني على الأنظمة السلطوية والتحول الديمقراطي، وأخيراً الأمن الدولي والجريمة الإلكترونية.

المجتمع المدني العالمي

يمكن اختزال تعريف المجتمع المدني بأنه ذلك الفضاء الواصل بين الفرد في المجتمع وبين الدولة.

وقد رافق المجتمع المدني الإنسان منذ آلاف السنين، ولكنه بدأ يأخذ شكله السياسي الأكثر تأثيراً منذ القرن التاسع عشر؛ حيث نجحت بعض التجمعات المدنية في التأثير على وضع حد لتجارة العبيد عبر الأطلسي - على سبيل المثال.

ومع مرور الوقت أخذ معنى المجتمع المدني يترسخ من خلال حكم القانون والمشاركة النشطة للمواطنين في الحياة العامة لمجتمعاتهم، فمع تزايد التعقيدات الحاصلة في الشؤون المحلية والدولية من خلال اتساع النشاط التجاري ومد خطوط سكك الحديد والتلغراف وزيادة التواصل بين الدول برزت حاجة المجتمع المدني ليس من أجل مقاومة اضطهاد الدولة واستبداد النخب الحاكمة، بل تعدى الأمر إلى الوعي بضرورة سد الفراغات التي باتت الدول عاجزة عن ملئها، وإيجاد حلول للمشكلات التي باتت تهدد المجتمع الإنساني ككل.

كانت أهمية المجتمع المدني واضحة بهذا الاعتبار أيضاً في مرحلة إنشاء الأمم المتحدة (UN)؛ حيث شهدت تلك الفترة انتعاشاً واضحاً للمنظمات غير الحكومية (Non-governmental Organization - NGOs) وتنامي دورها في الشؤون الدولية؛ حيث بات معها المجتمع المدني يأخذ الطابع الدولي بعد أن كان مقتصراً لفترات طويلة على المجتمعات المحلية.

فجميع المنظمات غير الحكومية التابعة للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية المستقلة أخذت تعمل على نطاق العالم، وبذلك أصبح يتشكل مفهوم المجتمع المدني الدولي.

وقد ساهمت العولمة بشكل كبير في تغذية وانتشار المجتمع المدني العالمي؛ حيث باتت المنظمات المدنية العالمية تساهم بشكل بارز في الإسهام في حل المشكلات التي تهدد الكوكب والجنس البشري كالاحتباس الحراري.

ولكن العولمة بطبيعتها المزدوجة إعادة إحياء المفهوم التقليدي في الصراح بين الفضاء المدني المتمثل بالفرد والمجتمع وبين الفضاء الحكومي المتمثل بالنخب الحاكمة وجماعات المصالح والمتعلق بالأساس بمتلازمة الحرية والتحكم.

فالعولمة وبالرغم من قدرتها على تقريب المسافات حتى أصبح العالم يبدو كقرية صغيرة، وباتت الأمم على تواصل لصيق فيما بينها، إلا أنها ساهمت أيضاً وبشكل كبير في عملية تركيز السلطة والثروة في أيدي فئة محدودة من البشر.

لقد شكلت قدرة الشركات العملاقة على التحكم في الاقتصادي العالمي والتبادلات التجارية والتأثير بالتالي على حياة الملايين من البشر من خلال اختراق مجتمعاتهم المحلية وتغيير أسلوب عيشهم هاجساً مؤرقاً لدعاة التحرر، وبذلك أصبحت تقوية المجتمع المدني وتغذيته بمؤسسات فاعلة ونشطة ضرورة ملحّة.

مع مجيء شبكة الإنترنت وسيطرتها على مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في العالم شعر دعاة المجتمع المدني أنهم باتوا يمتلكون الأداة التي سوف تسهل عليهم تجاوز القبضة الحديدية للدولة وللشركات العملاقة والالتفاف عليها.

فقد ساد اعتقاد قوي بأن شبكة الإنترنت ستكون أداة تحرر وتمكين؛ ستعمل على جعل التواصل العابر للحدود بين الجهات المدنية ذات الاهتمام المشترك سهلاً وأكثر فاعلية، الأمر الذي من شأنه تعزيز المجتمع المدني العالمي.

وقد صاحب هذا الاعتقاد -في البداية على الأقل- نبرة فيها الكثير من التفاؤل والأمل.

ففي عام 2006 على سبيل المثال، أصدر محررو جريدة كاتو أنباوند التي تصدر على الإنترنت عن معهد كاتو (CATO Institute) عدداً خصاصاً عن الإنترنت، ذكروا فيه أن "تصورات المفكرين كلها تجمع على أن الإنترنت هي أداة تحرير قوية، وفي مقال صدر في يوليو/تموز 2007 كتب الباحث الإعلامي كلاي شيركي أن "مخرجات الإنترنت هي البيانات ولكن ما تنتجه هو الحرية، الحرية الهائلة".

أما الكاتب ديفيد واينبرجر، فقد أوجز في كتابه "شذرات مترابطة من بعيد" أسطورة الإنترنت التي ترفع القيود في كلمات بسيطة، قائلاً: الإنترنت هي "عالم صنعه كل منا للآخر"، وهو يشير في ذلك إلى تلاشي القبضة المركزية المتحكمة بالمجتمع من قبل الحكومات وأرباب الشركات العملاقة.

عزز اندلاع الثورات العربية من هذا الاتجاه، فقد رأى العديد من الباحثين أن الفضاء الإلكتروني قد وفر مساحة حرة للنساء وللشباب على حد سواء، مكنتهم من التواصل من أجل التعبير عن أفكارهم وحشد طاقاتهم التي أطاحت في نهاية المطاف بالعديد من الأنظمة الاستبدادية.

لقد كان هذا الحدث إيذاناً بأن عهد القبضة الحديدية للحكومات على المجتمع بات يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأن المجتمع المدني بطاقات الفاعلين فيه قد أصبحوا يتمتعون بأداة تحررية لا يمكن السيطرة عليها، وأخذ يزدهر مفهوم العولمة من الأسفل (Globalization from Below) وقدرة المجتمع على إحداث التغيير.

لم يدم هذا التفاؤل -على أي حال- طويلاً؛ فقد أثبت الفضاء الإلكتروني بأنه سلاح ذو حدين، فكما وفرَّ فرصة تحرر وتمكين لنشطاء المجتمع المدني ومؤسساته والأفراد العاديين للتعبير عن أفكارهم وتكوين عالم مستقل يعبر عن تطلعاتهم وأحلامهم، فقد وفر أيضاً أدوات تحكم أكثر تقدماً عما كانت عليه في السابق.

وقد استطاعت الدول والشركات الكبرى تطوير هذه الأدوات من أجل إعادة سيطرتهم على الفضاء العام.

ففي مجال التجسس على سبيل المثال أثبتت ظاهرة عميل وكالة الأمن القومي السابق إدوارد سنودن أن وكالة الأمن القومي الأميركي تتجسس على كافة المواطنين الأميركيين وهو الأمر الذي يضع الخصوصية الفردية للمواطن الأميركي في مهب الريح.

وقد كان الرئيس الأميركي السابق واقعياً عندما صرح يوماً أمام شعبه بأنه لا يمكن الحديث عن الأمن في ظل خصوصية فردية مطلقة.

لقد أثبتت التطورات الأخيرة أن كلمة تمكين -التي يوصف بها الفضاء الإلكتروني- تحمل بداخلها التباساً لا يمكن تجاوزه؛ فالتمكين لمن؟ وعلى حساب من؟ كما أن كلمة تحرر اصطدمت بحقيقة التأثير، فالقوة التي اكتسبتها الشركات الكبرى والدول على التأثير من خلال توظيف برمجيات التجسس ومعالجة البيانات جعلت من التحرر مسألة مشكوكاً فيها.

وأصبح الكثيرون يتساءلون حول إذا ما كان التحرر هنا مقتصراً فقط على تحميل بعض مقاطع الفيديو أو ملفات الـ PDF؟

على أي حال لم يدفع انتعاش قدرات الشركات والدول التحكمية إلى الاتجاه المعاكس؛ أي إلى الإحباط، بل جعل الأفكار أكثر واقعية حيث أخذ بعض الكتاب من أمثال إيما ميرفي للترويج إلى أن العلاقات الناشئة في الفضاء الإلكتروني هي أضعف من تلك التي تقع ضمن الحياة الواقعية، وأن مستخدمي الشبكة العنكبوتية أكثر رغبة في ممارسة أنشطة التسلية والترفيه من تبادل الأفكار السياسية والأيديولوجية.

وبناء على ذلك، فإن الفضاء الإلكتروني لا يشكل ذلك التهديد الحقيقي على هوية المجتمعات المحلية، فهناك الكثير من الشكوك حول قدرة الإنترنت على نزع الهويات المحلية واستبدالها بهوية عالمية (global identity)، بمعنى أن قدرة الفضاء الإلكتروني على تشكيل مجتمع مدني عالمي تبقى محدودة.

على النقيض يرى الكثير من الكتاب من أمثال فاطمة الميرنيسي أن الفضاء الإلكتروني بما لديه من تأثير كاسح سوف يهدد لا محالة الهويات المحلية، وذلك من خلال جعل الحدود بين الهويات العالمية والهويات المحلية ملتبسة.

وبالرغم من أن الدراسات الإمبريقية في تدعيم أي من هذين الاتجاهين ما زالت محدودة جداً، فإن التساؤل الكبير لا يتعلق بأي الاتجاهين على صواب بقدر ما هو متعلق بشكل المجتمع المدني العالمي في المستقبل، وما هي القوى التي ستتحكم في صياغته؟

يعود جزء كبير من الإجابة عن هذا السؤال في النظر إلى القوى التي سوف تُحكم قبضتها على الفضاء الإلكتروني.

هناك تخوف حقيقي أن يتحول الفضاء الإلكتروني إلى وسيلة محتملة لأصحاب النزعات الرأسمالية والتجارية، الأمر الذي يعزز من اتجاهات السيطرة والتحكم والاحتكار العالمي، وهو ما يبشر ربما بعصر الإمبريالية الرقمية (Digital Imperialism) ونتحول عندها من الحديث عن ثورة في التحرر إلى ثورة في التحكم.

بكلمة أخرى، لم يكن انتشار الفضاء الإلكتروني يعبر عن إعلان انتصار الفرد والمجتمع المدني على الدولة والشركات الرأسمالية الكبرى، بل إعلان لبداية حقبة جديدة من الصراع على الحريات والفضاء العام وأنماط الإنتاج بين الشعوب والمجتمعات من جهة وبين بارونات الحكم والمال.

بعبارة أخرى فإن الصراع بين الفرد والدولة وبين المجتمع والشركة سينتقل من العالم المادي إلى العالم الرقمي بأدوات وأساليب جديدة، ولكن مع المحافظة على روح الصراع التي تتعلق بالأساس بمَن يحكم؟!


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/nabeel-kamil/story_b_18435686.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات