الأربعاء، 14 فبراير 2018

براءة يوسف وإمكان الدراويش!

براءة يوسف وإمكان الدراويش!

"لن أخرج من السجن إلا ببراءة يوسف، اعتُقِلت أربعة عشر عاماً في السابق ثم يأتي ضابط حديث السن ليُرغمني على ارتداء السُترة!".

كانت تلك المعزوفة العشوائية تتناثر بالعامَّية المصرية مع بعض الرذاذ حين انطلقت من فم شيخ خمسيني أحكم عقد غطاء الرأس مرتدياً بنطالاً وقميصاً أبيضين ومنفعلاً في وجه مأمور السجن بزئير اكتفى معه الأخير بتعبيرات وجه مستوعِبة ولسان حال يتمتم بـ"يخرب بيت اللي يزعلك ياشيخ!".

كان الشيخ الفخور بأعوام اعتقاله الطوال، كنيشان حازه صدر ضابط قوات نخبة أُصيب بشظية قنبلة هيدروجينية في إحدى حروب الكواكب، يتحدث بلكنة متقاعد يمقت روتيناً في إحدى مناطق نفوذه السابقة، وأَنَفته المعتزة كأنها تخاطب مأمور السجن: "ده أنا دفعتي لواءات دلوقتي!".

كان الشيخ، الذي دان بعقيدة تكفير الضباط ومَن عاونهم، وتكفير مَن لم يُكفَّر مَن كفَّرهم، يمتنع عن ارتداء "السترة الأميرية" قبيل بدء الزيارة، فيما ارتداها معظم السجناء التزاماً بتعليمات سجننا العمومي الذي شرع سجَّانوه في التدقيق في تنفيذ تلك التعليمات في الشهور الأخيرة، بعد فترة طويلة من غضَّ الطرف عنها.

تناولتُ مع رفيقي الثلاثيني تحليل خطبة الشيخ الموجزة، تساءلنا عن علاقة "براءة يوسف" بالصياح في وجه المأمور!

استبعدنا أن يكون الشيخ عليماً لتأويل الرؤى، في ذات الوقت الذي لا تبدو فيه على المأمور علامات حيرة تطلب تفسيراً لحلم أعيا بتعقيده المفسرين.

يبدو أن الأمر لم يزِد عن تشبيه خطيب مفوَّه في لحظة تجلٍّ!

كنت أسمع كثيراً في محبسي عن هذا الشيخ الذي لم ألتقِه قبل ذلك اليوم، لكن بالرغم من غرابة كثير مما كان يقول ويفعل، فإن أحداً لم يتهمه بضعف قواه العقلية، بالعكس كان حاضر الذهن والحُجَّة في كل الأوقات.

جال بذهني وقتها أحاديث افتراضية أخوضها معه لأستفهم منه فلسفته التكفيرية للكون من حوله، بالطبع بعيداً عن الحديث عن "السترة".

فاتحت رفيقاً عشرينياً آخر ممن دانوا بنفس عقيدة الشيخ، كنت أرى ذلك الرفيق أخاً في الدين وزميلاً نزيلاً جمعتنا أجواء السجن، فيما نفى هو عني الأولى، ومضطراً تعامل بالثانية.

بالرغم من اختلاف عقيدتينا اللتين اتفقتا على التوحيد، فإنه كان يروقني كثيراً نقاشه، ربما لسعة اطلاعه وثراء فائدتي من محاورته.. سألته عن الشيخ الذي صاح في وجه المأمور، كيف السبيل إلى إقناع مثله بأمرٍ ما؟ ما هي مداخل الحديث معه؟!

كنت أسأله متوهماً انتماءهما إلى ذات المدرسة، فأجابني ممتعضاً: "إن هذا الرجل لا ينتمي إلى أي من الجماعات، إنه ينتمي إلى نفسه، هوائي بدرجة كبيرة، لو أكرمته وأحسنت عِشرته تريَّث في أمرك، وربما امتنع عن تكفيرك".

تعجبت في نفسي من المعيار الذي وزن به الشيخ، فما قصدته كان كيف السبيل إلى حوار مع عقائدي لا يرى العالم من حوله غير ساحة حرب لا مجال فيها لالتقاط الأنفاس، فيما كان ردُّه عليَّ محصوراً في زاوية التكفير، في زاوية الحكم على عقائد الآخرين.

باغتُّ صديقي: "وماذا عنك؟! كيف السبيل إلى إقناعك أنت بفكرة أخرى تخالف معتقدك؟! أجابني في ثقة وهدوء: "بالعلم وحده.. بالدليل.. أنا أمحَّص المسألة الواحدة من كافة وجوهها، ولا أعتنق إلا ما أنتهي تماماً من بحثه..".

كان صديقي الواثق يعدّد على حديثه الشواهد: "لن أبالغ إن أخبرتك أني قرأت قرابة الثمانين كتاباً في بحث مسألة واحدة هي (العذر بالجهل)، مع أنها واحدة فقط من موانع التكفير الأربعة!.".

تابع الشاب حديثه بإسهاب في أمور تفصيلية أخرى، كنت أنصت إليه وكلَّي تركيز في محاولة الوصول إلى أحد منطلقات تفكيره، وفيما تشعَّب الحديث، وبدأ يجيب عن أسئلة لم تُطرح، باغتُّه من جديد: "ماذا عن الفشل الحالي الذي مُنيت به "دولة الخلافة" وخسارتها معظم الأرض التي سيطرت عليها في السنوات الماضية؟!".

كانت إجابته في ذات الثقة: "يكفينا فخراً أن شرع الله قد تم تطبيقه في هذا الزمان في بقعة ما، وذلك أعظم إنجاز قد يصل إليه المسلم".

سألته من جديد: "تمام.. علينا أن نقيم شرع الله، لكن أليس ذلك الإخفاق مدعاة لتفكروا في أسبابه؟ لماذا انتهت دولتكم الوليدة وتبدد الحلم بتلك البساطة؟!".

أجابني بكلمات تتعلق بأن الواجب على المسلم هو السعي والعمل، وأن النتائج موكولة إلى الله، وأن دين الله باقٍ يختص له من يشاء ليكمل مسيرة مَن سبقوه، أخبرته بأن تلك المقولات تتطابق مع "دروشة" الإخوان الذين كَفَّرتَهُم منذ قليل. رد عليَّ مبتسماً: "لا.. لا.. أين هم من سلامة المنهج وصحَّته؟".

عاد من جديد ليتناول أموراً مثل شرعية الجهاد، وأخذ يدحض أقوال "دعاة الرحمة"، مجيباً مرة أخرى عن أسئلة لم تُطرح.

عقَّبت على حديثه: "كنت أودّ أن أعرف منك الشيء المادي الذي تطمئن بعد إنجازه إلى صحة الطريق؟"، أردفت مُفسَّراً: "ما هي الأهداف المرحلية التي ينبغي عليك أن تتابع تحقيقها بعد فترات زمنية معينة؟، هل هي أهداف تتعلق بالسيطرة على مساحة معينة من الأرض مثلاً؟".. لم أعطِه فرصةً للرد الذي كنت أتوقعه، فتابعت: "المشكلة أنك ستفني عمرك كله، وسيتابع مَن بعدك الطريق مفنياً عمره هو الآخر، ولن يسأل أحدكم عن تحقق الهدف، طالما أنكم غير معنيين بالنتائج، فضلاً عن واقع اليوم المعقّد الذي يستحيل معه مثل أهدافكم أصلاً!".

حاولت أن ألفت نظره إلى تعدد مقامات الخطاب النبوي كمنطلق جديد يجدر به التفكير منه، أن أخبره أن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحاديثه التي تتناول شؤون "الدولة" كان يغلب عليها الاجتهاد، وبالتالي فإن الملزم لنا فيها هو اقتفاء أثر مقصده وغايته وليس حرفية التنفيذ.. حاولت أن ألفت نظره إلى أن للشريعة حِكَماً ومقاصد عُليا تسع الجميع.

الغريب أنني وجدت منه أذناً تُصغي، وعيناً تلمع في هدوء، وأحسست منه تفكيراً جاداً في الأمر.

معظم الإسلاميين يصعب جداً محاورته لرسوخ عقائده، لكنه لا يستحيل، فقط إذا كانت الحُجَّة تواجه بالحُجَّة، والفكرة بالفكرة في ظل احترام العقول، واستبعاد أحاديث المنتفعين.

برأيي..

* إن الآلة الإعلامية التي شوَّهت المؤدلجين إسلامياً، وجعلت منهم رموزاً للعمالة والسطحية والانتهازية، فوسَّعت هوة الاستقطاب بين الإسلاميين وغيرهم، لا تقل كارثية عن "التكفير" الذي اعتنقه بعض الفريق الأول.

* الإسلاميون الذين لا يزالون يحلمون بأهداف يستحيل تحقيقها في واقع اليوم، فضلاً عن صراعاتهم التي يخوضونها في سبيل ذلك الحلم، وما تجنيه المجتمعات المسكينة التي تدور في رحى الصراعات، هؤلاء الإسلاميون يتحملون العبء الأكبر فيما آلت إليه الأوضاع في ظل الغياب التام لقيمتي المراجعة والاعتبار، ولن يشفع لأحدهم حسن النوايا إذا استمر ضمور العقل، كالدبة التي قتلت صاحبها من حيث أرادت نفعه.

يمكننا أن نلخص (أزمة الأمة الإسلامية) في مكونين اثنين: واحد خارج عن إرادتها، والآخر من صنيع أبنائها.

أما الأول فهو "الاستعمار" الخارجي الذي أورث الأمة فُرقةً وتخلفاً وفقدان هوية، وما تبعه من "استبداد" داخلي لحقه قمع واستقطاب وضياع حقوق، يضاف إليهما مؤامرات على مستويات عديدة تحاك على مدار الساعة.

المكون الثاني لأزمة الأمة هو غياب التجديد في بحر الفقه الإسلامي المعاصر، وضمور عقل المجتهد المسلم، وقصور أفقه، وعزلته عن الواقع، وإن كان ثمة اجتهاد يبدو على استحياء على ألسنة البعض، فهو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

أزمة التجديد هي أزمة مفاهيمية بامتياز، فالمصطلحات الملتبسة التي اعتنقها الكثيرون حين يتم تحريرها من ألسنة معتنقيها بهدوء، فسنكون أمام مفاهيم فضفاضة غير دقيقة وشعارات زاعقة رنانة، كمفهوم الشريعة مثلاً، فضلاً عن مفاهيم الدولة / السياسة / الأمة / المواطنة / الخلافة...، ولن يكون لتحرير المفاهيم قيمة ما لم تُمرر على مصفاة "الإمكان"، هل يقبل الواقع تطبيق مثل تلك المفاهيم بتلك الكيفية؟! سؤال وجب طرحه في ضوء إلمام جيد بعلوم الواقع كالسياسة والاقتصاد وفروعهما.

زمن المعجزات قد ولَّى بغير رجعة، و"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة" مرهونة بتخفيف الحكم القرآني الذي كان: "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين"، ثم أصبح: "الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين.."، فعندما تكون المواجهة في نسبة (٢:١) في كل مكونات التجهيز والأخذ بالأسباب، وقتها فقط دندن الآية "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين"، وانتظر نصراً يحلق فوق الرؤوس، وما عدا تلك النسبة القرآنية المسموح بها، فالحالمون يعيشون في محض "دروشة"، وهذا "الإمكان" الذي نتحدث عنه، طبعاً بافتراض الانتهاء من تحرير المفاهيم للاطمئنان إلى صحة المنهج وشرعية الوسيلة.

ليبقى السؤال الأهم في الأخير:
ما علاقة براءة يوسف بالصياح في وجه المأمور؟!


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/hamza-mohsen-hussein-/post_16917_b_19225604.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات