"علمني الواقع المر أن القوة الغاشمة والحيلة المكيافيلية غالباً ما تنتصران على ما تقتضيه أخلاق المناضل المخلص وحسن نيته".
بهذه الخاتمة اختار محمد مزالي، وزير بورقيبة طيلة عقدين من الزمن، أن ينهي مذكراته التي حملت عنوان "نصيبي من الحقيقة"، وقد حاول خلالها ومن منفاه الاضطراري الذي لجأ إليه هرباً من بطش نظام طالما كان أحد أعمدته، أن يبرئ نفسه من تهم الفساد والاختلاس والخيانة، وأن يمحو من ذهن القارئ صورة رجل النكسة الاقتصادية والزيادات في الأسعار وذكرى واحدة من أشد الأزمات وطأة على التونسيين منذ عصر ما بعد الاستقلال.
مزالي أشار في مذكراته إلى الضغوط التي مارسها صندوق النقد الدولي على البلاد في سبيل تحرير الاقتصاد والتخفيض من قيمة الدينار التونسي، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، كاشفاً حقيقة أن خياراته الاقتصادية التي آخذه عليها الشعب كانت مفروضة عليه وإن كان قد قاومها ردحاً من الزمن باحثاً عن حلول أو شراكات قد تنعش البلاد الواقفة على شفا جرف هار.
كانت لمزالي بعض المآثر، أهمها وعيه بضرورة الشراكة الاقتصادية بين دول الجنوب وإيمانه بأن التعاون "جنوب - شمال" لن يكون مثمراً لدول ما تسمى بالعالم الثالث، إلا إذا كان مرتكزاً على تعاون "جنوب - جنوب" يجعل من الدول النامية نِداً للدول الكبرى، إضافة لإيمانه بالتكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية، مقسماً الوطن العربي إلى ثلاثة مكونات تتكامل فيما بينها وتشكل سوقاً مفتوحة لا حدود لها: المكون الأول يملك الأرض الخصبة، والثاني الوسائل المالية، والثالث الموارد البشرية.
لكن هذه التوجهات لم تجد طريقها إما لاختلافها مع ما يؤمن به بورقيبة، أو لأنها اقتصرت على النظريات الفكرية، وخلت من أي مبادرة تطبيقية تخرج تونس من علاقتها العمودية مع جارها الشمالي.
وتحفظ ذاكرة المؤرخين لمزالي أنه كان من القلائل الذين دافعوا عن ضرورة تعريب التعليم خلال سنوات ترؤسه لوزارة التربية، ولو أن هذا البرنامج كان أيضاً محتشماً ولم يغادر موقع الشعارات الرنانة إلا لماماً، وربما اصطدم بجيش من الفرنكفونيين في البلاط وبعدم تحمس بورقيبة للغة الضاد، لكن ما إن تسأل الشارع اليوم عن مزالي حتى يذكر لك الارتفاع المشط في الأسعار الاستهلاكية وأحداث الخبز التي راح ضحيتها عدد من الشباب الثائر على قراره بالترفيع في أسعار المادة الأساسية الأولى، وتفشي الفقر والبطالة وانهيار البنى التحتية المتهالكة أصلاً، ربما وقع مزالي من حيث لا يعلم في الشَّرَك الذي نصبه له محترفو المكائد والدسائس بين أروقة قصور السياسة؛ لتكون حربه مع الشارع بداية نهاية مشواره السياسي، وربما كان ذلك أسلوب بورقيبة للتخلص من خليفته المحتمل الذي تنامت طموحاته وتشعبت شبكة علاقاته الدولية، وأياً تكن الأسباب، فإن تجربة مزالي في الحكم تكشف أن الاقتصاد هو المحرك الأول للجماهير، وأن فاتورة إرضاء صندوق النقد الدولي قد تكون باهظة بالنسبة لسياسي لا يزال يبحث عن أيسر السبل نحو مراقي المجد والعظمة لذاته ولأمته.
تجربة مزالي ربما تتكرر اليوم مع يوسف الشاهد، والظروف تبدو متشابهة حد التطابق في كثير من التفاصيل، ومع دعوة راشد الغنوشي للشاهد إلى إعلان نيته عدم الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، تتجلى بعض الصراعات داخل ذات تلك الأروقة في القصر حول الخليفة المرتقب للباجي، إذا ما منعته حالته الصحية من الترشح مجدداً.
قد يرد البعض بالقول: إن تونس ما بعد الثورة مغايرة لتونس الثمانينات، وإنه لا يمكن اليوم التكهن بمن سيحكم البلاد في ظل انتخابات شهد العالم بأسره بنزاهتها، وهنا نرد بأن تحالف الحزب القديم مع الإسلاميين قد يحسم إلى حد بعيد أمر الانتخابات حتى قبل ظهورها، وأن من سيرشحه الشيخان سيكون بنسبة تقارب المائة بالمائة هو الحاكم القادم للبلاد، وهنا فإن فرضية الإيقاع بالشاهد وإخراجه من حلبة السباق بجره نحو الصدام مع الجماهير إثر الزيادات المتواترة في أسعار معظم المواد والانهيار المستمر للدينار التونسي، تبدو منطقية، وتكرار سيناريو إقصاء المزالي قد لا يبدو مستبعداً مع الشاهد الذي بدأ يفقد الكثير من الشعبية التي حصدها إثر ما سماها "الحرب على الفساد"، ولو أنها كانت حرباً انتقائية في معظم فصولها تستهدف من الفاسدين مَن خرج عن خط الموالاة، وأنها أيضاً فصل آخر من فصول تعبيد الطريق أمام ما سيقرره الحاكمان بأمرهما إذا ما دام الود بينهما.
الشاهد اليوم شاهد على تدهور اقتصادي قد لا يكون مسبوقاً منذ فترة ما بعد مزالي إلى اليوم، وكل المؤشرات توحي بأن الفصل الثاني من أحداث الخبز ربما لم يعد يفصلنا عنه الكثير، وأن سقوط الشاهد قد يتلوه خطاب من رئيس الدولة يعلن فيه التراجع عن تلك الإجراءات، وإعادة النظر في ميزانية الدولة، في خطاب مكرر يعيد إلى الأذهان خطاب بورقيبة للشعب التونسي الثائر ذات يوم من أيام يناير/كانون الثاني سنة 1984، وإن كان مزالي قد رفض في بداية عهده على رأس الوزارة الأولى اقتراحات مجلس النقد الدولي "بحسب ما جاء في شهادته" ثم قبل بها مرغماً، فإن الشاهد لم يتوانَ منذ قدومه عن تطبيق شروط صندوق النقد المتمثلة أساساً في اعتماد الخصخصة وتخفيض النفقات وزيادة الإيرادات بشكل متسارع، مما تسبب في اعتقادنا في زيادة حالة الاحتقان في الشارع التونسي.
تونس تدور منذ عقود في حلقة مغلقة لا يبدو أنها ستخرج منها سريعاً ما دام ذئاب القصر على حالهم من صراعات وتحالفات ودسائس، وما دام سياسيوها واقتصاديوها يكررون التجارب ذاتها، ويبتهلون إلى القدير أن تكون النتائج مختلفة.
والشاهد اليوم نسخة من مزالي كما هو حال تونس اليوم شبيه بحالها في ثمانينات القرن الماضي، رئيس حكومة تحركه لوبيات القصر، وترمي إليه حيناً بجزرة النجاح في حروب دونكيشوتية؛ لتدفعه إلى حتفه يوم تتصادم مصالحها بمصالحه، ونعتقد أن الشاهد الذي عمل خبيراً فلاحياً لدى السفارة الأميركية قبل أن يستدعى للعمل في حكومة الحبيب الصيد لم يسلك المسار الوحيد الذي كان سيمكنه من كسر ربقة المستعمر القديم الجديد، فعدم مراجعة العقود بين الدولة والشركات الأجنبية الباحثة عن الطاقة والموارد الأولية فاقم مديونية البلاد وجعلها عاجزة عن تحقيق تنمية دائمة ومستقلة، وقرار الباجي بنشر الجيش لحماية مناطق الطاقة من المتظاهرين يخفي وراءه رضوخاً للغرب بعدم فتح ملف المحروقات والثروات الباطنية، والإبقاء على حالة الارتهان الاقتصادي للأجنبي.
مزالي لم يكن ثائراً متمرداً رغم بعض المواقف التي كانت تؤهله لذلك، وقد حمّل في كتابه الخلاف التونسي الليبي أكثر مما يحتمل، والشاهد يبدو أكثر منه التزاماً بقيود الغرب ومَن يمثلهم.
ونعتقد أنه يسلك ذات الطريق التي أدت إلى صدام مزالي بالشارع، وإلى القضاء على مستقبله السياسي، وإن كانت هذه الطريق المفخخة ستقضي في نهايتها على مستقبله السياسي، فإنها ستمنح الأطراف الأخرى التي تتحكم فعلياً في البلاد نفساً جديداً، وستمكنها من تغيير الدُّمَى دون أن تغير هي سياسة الانقياد الأعمى للمستعمر الجديد.
بهذه الخاتمة اختار محمد مزالي، وزير بورقيبة طيلة عقدين من الزمن، أن ينهي مذكراته التي حملت عنوان "نصيبي من الحقيقة"، وقد حاول خلالها ومن منفاه الاضطراري الذي لجأ إليه هرباً من بطش نظام طالما كان أحد أعمدته، أن يبرئ نفسه من تهم الفساد والاختلاس والخيانة، وأن يمحو من ذهن القارئ صورة رجل النكسة الاقتصادية والزيادات في الأسعار وذكرى واحدة من أشد الأزمات وطأة على التونسيين منذ عصر ما بعد الاستقلال.
مزالي أشار في مذكراته إلى الضغوط التي مارسها صندوق النقد الدولي على البلاد في سبيل تحرير الاقتصاد والتخفيض من قيمة الدينار التونسي، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، كاشفاً حقيقة أن خياراته الاقتصادية التي آخذه عليها الشعب كانت مفروضة عليه وإن كان قد قاومها ردحاً من الزمن باحثاً عن حلول أو شراكات قد تنعش البلاد الواقفة على شفا جرف هار.
كانت لمزالي بعض المآثر، أهمها وعيه بضرورة الشراكة الاقتصادية بين دول الجنوب وإيمانه بأن التعاون "جنوب - شمال" لن يكون مثمراً لدول ما تسمى بالعالم الثالث، إلا إذا كان مرتكزاً على تعاون "جنوب - جنوب" يجعل من الدول النامية نِداً للدول الكبرى، إضافة لإيمانه بالتكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية، مقسماً الوطن العربي إلى ثلاثة مكونات تتكامل فيما بينها وتشكل سوقاً مفتوحة لا حدود لها: المكون الأول يملك الأرض الخصبة، والثاني الوسائل المالية، والثالث الموارد البشرية.
لكن هذه التوجهات لم تجد طريقها إما لاختلافها مع ما يؤمن به بورقيبة، أو لأنها اقتصرت على النظريات الفكرية، وخلت من أي مبادرة تطبيقية تخرج تونس من علاقتها العمودية مع جارها الشمالي.
وتحفظ ذاكرة المؤرخين لمزالي أنه كان من القلائل الذين دافعوا عن ضرورة تعريب التعليم خلال سنوات ترؤسه لوزارة التربية، ولو أن هذا البرنامج كان أيضاً محتشماً ولم يغادر موقع الشعارات الرنانة إلا لماماً، وربما اصطدم بجيش من الفرنكفونيين في البلاط وبعدم تحمس بورقيبة للغة الضاد، لكن ما إن تسأل الشارع اليوم عن مزالي حتى يذكر لك الارتفاع المشط في الأسعار الاستهلاكية وأحداث الخبز التي راح ضحيتها عدد من الشباب الثائر على قراره بالترفيع في أسعار المادة الأساسية الأولى، وتفشي الفقر والبطالة وانهيار البنى التحتية المتهالكة أصلاً، ربما وقع مزالي من حيث لا يعلم في الشَّرَك الذي نصبه له محترفو المكائد والدسائس بين أروقة قصور السياسة؛ لتكون حربه مع الشارع بداية نهاية مشواره السياسي، وربما كان ذلك أسلوب بورقيبة للتخلص من خليفته المحتمل الذي تنامت طموحاته وتشعبت شبكة علاقاته الدولية، وأياً تكن الأسباب، فإن تجربة مزالي في الحكم تكشف أن الاقتصاد هو المحرك الأول للجماهير، وأن فاتورة إرضاء صندوق النقد الدولي قد تكون باهظة بالنسبة لسياسي لا يزال يبحث عن أيسر السبل نحو مراقي المجد والعظمة لذاته ولأمته.
تجربة مزالي ربما تتكرر اليوم مع يوسف الشاهد، والظروف تبدو متشابهة حد التطابق في كثير من التفاصيل، ومع دعوة راشد الغنوشي للشاهد إلى إعلان نيته عدم الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، تتجلى بعض الصراعات داخل ذات تلك الأروقة في القصر حول الخليفة المرتقب للباجي، إذا ما منعته حالته الصحية من الترشح مجدداً.
قد يرد البعض بالقول: إن تونس ما بعد الثورة مغايرة لتونس الثمانينات، وإنه لا يمكن اليوم التكهن بمن سيحكم البلاد في ظل انتخابات شهد العالم بأسره بنزاهتها، وهنا نرد بأن تحالف الحزب القديم مع الإسلاميين قد يحسم إلى حد بعيد أمر الانتخابات حتى قبل ظهورها، وأن من سيرشحه الشيخان سيكون بنسبة تقارب المائة بالمائة هو الحاكم القادم للبلاد، وهنا فإن فرضية الإيقاع بالشاهد وإخراجه من حلبة السباق بجره نحو الصدام مع الجماهير إثر الزيادات المتواترة في أسعار معظم المواد والانهيار المستمر للدينار التونسي، تبدو منطقية، وتكرار سيناريو إقصاء المزالي قد لا يبدو مستبعداً مع الشاهد الذي بدأ يفقد الكثير من الشعبية التي حصدها إثر ما سماها "الحرب على الفساد"، ولو أنها كانت حرباً انتقائية في معظم فصولها تستهدف من الفاسدين مَن خرج عن خط الموالاة، وأنها أيضاً فصل آخر من فصول تعبيد الطريق أمام ما سيقرره الحاكمان بأمرهما إذا ما دام الود بينهما.
الشاهد اليوم شاهد على تدهور اقتصادي قد لا يكون مسبوقاً منذ فترة ما بعد مزالي إلى اليوم، وكل المؤشرات توحي بأن الفصل الثاني من أحداث الخبز ربما لم يعد يفصلنا عنه الكثير، وأن سقوط الشاهد قد يتلوه خطاب من رئيس الدولة يعلن فيه التراجع عن تلك الإجراءات، وإعادة النظر في ميزانية الدولة، في خطاب مكرر يعيد إلى الأذهان خطاب بورقيبة للشعب التونسي الثائر ذات يوم من أيام يناير/كانون الثاني سنة 1984، وإن كان مزالي قد رفض في بداية عهده على رأس الوزارة الأولى اقتراحات مجلس النقد الدولي "بحسب ما جاء في شهادته" ثم قبل بها مرغماً، فإن الشاهد لم يتوانَ منذ قدومه عن تطبيق شروط صندوق النقد المتمثلة أساساً في اعتماد الخصخصة وتخفيض النفقات وزيادة الإيرادات بشكل متسارع، مما تسبب في اعتقادنا في زيادة حالة الاحتقان في الشارع التونسي.
تونس تدور منذ عقود في حلقة مغلقة لا يبدو أنها ستخرج منها سريعاً ما دام ذئاب القصر على حالهم من صراعات وتحالفات ودسائس، وما دام سياسيوها واقتصاديوها يكررون التجارب ذاتها، ويبتهلون إلى القدير أن تكون النتائج مختلفة.
والشاهد اليوم نسخة من مزالي كما هو حال تونس اليوم شبيه بحالها في ثمانينات القرن الماضي، رئيس حكومة تحركه لوبيات القصر، وترمي إليه حيناً بجزرة النجاح في حروب دونكيشوتية؛ لتدفعه إلى حتفه يوم تتصادم مصالحها بمصالحه، ونعتقد أن الشاهد الذي عمل خبيراً فلاحياً لدى السفارة الأميركية قبل أن يستدعى للعمل في حكومة الحبيب الصيد لم يسلك المسار الوحيد الذي كان سيمكنه من كسر ربقة المستعمر القديم الجديد، فعدم مراجعة العقود بين الدولة والشركات الأجنبية الباحثة عن الطاقة والموارد الأولية فاقم مديونية البلاد وجعلها عاجزة عن تحقيق تنمية دائمة ومستقلة، وقرار الباجي بنشر الجيش لحماية مناطق الطاقة من المتظاهرين يخفي وراءه رضوخاً للغرب بعدم فتح ملف المحروقات والثروات الباطنية، والإبقاء على حالة الارتهان الاقتصادي للأجنبي.
مزالي لم يكن ثائراً متمرداً رغم بعض المواقف التي كانت تؤهله لذلك، وقد حمّل في كتابه الخلاف التونسي الليبي أكثر مما يحتمل، والشاهد يبدو أكثر منه التزاماً بقيود الغرب ومَن يمثلهم.
ونعتقد أنه يسلك ذات الطريق التي أدت إلى صدام مزالي بالشارع، وإلى القضاء على مستقبله السياسي، وإن كانت هذه الطريق المفخخة ستقضي في نهايتها على مستقبله السياسي، فإنها ستمنح الأطراف الأخرى التي تتحكم فعلياً في البلاد نفساً جديداً، وستمكنها من تغيير الدُّمَى دون أن تغير هي سياسة الانقياد الأعمى للمستعمر الجديد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/sofiene-ben-hassen/-_14609_b_18952752.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات