الأربعاء، 21 فبراير 2018

نَم يا صغيري

نَم يا صغيري

في غيمة الدمع الهطول تبسّمت من ثغرها، رغم الجراح تلفّ قلبها وتظلل روحها الأحزان ودّعته الوداع الأخير في الدنيا، ودعته الوداع الأخير الذي لا يمكنها بعده أن تقبّل جبهته، ولا أن تعبق من عطره كل صباح، ولا أن تمسح ببركة يدَيها جبينه عندما تباغته الحمى فتلطف بكمّادات روحها جسده وتحصّنه بـ"قُل هو الله أحد" وتودِعَه المولى -عز وجل- لكي يرعاه.. ودّعته شهيداً غائباً عنها لم تتمكن حتى من أن تسمع منه كلمة أمي قبل الرحيل، ولم تتمكن أن تعدّ له عشاءً لائقاً بجراح هذا الوداع الأخير، وبحجم هذا الفقد البارد الذي تسرب إلى جسدها حين سمعت أنه رحل، ولكنه ما رحل عنها إلا بطلاً كما وعدها، أبى أن يرحل خائفاً أو جباناً أو متخاذلاً أو حتى مختبئاً عن قدره، بل حمل كرامته ونصب القدس بين عينَيه ووقف يصدّ بجسده رصاص الذين خانوه وتركوه وحيداً يودّع شبابه بين جدرانٍ باردة ووحدة موحشة ووطنٍ تورمت عيناه من البكاء على الآلاف أمثاله الذين انتقلوا بأجسادهم من الأرض؛ ليسطعوا نجوماً في سمائه؛ ليصبحوا قناديل الغد الذين يهتدي بهم الوطن ويضجّ النصر على خطى أقدامهم.

ودعته قائلةً: "رحلت من حضني إلى حضن أبيك الغائب" فخورة أنا بك، ربيناك فينا وليداً فحملت لواء والدك، فخورةٌ أنا بك في دنياي الفانية، وفخورٌ بك والدك في جنته؛ تعجبت كيف تحمل امرأة مثل هذه الشجاعة عندما تفقد ابنها فتقول بثقة: تفديك روحي يا حبيبي ونفدي كلنا الأقصى! كيف لها أن تحمل في جبال ضلوعها هذا الكمّ من الصبر وهذا البحر من الحنان سوياً كيف لا يُطفئ بحر الصبر القابع في صدرها نيران الحب الملتهبة لهذا العاشق الصغير الذي رحل وزفّته إلى الجنة قبل أن تزفّه إلى عروسه، قبل أن تفرح بشبابه كما تحلم كل أم، بل فرحت باستشهاده عريساً يُزَفُّ في أعلى الجنان.

تعلم امرأة مثلها أن الوطن حكايةٌ من البطولة نرويها لصغارنا وقبسٌ من خضاب الشهداء، تعلم أنه ابتداءٌ لتاريخٍ درسته جيداً ثم وقفت عند مفترق البطولة واختارت لابنها أصعب الطرق وأكثرها تأثيراً..

نعلم أن شاباً أرضعته امرأةٌ بثباتها وحكمتها وصبرها لن يثمر إلا طيّباً ولن يكون عادياً، بل سيختم حياته بالقوة التي عاش بها، كثيرون هم أولئك الذين يتجولون على متن الوطن، ولكن قليلٌ هم الذين يختارون أن تكون الخاتمة لأجل الوطن فقط من نبع التضحية، ومن سيف الكرامة المسلول وعلى عهد الشهادة ووعد البقاء...

يموتون لنبقى ويرحلون ليولد خلفهم الوطن من جديد، هم مخاض النصر وبشائر الحرية.

كم بكاك الوطن يا أحمد! وكم تئن لفقدك الكلمات! كم تعثرت الحروف باحثة عن رثاءٍ لفقدك، حزينةٌ عليك القدس، باكيةٌ ظلَّك أفياء الزيتون، متيّمٌ بك الوطن، أحبّكَ كما لم يحب من قبل، فكانت فجيعة فقدك باردةً معتمة أثقلته بالوحدة، وحيد هذا الوطن بدونك وبدون إخوتك الذين سبقوك، بكاك الشعب كلّه وَرَثَتك الأمهاتُ جميعهن وكأنك وُلدت من أرحامهن، كيف لا وأنت أغرقت الشعب كلّه في بحر عينيك، فكنت فارس الوطن وصوته الذي أطفأته المواجع!

سلامٌ لروحك الدافئة، سلامٌ لطُهرك أصدَقتَ وعدك وتمّت كلمتك، سلامٌ لك أديت الأمانة وحملت رسالتك ففتحت بابك حين أغلق الملايين أبوابهم وتحصنوا خلفها، والله لا يجف الدمع طوعاً عن بكائك وأنت الذي عرجت بالشهادة إلى السماء.

تتلذذ أنت بولادتك شهيداً ونموت نحن أحياء.. نقول دائماً: الشهادة تختار القلوب النقية، ثلجٌ قلبك في صفائه وملتهبةٌ روحك في حماسها، وسيمٌ أنت بطبعك ووسيمٌ في شهادتك.

ستقول أمّك الليلة: نَم يا صغيري دافئاً في حضن أبيك، بارداً كان الموت، ولكن ستبقى روحك دافئة، نَم يا صغيري سالماً!


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست عربي لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/rawan-gamal-abu-nabaa/post_16965_b_19282386.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات