الثلاثاء، 20 فبراير 2018

العبادة.. روح وشكل وثمار

العبادة.. روح وشكل وثمار

يَعْتَبِرُ (د. إسماعيل الفاروقي) الاصطلاح الذي يُسمِّي (الشعائر) الإسلامية بالعبادات خاطئاً ومرفوضاً.

فالعبادة في الإسلام ليست الشعائر فقط، ويمكن اعتبار الشعائر كلها هي الحد الأدنى للتعبّد الإسلامي؛ إذ الإسلام لا يُقسِّم الحياة إلى دين ودنيا، بل يجمعهما معاً في إطار واحد، هو الإسلام، فحراثة الأرض والإنتاج في المصنع أو المكتب عبادة، والحمل وتربية النسل والعناية بالبيت عبادة، والجهاد في سبيل الله، والترفيه عن النفس المرهقة عبادة، والتفقه في الدين والكيمياء والفيزياء عبادة، حتى كأن العمل في الإسلام هو عبادة يمكن أن تختصر من أجله العبادة (الشعائر).

بل إن العمل الذي يُعتبر ركيزة التنمية المستدامة في جميع المجالات هو قرين العبادة، بل هو عبادة، يُؤجر المرء عليها إن صحَّت نيته ويسد بها للمسلمين ثغرة هم في أمسِّ الحاجة إلى مَن يرابط فيها.

ويصرُّ الإسلام على أن الإنسان يصنع تاريخه بيده. فكل نفسٍ بما كسبت (عملت) رهينة، ولا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الإنسان إذا عمل فسيرى اللهُ ورسولُه والمؤمنون عمله، كما يقول لنا الإسلام أيضاً، إن الصلاة تدفع إلى المعروف وتنهى عن المنكر، وإن رمضان هو شهر البركات، وإن الزكاة خيرٌ محضٌ مادياً ومعنوياً، أي فلاح لمن تزكّى، وذكر اسم ربه فصلَّى، بمعنى أنه لا بد للعمل الجاد من أن يؤتي ثماره المرجوّة.

فالحياة ليست عبثاً والأرض ليست شراً. والله جلَّت قدرته قد وضع في الإنسان من المواهب والقدرات ما يضمن له تحويل ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون.

وبالتالي، فإن إتقان الشخص لعمله يصبح شكلاً من أشكال العبادة وفريضة دينية، من السهل تحقيقها من خلال الالتزام بالإيمان وقناعاته.

وهي نفس المعاني التي توصَّل لها (محمد أسد) من خلال تأمُّله لمغزى العبادة في الإسلام، إذ وجد أنها نظامٌ بديعٌ مركَّبٌ من التزكية الروحية والتنظيم الاجتماعي: "إن الفكرة الإسلامية في العبادة لا تشمل الصلوات فحسب، بل تشمل الحياة كلها. أما هدفها فهو جمع ذاتنا الروحية وذاتنا المادية في كلٍ واحد".

وكان يستغرب من سلوك بعض المسلمين في علاقتهم بالعبادات، وذكر مثالاً على ذلك في كتابه (الطريق إلى مكة)، واصفاً شخصاً كبيراً وحاكماً متصرفاً في سلطانه؛ حيث قال عنه: "إنه متواضع، ذو همة كبيرة على العمل، ولكنه في الوقت نفسه ينهمك ويسمح لمن حوله بالانهماك في المتارف المسرفة، إنه متدين جداً، ويُنفِّذ بالحرف كل الأوامر والنواهي الشكلية في الشريعة الإسلامية، ولكنه كان نادراً ما يعطي اهتماماً لجوهر هذه الأوامر وأغراضها، إنه يؤدي فروض الصلاة الخمسة في أوقاتها تماماً، ويقضي الساعات الطوال في التهجد، ولكن الظاهر أنه لم يخطر له قط أن الصلاة وسيلة فحسب وليست غاية في حد ذاتها".

وهي نتيجة توصَّل إليها الشيخ (محمد الغزالي) من خلال تجاربه مع أصحاب (التديُّن الزائف)؛ حيث ارتكب أحدهم خطأً معه، ثم عَرَفَ الحق فكَرِه الاعتذار، وتمنّى لو لم يعرف هذا الحق!! هذه طباع بعض (الخوارج) قد يكرهون أهل الإيمان، ويتساهلون مع أهل الكفر، وقد علَّق على هذا الموقف بالقول: "إن الفرق بين تديُّن الشكل وتديُّن الموضوع (الجوهر)، هو قسوة القلب أو رقَّته في التعامل مع الآخرين! وبعض الناس فى طباعهم جلافة وقساوة لا تخفيها صور العبادات التي يستسهلون أداءها".

وهو أيضاً ما انتهى إليه (محمد إقبال)، حين درس الحضارات والثقافات، وقرر أن الحكم لأيّ من الحضارات أو الثقافات يكون لها أو عليها، بالنظر إلى "نموذج" الإنسان الذي تنتجه، وهذا ما ذكره الإنجيل للتفريق بين الأنبياء ومدَّعي النبوة، حين قال: "احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة، من ثمارهم تعرفونهم، هل يمكن أن تجني من الحَسَك تيناً، ومن الشوك عنباً".

ومعظم الشعائر والعبادات الإسلامية لها روحٌ وشكلٌ وثمار، فروحها (الإخلاص) وشكلها (المتابعة) وثمارها (التزكية)، وأي عبادة تغيب عنها هذه الثلاث أو إحداها فهي عبادة فيها نظر، وقد يفارقها القبول.

وشكل العبادة لا يُغني عن روحها، وشكلها وروحها لا يغنيان عن ثمارها، والكثير منا ربما يهتمُّ بالشرطين الأولين (الروح والشكل) ويُغفل الشرط الثالث وهو (الثمار)، التي تظهر في حياة الإنسان وسلوكه وتعامله مع الإنسان والحيوان والجماد.

والعبادات في الإسلام لا تُعلَّل، كما أكّد ذلك (د. ماجد الكيلاني)؛ لأن العبادات شأنها شأن أية خبرة نافعة تتألف من حركة وأثر. فإذا انصبَّ الاهتمام على حركات العبادة دون الاجتهاد لإبراز آثارها النفسية والاجتماعية تحوَّلت إلى طقوس وحركات لا روح فيها، وتُمهِّد السبيل للتهاون بها والتحلل من أدائها.

كما أن حصر مفهوم العبادة في المظهر الشعائري والفصل بينه وبين المظهر الاجتماعي يُعطِّل رسالة الدين في الإصلاح الاجتماعي، ويُكبِّله عن محاربة الشر، بل يحيله إلى عامل دعم للشرور اليومية الجارية.

وهذا هو السبب الذي جعل المترفين في كل جيل ينادون بفصل الدين عن الحياة (العلمانية)، وهو السبب الذي جعل الجماهير المظلومة تنضوي تحت لواء المتنكرين للدين.

إن النظر إلى العاقبة - الذي يؤكد أن الأخلاق علم - هو أسلوب علمي تاريخي تعرض له (برتراند راسل). وذكره (حسين مروة) ذكراً عابراً.

إن هذه النظرة العلمية تحسم النزاع بين العقل والنقل، وبها يدرك الإنسان أسرار العبادة، فيما تخلقه من نتائج هي خير وأبقى، ومثال ذلك في الحج والصلاة وسواهما من عبادات تخلق الكمال عند الإنسان، والصلابة في المجتمع، وقد أبقت للمسلمين رمق حياة في كيانهم الذي تهدَّم على الصعيد السياسي، ولذلك يجب ألا تُفصَلَ العبادات عن أهدافها ووظائفها.

"فالعقيدة تزكي العبادة وتدعم الأخلاق، والعبادة تدعم العقيدة، وتزكي الأخلاق، والأخلاق عنوان العقيدة الصادقة وثمرة العبادة الخالصة"، كما وصفها (د. عبدالحليم أبو شقة). وهي وصية (ابن عبد البر) للعلماء العبَّاد: "العالِم على غير عمل كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلباً لا تضروا بالعبادة، واطلبوا العبادة طلباً لا تضروا بالعلم، فإن قوماً طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بسيوفهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم".

وهو ما أشار إليه الإمام (الفخر الرازي) في تفسيره بقوله: "الأمر بالعبادة مشروط بحصول المعرفة، كما أن الأمر بالزكاة مشروط بحصول النصاب".

ولطالما عانى الإنسان من الفصل بين الشكل والمضمون والتعامل مع اشتباكهما بحكمة وموضوعية، فالتمدُّن يجعل الإنسان يسعى إلى ظواهر الأشياء وليس إلى جوهرها.

وقد قامت في بعض الدول العربية محاولات لإجراء اختبارات جيدة لمن يريد أن يصبح معلماً، وتم اقتباس بعض الأساليب الغربية، لكن الذي حصل هو نفسه، ما يحصل معنا كل مرة، وفي كل مجال، وهو التطبيق الشكلي، وهذا هو الداء الذي يفتك بالأمة (داء الشكلية والمظهرية)؛ حيث تجد تشابهاً بين المظاهر والأشكال لكن لا معاني ولا مضامين، ولا فاعلية، وفي النهاية لا ثمرات ولا نتائج.

"إن النفاذ إلى الجوهر نوع من احترام الحقيقة، ونوع من الالتصاق بها"، كما يقول: (د. عبدالكريم بكار).

وقد كان للمفكر الفلسطيني (د. منير شفيق) موقف من القائلين بأن المهم هو الجوهر، حتى ولو وقعنا في الأشكال والعادات التي يرتكبها الآخرون، والتي لا علاقة لها بقيمنا وأصالتنا، بمعنى آخر، يمكن أن نفعل ما يفعلون ونحافظ على أخلاقنا، ونتبنَّى عاداتهم ونحافظ على شرفنا، وهكذا، كأنما ثمَّة أسوارٌ عالية بين الشكل والمضمون، ومن ثمَّ يمكن أن نطبق الشكل الذي نريد على المضمون الذي نريد، أو كما قال الشاعر اللبناني (إلياس أبو شبكة)، معبراً عن هذا التوجه المنكوس:

وأشرب الخمر لكن لا أدنسها *** وأقرب الإثم لكن لست أرتكب

فهل يصلح هذا قانوناً ومبدأ عاماً، أم أن الأمور في واقع التجربة سارت على عكس ذلك؟

وفي الطرف المقابل لهؤلاء الذين ذكرهم (شفيق) أناسٌ صار المهم عندهم تحقيق الإجماع الشكلي بقطع النظر عن مضمونه؛ إذ المطلوب تسهيل الأمور ولو عن طريق التلفيق.

كم نردد كثيراً أن هذه العبادة لا روح فيها، وقد جاء الوقت الذي نردد فيه هذه العبادة لا ثمار لها "من ثمارهم تعرفونهم".



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/yahya-ahmed-almerhbi/-_15024_b_19259486.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات