أواخر العام الماضي، أخبرتني إحدى الصديقات عن مسلسل تركي جديد، اسمه "أرطغرل" اسمه كان غريباً، وغير مستساغ بالنسبة لي. منذ زمن بعيد، صرت لا أمتلك قنوات تلفاز، وأكتفي بما أنتقيه من على الإنترنت من ترشيحات الأصدقاء الذين أثق برأيهم؛ لذا، بحثتُ عن هذا المدعو أرطغرل، وشاهدت أول عشر دقائق منه، فلم يرق لي، ثم نظرت إلى ما تبقَّي من الحلقة فوجدتها ساعتين، يا إلهي! أيتوقعون مني أن أظل ساعتين أحملق في التلفاز؟ أغلقت الجهاز.. توالت الكتابات عن المسلسل وزادت نسبة مشاهديه حولي، وفي لحظة بَحْثٍ عن شيء جديد، قررتُ إعطاءه فرصة أخيرة، بعد عشرين دقيقة من المشاهدة، لم أعد أحصي الوقت.. صارت أنفاسي متتابعة، نادتني ابنتي فصحتُ: رجاءً، أنا مشغولة. انتهت الحلقة وأنا متشوقة للتي تليها.
لم أتوقع هذه الحرفية العالية في تصوير مشاهد القتال، آخر عهدي بهذه المشاهد كانت في الأفلام المصرية منذ سنين؛ حيث كان الإخراج مضحكاً ومشاهد الحركة بطيئة.. لست من هواة مشاهد العنف ولا الإثارة، لكنني ممن يريدون من المخرج أن يقنعهم أن الجموع التي في الخلفية جموع حقيقية، وأن التصوير يجري في الصحراء، وليس في استوديو صغير بخلفية صفراء.
جاء ابني من الخارج وأنا ما زلت في طور الانبهار، فقلت له أن يشاهد معي الحلقة مرة أخرى، قطب حاجبيه، لكنه قال إن لديه بعض الوقت ليمضيه معي، وتوالت الدقائق وأصبحت ساعتين حتى انتهت الحلقة. وهكذا صرت أنا وهو من متابعي الحلقات، ولاحقاً انضم إلينا باقي أفراد العائلة.
كنت أشعر بالغيظ ينتابني من كثرة المؤامرات، والكذب وتفنن بعض الشخصيات في حبك الدسائس والظهور كالحمل البريء، ثم يأتي أرطغرل أخيراً فيكشف الجميع وهنا نقفز جميعنا فرحاً بزوال الغمة وعقاب المجرم.
كان المسلسل فرصة ذهبية لفتح مناقشات عائلية حول التصوف، وتاريخ الفتوحات الإسلامية، والحروب الصليبية، وغيرها من المواضيع المهمة التي يتناولها العمل الدرامي. وصدقاً لم يكن عندي إجابة لكل الأسئلة التي طرحها عليَّ أولادي، فشرعتُ في البحث على الشبكة العنكبوتية، سألت أصدقاء ثقات، وشاهدنا مقاطع تحدث فيها البعض عن الأخطاء التاريخية التي وقعت في المسلسل. كل هذه المناقشات زادتنا إثارةً وترقباً.. رغم أن وتيرة الحلقات الأخيرة كان فيها بعض التشابه الدرامي من حيث معالجة الأحداث، إلا أننا لم نمل مشاهد الحركة والقتال، نحبس أنفاسنا كل مرة تصلصل فيها السيوف، للمرة الأولى في حياتي، لم أخشَ مقاطع القتال وأنا التي لا تطيق رؤية دجاجة تُذبح!
توقفت حلقات أرطغرل، وزاد شغفنا بكل ما هو تركي، ثم سمعت عن مسلسل عبد الحميد.. والحقيقة أنني منذ صغري كنت شغوفة بهذا الاسم، وذلك لكثرة القيل والقال عنه، سمعت أبي -رحمه الله- يمدحه في أسى، ويذكر أنه رفض بيع فلسطين، فكبر الرجل في عيني، لكن ما درسناه من مناهج التاريخ في المدارس الثانوية، ألقى ظلالاً قاتمة على الحقبة العثمانية برمتها، وساواها بالاحتلال الفرنسي والإنكليزي، حتى إنهم ذكروا لنا مزايا الحملة الفرنسية على مصر، بينما لم يروا في العثمانيين أي مزية تذكر!
ولما كان مسلسل أرطغرل قد فتح شهيتي التي توقفت لسنوات عن متابعة أي أعمال، فقد وجدتها فرصة للمعرفة، لكن وجدتني وأنا أشاهد مسلسل عبد الحميد، يعتصرني الأسى والألم؛ لأني أعلم الحقيقة، وأعلم ما انتهى إليه مصيره ومصير فلسطين من بعده، كل انتصارات عبد الحميد التي تتوالى في بدايات المسلسل، تثير في النفس ألماً وحزناً، وكان يدور في نفسي دوماً هذا الحوار كلما شاهدت إحدى حلقات عبد الحميد، تُرى هل أهرب لأرى أرطغرل يثلج الصدور بالوهم الجميل، أم أكمل وأرى كيف اجتمعت كل الأسباب لتقضي على آخر خلافة كانت -على رغم عِلَّاتها- تحمل أملاً لجمع شمل كلمة الإسلام؟ ثم بحثت عن كتاب مذكرات السلطان عبد الحميد التي كتبها في منفاه، وبدأت قراءته في ليلة استعصى عليَّ النوم فيها.. لم أستطع إغلاق عيني قبل أن أتم القراءة لآخر صفحة، ولم أستطع إغلاق عيني بعدها لما أحسسته في قلبي من مرارة وحزن.
أكثر من مرة وأنا أقرأ تخيلتني أخترق حجب الزمن والمكان وكأنني أنظر إلى وجهه الحزين، والذي تغطى بالدموع، ليس لقرار عزله، وإنما لما تردت إليه البلاد على أيدي عصابة الاتحاد والترقي، وما شابهها، وعلى يد الجيش الذي انهزم وفشل في إبقاء حدود الدولة كما تركها السلطان المخلوع.
مهما كان خلافنا مع السياسة التركية، لا أملك إلا أن أحترم ذكاء من خطط لينتج هذين العملين في هذا الوقت! فهدف المسلسل الرئيسي هو إعادة الشعور بالفخر والانتماء للقومية التركية، وللجذور الإسلامية في وقت تتربص فيه القوة الخارجية ببصيص أمل يلوح في إحدى الدول الإسلامية.
أتصور أن توقيت إنتاج هذين العملين لم يكن محض الصدفة، فكلاهما يخاطب الروح القومية التركية، والروح الإسلامية معاً. في وقت تتكالب فيه الضغوط والمؤثرات على الدولة التركية ورئيسها، فإن المواطن التركي العادي، يستشعر العزة بقوميته، وإن كلمات مثل "سلطان العالم، بلادنا القوية، أنا باشا عثماني" التي يتكرر سماعها في مسلسل عبد الحميد، بالإضافة إلى الجمل ذات الإيحاءات الدينية الإسلامية، وقصص العدل مع غير المسلمين، كل هذا يؤثر في الوجدان الإنساني للمواطن البسيط.
أما ما حدث من تفاعل شديد بين العرب والمسلمين من غير الأتراك، فهو ظاهرة تستحق الدراسة! إذ إنه في الزمن الذي تردت فيه كل القيم الإسلامية، وتوالت الانهيارات، يأتي من الماضي من يبعث الشعور بالأمل والثقة، ورغم كل ما احتواه المسلسل من أخطاء تاريخية، ومحو متعمد أو غير متعمد، لبطولات العرب ضد الحملات الصليبية، والتي لم يتم الإشارة لها ولو مرة واحدة، كل هذا لم يؤثر أبداً في شعبية المسلسل لدى متابعيه؛ إذ يبدو أن الواقع الأسود الذي يحسه عدد لا بأس به من العرب، الذين يرون في تركيا مثلاً لم تستطع دولهم الوصول إليه رغم تقليد هذه الدول الغرب، وتنازلها عن الكثير من المال، والسلطة، والعادات والتقاليد، مع هذا تظل دولهم عاجزة عن أن تنتج بعض ما تنتجه الصناعة التركية، ويظل رؤساؤهم عاجزين عن نيل الاحترام الذي يفرضه أردوغان حتى على معارضيه.
ورغم التاريخ الذي جعل حقبة الخلافة العثمانية احتلالاً للدول العربية، وطمس انجازاتهم، إلا أن كل هذا محاه هذان العملان. بضعة أشهر من متابعة مسلسلين، غيَّرت ما خُطَّ في عقول جيل كامل، ألم يقولوا لنا دوماً إن الإعلام هو الذي يحرك العالم ويحكمه؟
لم أتوقع هذه الحرفية العالية في تصوير مشاهد القتال، آخر عهدي بهذه المشاهد كانت في الأفلام المصرية منذ سنين؛ حيث كان الإخراج مضحكاً ومشاهد الحركة بطيئة.. لست من هواة مشاهد العنف ولا الإثارة، لكنني ممن يريدون من المخرج أن يقنعهم أن الجموع التي في الخلفية جموع حقيقية، وأن التصوير يجري في الصحراء، وليس في استوديو صغير بخلفية صفراء.
جاء ابني من الخارج وأنا ما زلت في طور الانبهار، فقلت له أن يشاهد معي الحلقة مرة أخرى، قطب حاجبيه، لكنه قال إن لديه بعض الوقت ليمضيه معي، وتوالت الدقائق وأصبحت ساعتين حتى انتهت الحلقة. وهكذا صرت أنا وهو من متابعي الحلقات، ولاحقاً انضم إلينا باقي أفراد العائلة.
كنت أشعر بالغيظ ينتابني من كثرة المؤامرات، والكذب وتفنن بعض الشخصيات في حبك الدسائس والظهور كالحمل البريء، ثم يأتي أرطغرل أخيراً فيكشف الجميع وهنا نقفز جميعنا فرحاً بزوال الغمة وعقاب المجرم.
كان المسلسل فرصة ذهبية لفتح مناقشات عائلية حول التصوف، وتاريخ الفتوحات الإسلامية، والحروب الصليبية، وغيرها من المواضيع المهمة التي يتناولها العمل الدرامي. وصدقاً لم يكن عندي إجابة لكل الأسئلة التي طرحها عليَّ أولادي، فشرعتُ في البحث على الشبكة العنكبوتية، سألت أصدقاء ثقات، وشاهدنا مقاطع تحدث فيها البعض عن الأخطاء التاريخية التي وقعت في المسلسل. كل هذه المناقشات زادتنا إثارةً وترقباً.. رغم أن وتيرة الحلقات الأخيرة كان فيها بعض التشابه الدرامي من حيث معالجة الأحداث، إلا أننا لم نمل مشاهد الحركة والقتال، نحبس أنفاسنا كل مرة تصلصل فيها السيوف، للمرة الأولى في حياتي، لم أخشَ مقاطع القتال وأنا التي لا تطيق رؤية دجاجة تُذبح!
توقفت حلقات أرطغرل، وزاد شغفنا بكل ما هو تركي، ثم سمعت عن مسلسل عبد الحميد.. والحقيقة أنني منذ صغري كنت شغوفة بهذا الاسم، وذلك لكثرة القيل والقال عنه، سمعت أبي -رحمه الله- يمدحه في أسى، ويذكر أنه رفض بيع فلسطين، فكبر الرجل في عيني، لكن ما درسناه من مناهج التاريخ في المدارس الثانوية، ألقى ظلالاً قاتمة على الحقبة العثمانية برمتها، وساواها بالاحتلال الفرنسي والإنكليزي، حتى إنهم ذكروا لنا مزايا الحملة الفرنسية على مصر، بينما لم يروا في العثمانيين أي مزية تذكر!
ولما كان مسلسل أرطغرل قد فتح شهيتي التي توقفت لسنوات عن متابعة أي أعمال، فقد وجدتها فرصة للمعرفة، لكن وجدتني وأنا أشاهد مسلسل عبد الحميد، يعتصرني الأسى والألم؛ لأني أعلم الحقيقة، وأعلم ما انتهى إليه مصيره ومصير فلسطين من بعده، كل انتصارات عبد الحميد التي تتوالى في بدايات المسلسل، تثير في النفس ألماً وحزناً، وكان يدور في نفسي دوماً هذا الحوار كلما شاهدت إحدى حلقات عبد الحميد، تُرى هل أهرب لأرى أرطغرل يثلج الصدور بالوهم الجميل، أم أكمل وأرى كيف اجتمعت كل الأسباب لتقضي على آخر خلافة كانت -على رغم عِلَّاتها- تحمل أملاً لجمع شمل كلمة الإسلام؟ ثم بحثت عن كتاب مذكرات السلطان عبد الحميد التي كتبها في منفاه، وبدأت قراءته في ليلة استعصى عليَّ النوم فيها.. لم أستطع إغلاق عيني قبل أن أتم القراءة لآخر صفحة، ولم أستطع إغلاق عيني بعدها لما أحسسته في قلبي من مرارة وحزن.
أكثر من مرة وأنا أقرأ تخيلتني أخترق حجب الزمن والمكان وكأنني أنظر إلى وجهه الحزين، والذي تغطى بالدموع، ليس لقرار عزله، وإنما لما تردت إليه البلاد على أيدي عصابة الاتحاد والترقي، وما شابهها، وعلى يد الجيش الذي انهزم وفشل في إبقاء حدود الدولة كما تركها السلطان المخلوع.
مهما كان خلافنا مع السياسة التركية، لا أملك إلا أن أحترم ذكاء من خطط لينتج هذين العملين في هذا الوقت! فهدف المسلسل الرئيسي هو إعادة الشعور بالفخر والانتماء للقومية التركية، وللجذور الإسلامية في وقت تتربص فيه القوة الخارجية ببصيص أمل يلوح في إحدى الدول الإسلامية.
أتصور أن توقيت إنتاج هذين العملين لم يكن محض الصدفة، فكلاهما يخاطب الروح القومية التركية، والروح الإسلامية معاً. في وقت تتكالب فيه الضغوط والمؤثرات على الدولة التركية ورئيسها، فإن المواطن التركي العادي، يستشعر العزة بقوميته، وإن كلمات مثل "سلطان العالم، بلادنا القوية، أنا باشا عثماني" التي يتكرر سماعها في مسلسل عبد الحميد، بالإضافة إلى الجمل ذات الإيحاءات الدينية الإسلامية، وقصص العدل مع غير المسلمين، كل هذا يؤثر في الوجدان الإنساني للمواطن البسيط.
أما ما حدث من تفاعل شديد بين العرب والمسلمين من غير الأتراك، فهو ظاهرة تستحق الدراسة! إذ إنه في الزمن الذي تردت فيه كل القيم الإسلامية، وتوالت الانهيارات، يأتي من الماضي من يبعث الشعور بالأمل والثقة، ورغم كل ما احتواه المسلسل من أخطاء تاريخية، ومحو متعمد أو غير متعمد، لبطولات العرب ضد الحملات الصليبية، والتي لم يتم الإشارة لها ولو مرة واحدة، كل هذا لم يؤثر أبداً في شعبية المسلسل لدى متابعيه؛ إذ يبدو أن الواقع الأسود الذي يحسه عدد لا بأس به من العرب، الذين يرون في تركيا مثلاً لم تستطع دولهم الوصول إليه رغم تقليد هذه الدول الغرب، وتنازلها عن الكثير من المال، والسلطة، والعادات والتقاليد، مع هذا تظل دولهم عاجزة عن أن تنتج بعض ما تنتجه الصناعة التركية، ويظل رؤساؤهم عاجزين عن نيل الاحترام الذي يفرضه أردوغان حتى على معارضيه.
ورغم التاريخ الذي جعل حقبة الخلافة العثمانية احتلالاً للدول العربية، وطمس انجازاتهم، إلا أن كل هذا محاه هذان العملان. بضعة أشهر من متابعة مسلسلين، غيَّرت ما خُطَّ في عقول جيل كامل، ألم يقولوا لنا دوماً إن الإعلام هو الذي يحرك العالم ويحكمه؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mona-kamal-hashim/-_14003_b_18508836.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات