الثلاثاء، 23 يناير 2018

بعد 7 سنوات من الثورة في تونس: هل نزعنا قطعة القماش من فوق أنوفنا؟!

بعد 7 سنوات من الثورة في تونس: هل نزعنا قطعة القماش من فوق أنوفنا؟!

أتذكر ذلك اليوم جيداً.. كنت قد هرعت إلى بيت صديقي حسان العيادي، القريب من منطقة باب الخضراء بالعاصمة تونس؛ احتماءً من الغاز المسيل للدموع والاعتقالات الوحشية لقوات الشرطة التي لم ترحم حتى القطط في أرصفة شوارع العاصمة.

كان يوم 12 يناير/كانون الثاني 2011، أيامها لم يكن لي هاتف نقال محترم مثل الآخرين، فقط قطعة سوداء أتلقى بها الاتصالات من عائلتي بين الحين والآخر للاطمئنان عليّ مثلما كان يحدث مع جميع أصدقائي وزملائي.

طرقت الباب ففتح لي حسان واضعاً قطعة قماش في أنفه وأدخلني بسرعة إلى الداخل. قلت له إن الجوّ مكهرب في الخارج وإنني متخوف من اعتقال بقية الزملاء، فأجابني بأن ننتظر هدوء الأجواء ثم نخرج للبحث عن البقية.

فتحنا التلفزيون على شاشة "فرانس 24"، لتطالعنا مقدِّمة الأخبار بأنباء عن نجاح الإضراب العام الذي نظمه الفرع الجهوي للاتحاد العام التونسي للشغل في مدينة صفاقس يوم 12 يناير/كانون الثاني 2011، وأن المسيرات تعم المدينة والغضب عارم، ولا طاقة للسلطات لاحتواء الاحتجاجات.

تأكدنا حينها أن الأيام القليلة القادمة سوف تحمل تغيرات جديدة في مسار التحركات، وأن الاحتجاجات التي أودت بحياة 386 مواطناً وجرح 7749، حسب لجنة شهداء وجرحى الثورة بالبرلمان التونسي، لن تمر مرور الكرام؛ فمدينة صفاقس ليست مجرد مدينة فحسب؛ بل لها وزن تجاري واقتصادي مهم بالنسبة لتونس، وتحرُّكها بتلك الكيفية ستكون له انعكاسات عميقة.

في اليوم الموالي، أي يوم 13 يناير/كانون الثاني 2011، التقيت حسان كالعادة في بيته صباحاً، وقد سمعنا من بعض وسائل الإعلام أن رئيس الجمهورية في ذلك الحين، زين العابدين بن علي، سوف يلقي خطاباً إما مساءً أو ليلاً.

ولم يكن ذلك يعني الشيء الكثير، فقد عمت المظاهرات والاحتجاجات جميع البلاد من شمالها إلى جنوبها، ومن الصعب أن يسيطر الرئيس على الأوضاع بمجرد إلقاء كلمة متوقعة سوف تغلفها نبرة التهديد وتطبيق القانون وغيرها من المصطلحات السلطوية.

وبالفعل، ألقى بن علي ليلتها خطاباً، عُرف بعد ذلك بخطاب "غلطوني"، في إشارة إلى دوائر السلطة والعائلة المحيطة به. ولم يكن يعرف بن علي ليلتها أنها آخر ليلة له في قصر قرطاج.. وأن يوم غد هو يوم سيقلب العالم.

استفقت على الساعة السابعة صباحاً يوم الـ14 من يناير/كانون الثاني 2011، لأتوجه إلى شارع الحبيب بورقيبة حيث نظَّم الاتحاد العام التونسي للشغل مسيرة وطنية في يوم الإضراب العام الوطني، والتقيت صديقي حسان يومها أمام فندق "الهناء" الدولي، وقد بدأت مسيرة المحامين والقضاة تقترب من باب بحر نحو وزارة الداخلية، فاندمجنا وسط المتظاهرين وتوجهنا معهم إلى الوزارة وبقينا مع الجماهير طيلة ساعات، حتى رفع أحدهم شعاراً مكتوباً "نحو قصر قرطاج" وشعاراً آخر "انتهت اللعبة Game over".

وأتذكر ُبعيدها كيف خرجت القوات الأمنية لتفريق المسيرة وإلقاء القنابل المسيّلة للدموع، التي اشتممت غازها لأول مرة في حياتي. ولم ألبث أن عدت إلى البيت حتى سمعت الخبر في قناة الجزيرة يقول: "الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يغادر البلاد ورئيس البرلمان يتسلم السلطة". حينها، انتهت حقبة بن علي التي استمرت 23 عاماً على رأس السلطة.

ماذا بعد؟
اليوم الموالي لهروب بن علي كان يوماً غائماً وشديد البرد. غادرت المنزل نحو وسط العاصمة، وبالتحديد إلى مقر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين لأقف عند كل جديد. وفي الحقيقة، لم ألحظ طيلة الأيام التي تلت يوم 14 يناير/كانون الثاني تعطلاً في المصالح الإدارية أو توقف الحياة، فقط بعض الإشكالات التي كانت تتعلق بسلع تموينية حساسة كالحليب والخبز والزيت، شهدت انقطاعاً أو ندرة ثم عادت الأمور إلى نصابها.

تتالت الأيام بسرعة بعد ذلك، وانهمك كل منا، أنا والزميل حسان العيادي، كل في عمله. كنت حينها أكمل السنة الأخيرة من الإجازة الأساسية في علوم الإعلام والاتصال وحسان أيضاً، وقد عملنا أيضاً مع وسائل إعلامية دولية عديدة، أتذكر أن من بينها TV5 monde، التي قامت بروبورتاج عن الشباب التونسي، الجيل الذي لم يعرف سوى بن علي!

أعلنت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي كان يقودها أستاذ القانون عياض بن عاشور، تأجيل انتخابات المجلس التأسيسي التي كان من المزمع القيام بها في يوليو/تموز 2011. ودون الدخول في التفاصيل، اتفقت الأطراف السياسية حينها على أن يكون موعدها 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وقد تم ذلك بالفعل.

وفي الأثناء، عمت الاحتجاجات والإعتصامات مدن تونس، وخاصة اعتصامي القصبة 1 والقصبة 2 اللبان تسبَّبا في استقالة الوزير الأول آنذاك محمد الغنوشي، ثم إجبار وزراء النظام السابق على ترك مناصبهم الوزارية وفسح المجال أمام حكومة تعبر عن "الثوار".

كنت أتابع تلك الاعتصامات من كثب، ولم أكن أمتهن الصحافة بعد، فقط كنت أدوّن بعض الملاحظات والتصريحات والأحداث في كراس خاص، أضعته بعد ذلك؛ لكثرة تنقلاتي. وها قد جاء موعد الانتخابات يوم الأحد 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وشهدت خلالها تونس أول انتخابات تعتبر حرة نسبياً، حيث شارك الجميع فيها وأدت إلى فوز حركة النهضة وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وأحزاب أخرى. وتشكلت أول حكومة بعد 14 يناير/كانون الثاني 2011 من الأحزاب الثلاثة الأولى؛ النهضة والتكتل والمؤتمر، وسميت بعد ذلك بحكومة الترويكا.

دست على حذاء الرئيس!
في تلك الفترة وبعد أن وضع النظام السياسي الجديد أوزاره وترأس محمد المنصف المرزوقي الجمهورية وحمادي الجبالي الحكومة ومصطفى بن جعفر المجلس التأسيسي، كنت أبحث عن عمل لي كصحفي بعد أن تخرجت سنة 2012، تاركاً ورائي مطلب الترشح لدخول مرحلة ماجستير البحث في علوم الإعلام والاتصال.

وبالفعل، تمكنت من العمل مع السيد يوسف الوسلاتي، رئيس تحرير صحيفة "آخر خبر" التي لا أعرف مصيرها الآن إن كانت لا تزال تصدر أم أغلقت. المهم أنني أسهمت في تأسيسها وكتابة أولى المقالات التي صدرت فيها، وقد أحدث الأمر ضجة بعد ذلك نتيجة نقد الباجي قايد السبسي، الذي قدم مبادرة في تلك الفترة سماها "نداء تونس"، ثم تحولت إلى حزب يحكم تونس اليوم.

أذكر في تلك الفترة أن الأمم المتحدة أرادت أن تحتفل باليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايو/أيار 2012)، وتم استدعاؤنا من قِبل أساتذة معهد الصحافة؛ لنساهم في تغطية الحدث. فحدث أن حضرنا في حفل الاستقبال الذي نظمته رئاسة الجمهورية على شرف الحضور، وكان من بينهم إيرينا بوكوفا الأمينة العامة لليونيسكو، والرئيس محمد المنصف المرزوقي.

بعد إلقاء الكلمات، فتحت الرئاسة فضاءً حراً للناس كي يتحدث بعضهم إلى بعض في شرفة تطل على البحر من إحدى قاعات القصر الرئاسي. سمعت زميلة لي تنادي علي وهي تحضني على المجيء بسرعة، ولم أعر اهتماماً إلى من يقف ورائي؛ إذ لم ألحظ أنه الرئيس..

وعندما هممت بالتحرك تجاه الزميلة دست على حذاء الرئيس. ولم أتفطن إلى ذلك إلا عندما التفت لأطلب المعذرة من الشخص الذي دست على حذائه، فوجدت الرئيس ينظر إلى حذائه، مواصلاً الحديث إلى مستشاره عدنان منصر.

مرت سنوات الترويكا بسرعة، لكنها سرعة مميتة وقاتلة بالنسبة للتونسيين. فقد غلب على طابع الحكم حينها النزعة الإسلامية، وازدهرت الجمعيات والأحزاب والجماعات الدينية التي نشطت بقوة وكثرة حتى تغلغلت وسط المجتمع، وخاصة داخل الأحياء الهامشية.

وقامت بذلك منظمات مصنفة إرهابية، بإقامة الندوات والاجتماعات، ومن بينها مؤتمر أنصار الشريعة الذي عُقد في القيروان في مايو/أيار 2013 بحضور شخصيات في أعلى لوائح المطلوبين لدى الأمن التونسي والدولي والتي حاول الأمن التونسي منعها.

طبعاً، لم يكن منع الأمن ذلك المؤتمر من فراغ؛ فقد كانت تونس تعيش تحت وقع أول اغتيال سياسي بعد 14 يناير/كانون الثاني 2011، وهو اغتيال شكري بالعيد يوم 6 فبراير/شباط 2013. طبعاً، قد لا يكفي هذا الفضاء لرواية تفاصيل عيشي تلك الواقعة، لكنني أتذكرها جيداً.

فقد كنت أقطن في مكان قريب جداً من مكان اغتيال الشهيد، وقد رافقت بعض أصدقائه إلى المصحة حيث كانت جثته تخضع لمحاولة إنقاذ يائسة. لم تمر أشهر بعدها وتم اغتيال الشهيد محمد البراهمي أيضاً في رمضان من العام نفسه، وأذكر أيضاً أنني هرعت إلى المستشفى حيث لفظ أنفاسه الأخيرة.

تأكدت من أن حال البلاد لن يكون على ما يرام ما دامت الترويكا في الحكم، خاصة على المستوى الأمني، الذي أثر بدوره في الاقتصاد والسياسة والمزاج العام للناس. فبعد اغتيال البراهمي، نزل الآلاف إلى الشوارع للتنديد بالترويكا، وتمكن المعتصمون أمام مقر البرلمان في باردو من الضغط على السلطة وفرض تغيير في الحكومة الأولى لـ"علي العريض"، ثم تنصيب حكومة ثانية تكنوقراط يرأسها المهدي جمعة والتي قادت البلاد بمفاوضات أشرف عليها الرباعي الراعي للحوار: اتحاد الشغل، وعمادة المحامين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، واتحاد الأعراف، إلى انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014 وصعود معادلة سياسية جديدة.

تواصُل الإرهاب.. ونوبل للسلام
كنت قد سافرت في أواخر شهر أغسطس/آب 2014، إلى إيطاليا لأكمل دراستي هناك. فقد حصلت على منحة من جامعة تورينو كي أكمل الماجستير في العلوم السياسية، وهناك عشت أحداثاً أخرى قد لا تحتمل هذه المقالة ذكرها.

لكني أتذكر يوم ذهابي إلى مطار ميلانو لاقتطاع تذكرة طائرة نحو تونس، أن أحدهم اعترضني أمام شباك الخطوط التونسية في المطار، وسألني إن كنت تونسياً أم لا فأجبته بـ"نعم"، وحينها قال لي إن الوضع الأمني متوتر للغاية وإن عملية إرهابية قد حدثت في متحف باردو بالعاصمة تونس، وهناك الكثير من الضحايا. وبالفعل، وجدت الخبر في الصفحات الأولى للصحف الإيطالية المسائية بأكشاك ميلانو كما هو مبين في هذه الصورة:

***مكان الصورة***

عدت إلى تونس في أواخر مارس/آذار 2015، إذ لا تزال البلاد تعيش على وقع ذلك الهجوم الدموي الذي أودى بحياة الكثيرين. ولم ألبث أن بقيت أشهراً ثلاثة حتى يطالعنا أحد الإرهابيين بهجوم صادم استهدف شاطئ فندق الإمبريال في مدينة سوسة.. ثم بعد 5 أشهر، هجوم آخر انتحاري استهدف حافلة للأمن الرئاسي في شارع محمد الخامس بقلب العاصمة تونس.

في ذلك العام، لا أتذكر أي نقطة مضيئة بتاريخ تونس سوى حصول الرباعي الراعي للحوار على جائزة نوبل للسلام. وقد كان الخبر مفرحاً بالنسبة لنا جميعاً؛ لأن ذلك سيساهم في تحسين صورة تونس بالخارج، خاصة أن أنباء مشاركة التونسيين في تنظيم داعش الإرهابي بالشرق الأوسط تتهاطل علينا كل يوم، طبعاً مع تسجيلات فيديو فيها وعيد وتهديد لتونس من قِبل هؤلاء عند عودتهم.

مرت سنتان ونيف إلى حد الآن منذ تلك اللحظات، تفاقمت فيها الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية على التونسيين، في ظل تقارير بالصحافة تشير إلى وضعنا المتردي، خاصة على المستوى المعيشي، وقد كان ذلك ملاحَظاً في الشارع، حيث المزاج العام للتونسيين كان -ولا يزال- متقلباً.

انخفضت قيمة الدينار التونسي إلى مستويات مخيفة، خاصة مع بدء تسلُّم رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، مهامه كرئيس للحكومة يوم 6 أغسطس/آب 2016، بعد أزمة سياسية أطاحت برئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصيد. وشهدت حكومته تحويراً وزارياً هاماً في سبتمبر/أيلول الماضي.

وفي كل الحالات، بقيت أتابع التطورات السياسية والاجتماعية بتونس كصحفي رغم اهتمامي بالمضامين الثقافية في أحيان كثيرة؛ نظراً إلى إرهاقٍ ذهنيٍّ أصابني جراء الكتابة في السياسة، لكنها تفرض نفسها عليّ في كل مرة أتهرب منها. فكل شيء مرتبط بالسياسة حتى مواعداتي الفتيات، التي لم أطِل في أي علاقة منها أكثر من شهر؛ لشدة وطأة الصحافة عليّ.

على كل.. أخذت الأحداث بهذه البلاد اللطيفة في التطور إلى أن وصلنا إلى الأسبوع الماضي، حيث أطلقت مجموعات شبابية كانت تقود حملة "مانيش مسامح" ضد قانون المصالحة حملة أخرى بعنوان "فاش نستناو" وهو شعار محفز على رد الفعل المواطنين أمام الزيادات الأخيرة في الأسعار والإجراءات الحكومية التقشفية، التي تقول إنها في صالح الاقتصاد وإنها آخر الإجراءات المؤلمة وإن تونس ما بعد 2018 سوف تكون الجنة الموعودة.

أتذكر منذ يومين أن الأمن رشق محتجين شباباً بالغاز المسيل للدموع قرب منزلي في العاصمة تونس، وأتذكر أيضاً كيف دخل الغاز إلى المنزل وانقطع عني النفس بينما كنت أطبخ "عجة"، وقد احترقت في آخر المطاف. ولم أجد بُداً ليلتها سوى الاتصال بصديقي حسان العيادي وسؤاله عن عشائه، ليجيبني بأنها "عجة"، وأنه أمام التلفزيون يشاهد تقارير المظاهرات في الشارع.. فتح لي باب منزله وهو يضع قطعة قماش على أنفه..





ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/saif-aldin-alamiri/-_14728_b_19036208.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات