الأحد، 24 ديسمبر 2017

بعض ما تعلَّمت في غربتي

بعض ما تعلَّمت في غربتي

أنا مواطن لإحدى البلدان الغارقة في التاريخ والساهية عن المستقبل، وُلدت في مكان ينتمي إلى التاريخ البعيد، ابتُليتْ بحاكم لا يعرف سوى القتل والسجن والإبادة، قامت الثورة في بلدي وأشعلت الحرب ضد كل من طلب الثورة. هاجرت مثل الكثيرين إلى أوروبا على أمل العيش بسلام، وأنا الآن أعيش بمدينة المطر والانفتاح هامبورغ.

أقطن هنا في هامبورغ منذ نحو عامين، على الرغم من برودة الجو والمشاعر، وعلى الرغم من الاختلاف الثقافي، وعلى الرغم من الحنين إلى الأجواء العائلية، والحنين إلى شرب الشاي المغلي بالجمر، الحنين إلى عطر الياسمين، الحنين إلى..

كان يتوجب عليّ تعلم اللغة الجديدة لهذا البلد؛ حتى أستطيع أن أعيش بهذا المجتمع، لا أعيش بجواره. تعلمت اللغة بالقدر الذي أحتاج إليه في المعاملات اليومية.

حاولت التواصل مع أفراد المجتمع الجديد، والتقيت وتعرفت على الكثيرين من الألمان، وذُهلت بهذا الاختلاف الثقافي الذي أنتج اختلافاً في طريقة التفكير والاختلاف في طريقة وأسلوب الحياة بيننا. فأنا القادم من مجتمع يعشق الأجواء العائلية، حتى ولو كانت مزيفة، يتوجب عليّ أن أعيش بمجتمع ركز اهتمامه على الفرد، الذي اختار العيش بوحدته وتحمّل المسؤولية عن أعماله وتصرفاته، على العيش مع العائلة بدفء حنانها وصعوبة تحمّل ديكتاتوريته.

تعرفت على هذا الشعب البسيط والنشيط والطيب، الذي خُلق لأجل العمل، فالعمل بالنسبة لهذا الشعب هو الطريق لإيجاد النفس، وأسلوب لمعرفة الذات، العمل حتى ولو كان تطوعياً، يعملون لأن العمل عبادة، كما قال سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، الكثير من المشاريع قائمة على العمل التطوعي، الكثير من الشباب يستهلك وقته، بالإضافة إلى السوشيال ميديا أيضاً، بالعمل مقابل المال والعمل التطوعي.

الأغلبية تعمل بالمجال الذي تحبه، على الرغم من وجود استثناءات على القاعدة العامة، ولكن تبقى استثناءات. العمل من أجل العمل وليس من أجل المال. فأنا الذي يجلب المال وليس المال الذي يقودني.

تعلمت كيف بإمكاني أن أساعد من دون مقابل، أساعد لأني أستطيع أن أساعد، المساعدة من أجل المساعدة؛ لأن من واجبي أن أساعد من يحتاج إلى مساعدتي، إذا كان بمقدوري المساعدة من أجل المجتمع وقبل ذلك من أجلي أنا؛ لكي أشعر بأني إنسان لي قيمة بهذا المجتمع، كيف بإمكاني أن أكون صادقاً مع نفسي ومع غيري.

تعلمت أن أكون صريحاً جداً ولكن بأدب، أستطيع أن أقبل أو أرفض ولكن باحترام، تعلّمت عدم الإلحاح بالطلب أو بالعطاء، فمن أراد شيئاً أخذه، ومن لم يرده تركه، من وعد وفى إن لم ينسَ. فكأنهم سمعوا مَثلنا الشعبي "وعد الحر دين".

تعلمت أن الكذب آفة لمن يعمل به، تعلمت ألا أكذب؛ لأنني لست محتاجاً إلى الكذب، فلا أنسب فضل عمل عمله صديقي لنفسي، ولا أفتخر بما صنعه أجدادي أو أهلي. ولا أكذب؛ لأني إنسان أستطيع أن أتحمل المسؤولية، مسؤولية عن أفعالي وأقوالي، المسؤولية التي نسيناها، ونسينا أن كل إنسان راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، كما ذُكر بالحديث الشريف. وأصبحنا نتقاذف المسؤولية، المسؤول يتهم المعارض، والعلماني يتهم المؤمن، والسياسي يتهم الاقتصادي، وكلٌّ يتهم الآخر ويحمّله مسؤولية التقصير والخلل والمصائب.

تعلمت كيف لي أن أتقبل الرأي المخالف لرأيي، أتقبل الرأي الآخر من دون تكفير أو تخوين أو استغباء. فالمؤمن له أيديولوجية تختلف عن الملحد؛ ومن ثم فكل منهما يملك رأياً مخالفاً للآخر، ولكن الرأيَّين صحيان، كأنهم سمعوا مقولة الشافعي "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".

وتعلمت أننا نستطيع أن نعيش جميعاً معاً في مكان واحد على الرغم من الاختلافات الدينية والثقافية والاجتماعية، إذا احترم بعضنا بعضاً، واحترم بعضنا آراء بعض. فاحترام الرأي أهم من الرأي، كما قيل: "إن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية".

هذا بعض الذي تعلمته من تاريخنا أولاً، وللأسف لم يُسمح لي بأن أعيش إلا في ألمانيا، فما أمسّ حاجة مجتمعنا للعودة لتاريخنا ولكن ليس للعيش فيه، إنما لنتعلم منه كيف نبني أنفسنا ومجتمعاتنا التي أنهكها الاستبداد والانغلاق والتخلف.



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/hussam-al-zaher/post_16622_b_18905996.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات