الأربعاء، 14 فبراير 2018

أي دين تختار لنفسك؟

أي دين تختار لنفسك؟

منذ فترة شاءت الظروف أن أكون مع بعض الرفاق، وكان أحدهم قد خرج لتوّه من تجربة اعتقال قصيرة لم تستمر إلا بضعة أيام، قضاها في أحد أقسام الشرطة، وكان الرفاق ملتفين حوله يستمعون إليه وهو يقص عليهم ما حدث له أثناء التحقيق داخل القسم، ولفت نظري أنه كان يسمّي الضباط بالاسم، وكان يبدو واضحاً على وجوه باقي الرفاق معرفتهم المسبقة لتلك الأسماء!

كان يقص عليهم كيف كان يتهرب من الإجابة على الأسئلة بادعائه عدم المعرفة تارةً، والإجابة بعمومية لا تؤخذ عليه تارةً أخرى، ووقْع ذلك على الضباط؛ ثم أخبرهم بإحدى الإجابات التي قالها، وكيف أكملها له أحد الضباط متهكماً بقفشة ظريفة ساباً فيها أباه وأمه "وكـ.. أمه"، فانفجر الرفاق كلهم ضاحكين من طرافة القفشة، ثم أخبرهم ببعض وسائل الترهيب والتخويف التي اتبعوها معه، كالسب والصفع والركل، وكيف أن أحدهم قام ليجذب سرواله لأسفل (في تهديد صريح لا يخفى على أحد)، وكيف أنه استمات على سرواله؛ ثم كيف ادعى الرعب والهلع بأن بدأ يرعش في قدمه ليشبع شهوة السادية لديهم ويصرف الانتباه عن سرواله، وكيف أنه قد خالت عليهم فعلته!

كان الرجل يحكي كل ذلك بنبرة مليئة بالثقة والثبات والنصر ممتزجة ببعض الفخر، وكان الرفاق يستمعون إليه بالانتباه والإعجاب والتقدير لخبرته وبراعته في التعامل مع مواقف كهذه.

وقتها أحسست بغصة في حلقي، فاستأذنت منهم وتركتهم رغم إلحاحهم عليّ بالبقاء، وأخذت أتساءل بيني وبين نفسي: كيف يصل الحال إلى هذه الدرجة من الدونية؟ أين ذهبت حمية الرجال؟ كيف يتحدث الرجل عمن تعدّى عليه وتحرش به وسب أباه وأمه وهو يضحك؟! بل كيف يعرف اسم جلاده ولا يتحرك؟! وكيف يستمع رفاقه لهذا ويضحكون؟!

لم أجد ما أجيب به نفسي إلا أن هؤلاء النفر قد وهبوا حياتهم كلها لله، وتصدقوا بأعراضهم وأجسادهم في سبيل عقيدتهم، وعلموا أن من يضربهم ويسبهم ويتحرش بهم لا يفعل بهم ذلك لذواتهم وإنما لاضطلاعهم بتلك القضية، قضية الإسلام، فما عادت لديهم غضبة لذواتهم وشخوصهم، وإنما صاروا لا يغضبون إلا لله؛ وتلك درجة من درجات التجرد والإخلاص يصعب على أمثالي استيعابها ناهيك عن التحلي بها.

ثم تذكرت يوم بدر، يوم الفرقان، عندما واجه الأذلاء المستضعَفون المعذَبون جلاديهم للمرة الأولى بعد أن حملوا السيوف وأُذن لهم في القتال، وكيف قاتلوا لا ثأراً ولا ضغينة ولا انتقاماً، وإنما قاتلوا لله؛ فمن مات منهم مات على ذلك ومن عاش عاش على ذلك أيضاً.

وقبل أن أغلق هذا الباب - مدعياً الفهم والاقتناع - انتبهت عن يميني لصرخة بلال: "رأس الكفر أميَّة، لا نجوت إن نجا"، واندهشت! كيف انشغل بلال عن كل ما حوله وانتبه لأميَّة؟! هل ترك النبي خلفه يدعو الله ويبتهل، والملائكة من حوله حاملى سيوفهم تثبيتاً وتوكيداً، وخيار خيار الصحابة بجواره يسطرون ملحمة الفرقان، وجرى نحو أميَّة!

إن كان فعل هذا غضبة لله، فلمَ لَم يفعلها مع أبي جهل أو عتبة أو شيبة وباقي رؤوس الكفر الذين امتلأت بهم ساحة بدر عن آخرها؟ أيكون بلال قد أشرك غضبته لله بغضبته لنفسه؟ أيكون بلال أقل إخلاصاً وأضعف فقهاً من أولئك الرفاق؟

وقبل أن أستطرد في تساؤلاتي انتبهت عن يساري فإذا بـ"عبد الله بن مسعود"، ذاك الضعيف الذي صفعه أبو جهل في مكة فقطع أذنه من عنف الصفعة، إذا به جاثم على صدر أبي جهل يقطع رأسه، ثم يجرها خلفه إلى رسول الله، الذي ضحك لما رآه وسأله عنها، فأجابه ابن مسعود فرحاً منتصراً: "أُذُنٌ بأُذُنٍ والرأس زيادة"!

وأفقت فإذا أمامي دينان، دين بلال وابن مسعود ودين الرفاق؛ دين يهذب الفطرة ويحترمها ويقدرها، ودين ينكرها ويلوي عنقها لياً حتى الموت؛ دين يحفظ لتابعه كرامته فيجعل غضبته لنفسه جزءاً من غضبته لله، ودين يأكل كرامة تابعه ويجعل غضبته لنفسه شريكاً لغضبته لله فلا يجتمعان ولا يلتقيان أبداً.

فأى دين تختار لنفسك؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mohamed-lotfy-mohamed/story_b_19194058.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات