الأحد، 24 ديسمبر 2017

هل كان للعرب بعد فتح مصر أي اهتمام بالحضارة المصرية القديمة؟

هل كان للعرب بعد فتح مصر أي اهتمام بالحضارة المصرية القديمة؟

قد يتخيل البعض أن العرب منذ فتح مصر لم يُعنوا بحضارتها القديمة كثيراً ولا بالآثار الموجودة بها؛ لظنّهم أنها تنتمي لعصور من الوثنية.

وربما يعتقد البعض أيضاً أن بُعد زمن الفتح الإسلامي عن زمن سيادة الحضارة المصرية القديمة التي تفصلها عنها مئات السنين تخللها الاحتلال الروماني وما سبقه من حكم البطالمة لمصر، وكذلك إحلال الديانة المسيحية مكان الديانة المصرية القديمة قد ولّد انفصالاً.

ولكن الحقيقة ربما تبدو عكس ذلك، ففي كتاب (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) والمعروف بالخطط المقريزية للمؤرخ تقي الدين المقريزي المتوفّى سنة 1442 م (845 هـ)، والذي كتبه عن مصر فصول شتى تؤكد عكس ذلك.

لقد كان لكثير من العرب اهتمام كبير بالحضارة المصرية القديمة، وذلك بدوافع شتى منها ما سوف نعرضه هنا في تلك المقالة.

الانبهار وشغف المعرفة:
يروي المقريزي في كتابه جوانب من هذا الانبهار والشغف بالآثار القديمة.

فقد تحدث عن بناء الأهرامات، وقال: "ما أحسب على وجه الأرض بناء أعظم منه ولا أحسن هندسة ولا طول".

كذلك يذكر ما قاله الحولقي في صفة مصر: "وبها الهرمان اللذان ليس على وجه الأرض لهما نظير في مُلك مُسلم ولا كافر".

كلام المفكرين العرب يطول في وصف مدى انبهارهم ببناء الأهرام، فيقول أحدهم: "إنك إذا تأمّلتها وجدت الأذهان الشريفة قد استهلكت فيها، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها، والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل..".

ويؤكد هذا الانبهار تعدد الأشعار التى قيلت في آثارها من الشعراء العرب، كقول الفقيه عمارة اليمني عن الأهرام:
بناءٌ يخافُ الدَهر منه وكُل ما ** على ظاهر الدُنيا يخافُ من الدهر

2017-12-13-1513159727-1144289-pyramids1980s.jpg

يروي المقريزي ما ذكره أبو الحسن المسعودي في كتابه (أخبار الزمان)، عن أن الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد لما قدم مصر وأتى على الأهرام، أحب أن يفتح أحدها ليعلم ما فيها؛ حيث لم تكن في تلك الفترة ثم معرفة سبب بناء هذا الصرح المذهل. فقيل له: إنك لا تقدر على ذلك. فقال: لا بد من فتح شيء منه! وقد أنفق أموالاً عظيمة -كما يروي المسعودي- حتى فتح ذلك الشق عن طريق الحدادين الذين عملوا فيها باستخدام أدوات الهدم والنار حيث وجدوا الحائط قريباً من عشرين ذراعاً، فلما انتهوا إلى آخر الحائط وجدوا خلف الثقب "مطهرة خضراء من زبرجد فيها ذهب مضروب"، "فجعل المأمون يتعجب من ذلك الذهب ومن جودته"، فأمر المأمون بحملها إلى خزانته. كذلك وجد ذلك القبر الرخامي الذي ما زال إلى اليوم داخل الهرم.

لقد أمر المأمون بقياس ارتفاع الهرم وأمر من صعد الهرم الكبير "أن يدلي حبلاً فكان طوله ألف ذراع بالذراع الملكي، وهو ذراع وخُمسان، وتربيعه أربعمائة ذراع في مثلها، وكان صعوده في ثلاث ساعات من النهار، وأنه وجد مقدار رأس الهرم قدر مبرك ثمانية جمال"، حسب رواية المقريزي.

وقد ذكر ما رواه أبو محمد عبد الله بن عبد الرحيم القيسي في كتابه (تحفة الألباب): "وقد رأيت الصنم (يقصد التمثال) الذي أُخرج منه ذلك الميت ملقى عند باب دار المُلك بمصر في سنة عشرة وخمسمائة".

وذكر بعض مؤرخي مصر أنهم وجدوا تمثالاً على هيئة آدمي من حجر أخضر بداخله جسد المتوفى، فأخذه المأمون. ويقول المقريزي إن "هذا الصنم الأخضر الذي وجدت الرمة فيه (يقصد جثمان الملك المتوفى فيه) لم يزل معلقاً عند دار الملك بمصر إلى سنة إحدى عشرة وستمائة من سنيّ الهجرة".

ويظهر ذلك أن الرغبة في الاحتفاظ بتلك الكنوز الثمينة كانت دافعاً في حد ذاتها على امتلاكه وليس فقط كونه ثروة قابلة للتداول.

يروى المقريزي أن الناس كان لديهم شغف كبير في زيارة أهرام الجيزة، فيقول: "وأقام الناس سنين يقصدونه وينزلون الزلاقة التي فيه، فمنهم مَن يسلم ومنهم من يهلك"، والمقصود هنا بـ"الزلاقة" ذلك السرداب المائل الذي نسير عليه إلى أن نصل إلى غرفة الدفن في نهايته.

واللافت هنا أن هؤلاء لم يمنعهم التعرض للمخاطر من الخوض في تلك المغامرات؛ حيث ذكر المقريزي وجود خفافيش بداخل الهرم، وأن تلك المحاولات في دخول الأهرام باستخدام الحبال كانت في كثير من الأحيان تصحبها حوادث مهلكة، كالسقوط داخل الهرم.

وقد صاحبت تلك المغامرات روايات مرعبة حول "جزاء مَن يحاول طلب ما ليس له!" على منوال ما نسميه اليوم بـ"لعنة الفراعنة"!


الهدم:
وفي كتاب (عجائب البنيان) عن الأهرام أنه كان منها عدد كثير من الأهرام كلها صغار هُدمت في زمن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، على يد الطواشي بهاء الدين قراقوش، أخذ حجارتها وبنى بها القناطر في الجيزة، وقد بقي من هذه الأهرام المهدمة تَلّها.

يقول أبو الحسن المسعودي: "إن بعض ملوك الإسلام شرع يهدم بعضها فإذا خراج مصر لا يفي بقلعها، وهي من الحجر والرخام، وأنها قبور لملوك"؛ حيث لم يكن معلوماً في تلك الفترة سبب بناء ذلك الصرح بشكل قطعي.

ومن أهم أسباب الهدم كان لاستخدام حجارتها في بناء عمائر جديدة، وهذا يذكرنا بما كان يشرع محمد علي باشا في العصر الحديث في فعله؛ حيث فكر في هدم الأهرام ليستخدم حجارتها في تشييد القناطر الخيرية!

2017-12-13-1513160657-2464684-533pxSultan_mohemmed_ali.png
صورة لمحمد علي باشا في القرن التاسع عشر


المطالب:
أطلق العرب على الكنوز التي أودعها المصريون القدماء في مقابرهم اسم (المطالب) و"هي ما يوجد في الدفائن من ذخائر الملوك التي استودعوها الأرض"، كما يذكر المقريزي، وكانوا يعتبرون تلك الأشياء بمثابة كنز عظيم قد يظفرون به إذا ما اكتشفه أحدهم، ولهذا تعددت محاولات البعض التنقيب عنه في باطن الأرض.

لقد حدث ذلك لدى الأفراد والحكام، فمثلاً في ولاية عبد العزيز بن مروان حين جاءه رجل يرشده لموضع أحد تلك المطالب، أمر له بنفقة لأجرة مَن يحفر من الرجال، وبالفعل بدأوا في الحفر حتى لاحت من الحفرة تماثيل وعمود من البنيان وحينها ركب عبد العزيز بن مروان حتى أشرف على الموضع، فنظر إلى ما ظهر من ذلك، فأسرع أحدهم بالنزول فإذا به يهوي في فخ عميق حتى هلك، ويُقال إنهم سمعوا لسقوطه أصواتاً عجيبة وبمحاولة الاقتراب سقط الباقون ممن كانوا يحفرون وينقبون في المكان، وكان عددهم كبيراً، فيقول المقريزي: "لقد هلكوا جميعاً، فخرج عبد العزيز وقال: هذا ردم عجيب الأمر ممنوع النيل نعوذ بالله منه. فأمر جماعة من الناس فطرحوا ما أُخرج من هناك من التراب على من هلك من الناس. فكان الموضع قبراً لهم"!

يروي المقريزي عن العلامة موفق الدين البغدادي، المعروف بابن المطحن في سيرته أنه "جاء رجل جاهل عجمي فخيل إلى الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف (1193-1200 م) أن الهرم الصغير تحته مطلب، فأخرج إليه الحجارين وأكثر العسكر وأخذوا في هدمه، وأقاموا على ذلك شهوراً ثم تركوه عن عجز وخسران مبين في المال والعقل"؛ لأن بنيانه عظيم لا يمكن هدمه.

والجدير بالذكر أن الأمير أحمد بن طولون قد أوجب على أي فرد إذا ما شرع في الحفر في تلك الأماكن الأثرية أن يأخذ تصريحاً بالموافقة منه.


محاولة فكّ طلاسم اللغة المصرية القديمة:

بعكس الصورة النمطية التي تزعم أن أولى محاولات لفك طلاسم اللغة المصرية القديمة كانت على يد شامبليون بعد الحملة الفرنسية على مصر، ومن ثم اكتشاف حجر رشيد عام 1801، إلا أن الواقع يُثبت عكس ذلك.

فربما نتعجب من حرص العرب على ترجمة كتب التراث اليونانية إلى العربية، ونتساءل لماذا لم يحاول العرب البحث في نتاج الحضارة المصرية القديمة كما فعلوا مع الحضارة اليونانية؟

لقد جاوب الدكتور عكاشة الدالي في كتابه (علم المصريات: الألفية المفقودة، مصر القديمة في كتابات العرب) الصادر عن مطبوعات جامعة لندن عام 2005 عن تلك التساؤلات، حينما تناول بالبحث بعض الكتب التي كتبها علماء عرب في العصور الوسطى، في محاولة منهم لفك طلاسم اللغة المصرية القديمة: ذو النون النبطي الصوفي في كتابه (حل الرموز وبرء الأرقام في كشف أصول اللغات والأرقام)، وأيوب بن مسلمة في كتابه (أقلام المتقدمين)،، وجابر بن حيان المتوفى 199هـ/ 815 م في كتابيه (كشف الرموز) و(الحاصل)، وأبو القاسم العراقي وأبو بكر بن وحشية الذي كتب كتاب (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام)، كل هؤلاء أسهموا بالبحث ومحاولة فك طلاسم اللغة المصرية القديمة.

2017-12-13-1513159927-7492224-Fig_1.1_Front_cover_of_Egyptology_The_Missing_Millennium.jpg
صورة لغلاف كتاب الدكتور عكاشة الدالي من موقع أمازون.

لقد كانت تلك كلها محاولات لفك طلاسم اللغة المصرية القديمة، ورغم عدم تمكنهم من الوصول لمعرفة كاملة ودقيقة باللغة المصرية القديمة، فإن ما يهمنا هنا أن هذا الاهتمام يُمثل في حد ذاته مدلولاً ومعنى مهماً يتلخص في أنه كان لدى قطاع كبير من المفكرين العرب رغبة وشغف في اكتشاف أسرار تلك الحضارة ومعرفة علومها.


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/amal-sherif-mohamed/-_14384_b_18803008.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات