لقد أجاد أمارتيا سن بالقول: "إن الافتراض الغريب للغاية القائل إنه لا مفر من أن تصنّف شعوب العالم إلى فئات أحادية وفق نظم تقسيم واحدة وشاملة هو افتراض عفا عليه الزمن وما عاد يصلح [...] ففي الحياة اليومية، لا ينتمي البشر لمجموعة واحدة فقط [...] ونحن، في حياتنا العادية، ننظر إلى أنفسنا كأعضاء في عدة مجموعات - وننتمي لها جميعها.
ويمكن لنفس الشخص، بدون أي تناقض، أن يكون مواطناً أميركياً، أو من أصل كاريبي، أو من أصل إفريقي، أو مسيحياً، أو ليبرالياً، أو امرأة، أو نباتياً، أو عداء مسافات طويلة، أو مؤرخاً، أو مدرساً، أو كاتباً روائياً، أو مدافعاً عن حقوق المرأة، أو شخصاً لا يرغب حسّه غير الجنس الآخر، أو شخصاً يدافع عن حقوق المثليين والمثليات، أو شخصاً مولعاً بالمسرح، أو ناشطاً في مجال حماية البيئة، أو مشجعاً لرياضة التنس، أو ممارساً لموسيقى الجاز [...] ولا يمكن لأي مما ذكرنا أن يعتبر وحده قوام هوية الإنسان أو المحدد الفريد لانتمائه الفئوي".
يأتي نشر تقرير اليونسكو العالمي المعنون بـ"الاستثمار في التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات" في العام 2010م، في ضوء الأحداث العالمية الراهنة؛ حيث أشار التقرير إلى عدد من الأولويات المتنافسة ذات الصلة بمتغيرات التكيّف مع تداعيات الأزمة المالية بالنسبة للاقتصاد وأسواق العمل والسياسات الاجتماعية والتعاون الدولي.. وكانت فيه الثقافة إحدى ركائز ذلك التكيف، بل في الغالب بأنها أول المتأثرين بها، ولذلك يسعى هذا التقرير العالمي إلى التدليل على أن الاعتراف بالتنوع الثقافي يساعد على تجديد استراتيجيات المجتمع الدولي في سلسلة من المجالات.
ففي القسم الأول للتقرير: التنوع الثقافي: إرث نحافظ عليه، ورهان لا بد من كسبه، فقد أشار إلى أن التنوع الثقافي ينبغي أن يُعرف باعتباره القدرة على إبقاء ديناميات التغيير داخلنا كأفراد وجماعات، وبذلك لا يكون الدين سوى عامل من العوامل التي تُشكل الهويات الفردية والجماعية، ويمكن أن نضيف إليه العِرق والجنس واللغة.
وإلى وقت قريب جداً كان التنوع الثقافي يعتبر مساوياً لتنوع الثقافات الوطنية.
وحتى في دستور اليونسكو (1945)، ترد الإشارة إلى التنوع الثقافي في مادة تتعلق باحترام الشأن الداخلي للدول الأعضاء وعدم تدخّل المنظمة "في أي شأن يكون من صميم السلطان الداخلي لهذه الدول"، وذلك من باب الحرص "على تأمين استقلال الثقافات والنظم التربوية وسلامتها وتنوعها المثمر في الدول الأعضاء (المادة 1، الفقرة 3).
وطوال فترة تصفية الاستعمار واستقلال الشعوب، كان مفهوم "الثقافوية" يتطابق مع مفهوم للهويات الثقافية استخدم لإضفاء مشروعية على ظهور مسارات وطنية جديدة.
وربما كان انبعاث العامل الديني مرتبطاً مباشراً بانحسار فكر الأمة كمصدر للهوية الثقافية.
ولكن بات التماثل بين الهويات الثقافية والهويات الوطنية يفقد معناه وجدواه باطراد في عالم يتجه للعولمة، ويميل إلى طمس الحدود الوطنية، ويعيد تنشيط الهويات الثقافية.
ومع ذلك، تظل الهوية الوطنية تمثل البعد الوحيد للهوية الثقافية في عالم اليوم الذي صار أكثر تعقيداً بفعل التبادلات البشرية ذات المدى والشدة والسرعة التي لم يسبق لها مثيل، ذلك أن أساس الهوية الوطنية، الذي يعبّر عن واقع جرى تعريفه وبناؤه استجابة لمشاريع ذات طابع سياسي، تتلبسه في العادة انتماءات عديدة أخرى.
أما نحن ففصرنا نعرّف أنفسنا باطراد، أفراداً وجماعات، كهويات متعددة.
وكل فرد يجد نفسه في خضم هذه التعددية من الهويات المحتملة يعيشها أو يديرها بصورة مختلفة.
فالبعض يؤكد حقه في الاستغناء عن الهويات القديمة واختيار هويات جديدة، وهي مرحلة مميزة في عملية إعادة بناء الهوية.
ولكن على الرغم من ذلك، فإن الرموز والتقاليد الوطنية تسعى دوماً إلى التشبث والبقاء والترسّخ، إلا أن الحقائق التي تمثلها ليست ثابتة.
ذلك أن الثقافات لا تتوقف عن التغيير والتحول الذاتي في عملية مركبة ومعقدة وليست طولية خطية.
فالثقافة أشبه بنهر يتدفق عبر مناطق شاسعة يهب الحياة للناس، ونتيجة لذلك، ذهب البعض إلى حد القول: إن الهوية الثقافية ليست سوى "وَهْم"، وقال آخرون: إن الثقافة يجب أن ينظر إليها كمشروع للمستقبل أكثر منها كإرث من الماضي.
وخلاصة الأمر هي أنه ينبغي النظر إلى الهوية الثقافية كصيرورة مستمرة -شأنها شأن الثقافة- وأن تُرى من منظور النمو الإبداعي.
وعلى ضوء ما سبق، كيف لمنظمة اليونسكو -في المرحلة الراهنة- أن تواجه التحديات الجديدة التي شهدتها الأحداث العالمية خلال السنوات الأخيرة، لا سيما بعد إصدار ونشر هذا التقرير العالمي في العام 2010م، ذلك أن صون تراثنا الثقافي المادي وغير المادي، وحفز الإبداع وتعزيز آفاق ثقافية جديدة ستظل تحديات هائلة، والتي لا يمكن اختزالها بسهولة إلى فئات محددة، أو مجالات معينة.
وهذا يعني الحاجة إلى تجاوز التركيز على الاختلافات التي لا يمكن أن تكون إلا مصدراً للنزاع والجهل وسوء الفهم من خلال التوجه نحو "حوكمة المصالحة" التي تشكل أوثق ضمان للسلام، مما قد يستدعي خلق نهج جديد معنيّ بوضع الآليات الجديدة اللازمة لصياغة اتجاه التفكير الدولي إزاء سياسات المنظمة في القضايا الرئيسية التي تدخل في مجال اختصاصها.
* للتأمل:
"إن التنوع الثقافي ضروري للجنس البشري ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحية".
ويمكن لنفس الشخص، بدون أي تناقض، أن يكون مواطناً أميركياً، أو من أصل كاريبي، أو من أصل إفريقي، أو مسيحياً، أو ليبرالياً، أو امرأة، أو نباتياً، أو عداء مسافات طويلة، أو مؤرخاً، أو مدرساً، أو كاتباً روائياً، أو مدافعاً عن حقوق المرأة، أو شخصاً لا يرغب حسّه غير الجنس الآخر، أو شخصاً يدافع عن حقوق المثليين والمثليات، أو شخصاً مولعاً بالمسرح، أو ناشطاً في مجال حماية البيئة، أو مشجعاً لرياضة التنس، أو ممارساً لموسيقى الجاز [...] ولا يمكن لأي مما ذكرنا أن يعتبر وحده قوام هوية الإنسان أو المحدد الفريد لانتمائه الفئوي".
يأتي نشر تقرير اليونسكو العالمي المعنون بـ"الاستثمار في التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات" في العام 2010م، في ضوء الأحداث العالمية الراهنة؛ حيث أشار التقرير إلى عدد من الأولويات المتنافسة ذات الصلة بمتغيرات التكيّف مع تداعيات الأزمة المالية بالنسبة للاقتصاد وأسواق العمل والسياسات الاجتماعية والتعاون الدولي.. وكانت فيه الثقافة إحدى ركائز ذلك التكيف، بل في الغالب بأنها أول المتأثرين بها، ولذلك يسعى هذا التقرير العالمي إلى التدليل على أن الاعتراف بالتنوع الثقافي يساعد على تجديد استراتيجيات المجتمع الدولي في سلسلة من المجالات.
ففي القسم الأول للتقرير: التنوع الثقافي: إرث نحافظ عليه، ورهان لا بد من كسبه، فقد أشار إلى أن التنوع الثقافي ينبغي أن يُعرف باعتباره القدرة على إبقاء ديناميات التغيير داخلنا كأفراد وجماعات، وبذلك لا يكون الدين سوى عامل من العوامل التي تُشكل الهويات الفردية والجماعية، ويمكن أن نضيف إليه العِرق والجنس واللغة.
وإلى وقت قريب جداً كان التنوع الثقافي يعتبر مساوياً لتنوع الثقافات الوطنية.
وحتى في دستور اليونسكو (1945)، ترد الإشارة إلى التنوع الثقافي في مادة تتعلق باحترام الشأن الداخلي للدول الأعضاء وعدم تدخّل المنظمة "في أي شأن يكون من صميم السلطان الداخلي لهذه الدول"، وذلك من باب الحرص "على تأمين استقلال الثقافات والنظم التربوية وسلامتها وتنوعها المثمر في الدول الأعضاء (المادة 1، الفقرة 3).
وطوال فترة تصفية الاستعمار واستقلال الشعوب، كان مفهوم "الثقافوية" يتطابق مع مفهوم للهويات الثقافية استخدم لإضفاء مشروعية على ظهور مسارات وطنية جديدة.
وربما كان انبعاث العامل الديني مرتبطاً مباشراً بانحسار فكر الأمة كمصدر للهوية الثقافية.
ولكن بات التماثل بين الهويات الثقافية والهويات الوطنية يفقد معناه وجدواه باطراد في عالم يتجه للعولمة، ويميل إلى طمس الحدود الوطنية، ويعيد تنشيط الهويات الثقافية.
ومع ذلك، تظل الهوية الوطنية تمثل البعد الوحيد للهوية الثقافية في عالم اليوم الذي صار أكثر تعقيداً بفعل التبادلات البشرية ذات المدى والشدة والسرعة التي لم يسبق لها مثيل، ذلك أن أساس الهوية الوطنية، الذي يعبّر عن واقع جرى تعريفه وبناؤه استجابة لمشاريع ذات طابع سياسي، تتلبسه في العادة انتماءات عديدة أخرى.
أما نحن ففصرنا نعرّف أنفسنا باطراد، أفراداً وجماعات، كهويات متعددة.
وكل فرد يجد نفسه في خضم هذه التعددية من الهويات المحتملة يعيشها أو يديرها بصورة مختلفة.
فالبعض يؤكد حقه في الاستغناء عن الهويات القديمة واختيار هويات جديدة، وهي مرحلة مميزة في عملية إعادة بناء الهوية.
ولكن على الرغم من ذلك، فإن الرموز والتقاليد الوطنية تسعى دوماً إلى التشبث والبقاء والترسّخ، إلا أن الحقائق التي تمثلها ليست ثابتة.
ذلك أن الثقافات لا تتوقف عن التغيير والتحول الذاتي في عملية مركبة ومعقدة وليست طولية خطية.
فالثقافة أشبه بنهر يتدفق عبر مناطق شاسعة يهب الحياة للناس، ونتيجة لذلك، ذهب البعض إلى حد القول: إن الهوية الثقافية ليست سوى "وَهْم"، وقال آخرون: إن الثقافة يجب أن ينظر إليها كمشروع للمستقبل أكثر منها كإرث من الماضي.
وخلاصة الأمر هي أنه ينبغي النظر إلى الهوية الثقافية كصيرورة مستمرة -شأنها شأن الثقافة- وأن تُرى من منظور النمو الإبداعي.
وعلى ضوء ما سبق، كيف لمنظمة اليونسكو -في المرحلة الراهنة- أن تواجه التحديات الجديدة التي شهدتها الأحداث العالمية خلال السنوات الأخيرة، لا سيما بعد إصدار ونشر هذا التقرير العالمي في العام 2010م، ذلك أن صون تراثنا الثقافي المادي وغير المادي، وحفز الإبداع وتعزيز آفاق ثقافية جديدة ستظل تحديات هائلة، والتي لا يمكن اختزالها بسهولة إلى فئات محددة، أو مجالات معينة.
وهذا يعني الحاجة إلى تجاوز التركيز على الاختلافات التي لا يمكن أن تكون إلا مصدراً للنزاع والجهل وسوء الفهم من خلال التوجه نحو "حوكمة المصالحة" التي تشكل أوثق ضمان للسلام، مما قد يستدعي خلق نهج جديد معنيّ بوضع الآليات الجديدة اللازمة لصياغة اتجاه التفكير الدولي إزاء سياسات المنظمة في القضايا الرئيسية التي تدخل في مجال اختصاصها.
* للتأمل:
"إن التنوع الثقافي ضروري للجنس البشري ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحية".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/walid-almatari/story_b_18931290.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات