الخميس، 15 فبراير 2018

الحواجز

الحواجز

الحواجز في حياتنا خطوط أمان، عادة ما نحيط أنفسنا ببعض الحواجز، مادية ومعنوية. فهناك الحاجز الذي يفصل بين بيتنا وبيت الجيران. والحاجز الذي نرسمه بكلامنا حين نحدث من هم أقل منا درجة عقلية أو اجتماعية.

بعض الحواجز مطلوب وبعضها مقيت، لكن ربما توافقونني الرأي أنه لا يستطيع إنسان العيش بلا حواجز! لماذا إذاً يزيل البعض منا حواجز مهمة بدعوى الانفتاح والتحضر؟ دعوني أقص عليكم بعضاً من قصص الحواجز التي رأيتها طوال ثلاثة عشر عاماً في كندا، قضيت فيها أوقاتاً كثيرة أتأمل الناس والمواقف حولي.

في جزيرة من جزر الشرق الكندي المطلة على المحيط، هناك مسجد صغير يخدم الجالية الإسلامية القليلة العدد التي تعيش هناك.

أقمت في المكان لعدة أشهر، ودأبت على ارتياد المسجد في أوقات كثيرة للصلاة، مسجد مسالم وهادئ إلى أقصى الحدود، لاحظت وجود ما يشبه الحاجز (البرافان) الذي يستخدمه الأطباء في حجرات الفحص.

الحاجز يمتد إلى منتصف المسافة بين الرجال والنساء، بحيث يكون نصف مكان السيدات مغطى، والباقي مكشوفاً.

لم أفهم المغزى، إلى أن جئت مرة وقت صلاة العصر بعد تجمع في المسجد، ودلفت إلى المصلى لأجد النساء القليلات هناك قد انقسمن إلى صفين؛ صف وراء الحاجز، وصف في الجزء المكشوف.

سألت إحدى السيدات، فقالت: إن بعض المصليات لا يرغبن في الصلاة وراء حاجز؛ لأن هذا يُشعرهن بالانفصال عن الصلاة، وأنهن يرغبن في رؤية الإمام، خاصة في صلاة الجمعة.

وأكملت أخرى: إن الوضع قد أفضى إلى أزمة بين تيارين في المسجد: تيار تقليدي، تربى رجاله ونساؤه على وجود فاصل بين الرجال والنساء، وتيار آخر ليبرالي يقول بأنه لم يكن هناك ما يحجب الرجال عن النساء في المسجد أيام الرسول عليه الصلاة والسلام.

ثم انتهوا إلى هذا الحل، من أرادت الصلاة وراء الحاجز فلتصلّ، ومن لم ترغب فلتصلّ في الجزء المكشوف، غادرت المكان أفكر فيما قلنه.

بعدها بأيام حل العيد وذهبت للصلاة.. امتلأ المسجد كله من الداخل بالرجال والنساء والأطفال، ثلثا عدد النساء تكدسن خلف الحاجز، بينما من جاءت متأخرة مثلي، لم يكن لها من بُد إلا الجلوس في مواجهة الرجال.

أدى صغر المكان إلى تلاصق صفوف الرجال والنساء في المنطقة الخالية، جلس الإمام يخطب، وجلست النساء وقد ارتدين ملابس العيد وتزين معظمهن، والبعض منهن اتّكأن في جلسة مريحة إلى الحائط. بحيث إذا ما التفت أي رجل التفاتة ما، رأى من مدت أمامها ساقيها، وتزينت بالأصباغ، أما الإمام الذي كان يواجه المصلين، فلا أدري كيف استطاع غض بصره ذلك اليوم.

في مكان آخر على الأراضي الكندية، اعتلت مسرح إحدى صالات الحفلات حاكمة مقاطعة أونتاريو، والتي لا تخجل من إعلان مثليتها الجنسية، وهنأت المسلمين بالعيد. كانت تضع وشاحاً شفافاً حول رأسها، وترتدي زياً على الطراز الباكستاني، وكان بجوارها قادة المجتمع الإسلامي، من رجال الدين والسياسيين المنتمين للإسلام.

قبلها بعدة شهور، جاءني ابني من صلاة الجمعة وحكى لي، أن مرشحة إحدى الأحزاب عن المنطقة، ألقت كلمة عن برنامجها الانتخابي مباشرة بعد خطبة الجمعة قبل ركعتي الصلاة؛ إذ يبدو أنها تعلم أن الجميع سينطلقون سريعاً بعد الصلاة إلى أعمالهم، فليس الجمعة عطلة رسمية في كندا، وليس هذا فحسب، بل إن ملابسها كانت لا تغطي ساقيها.

صورة أخرى جاءتني على إحدى مجموعات التواصل الاجتماعي، تظهر فيها السيدة التي تشغل منصب عمدة المدينة - في أحد المساجد - وقد كشفت شعرها وساقيها، وإلى جوارها إمام المسجد تعلو وجهه ابتسامة كبيرة.

ربما يبدو الموقف الأول مختلفاً في ظاهره، لكن هناك ما يتشابه في كل ما سردته، الحاجز الأول كان حاجزاً فعلياً في المسجد، أما الحاجز في الموقفين التاليين، فقد وضعه الناس على عيونهم، ثم عقولهم؛ حتى يمر ما حدث مرور الكرام، ولا يتساءل أحدهم: لمَ وكيف حدث هذا؟!

على نفس الأرض الكندية، في مناطق معروفة تعيش جماعة تسمى الأميش يدينون بالمسيحية، وقد وضعوا بإرادتهم حاجزاً بينهم وبين باقي الناس.

يعيشون على الزراعة وتربية الطيور والماشية وتربية النحل وصناعات صغيرة أخرى، تنتج مزارعهم أفضل أنواع الخضر، وبيض الدجاج الذي لا يربى في أقفاص مزدحمة كما هو الحال في معظم الدجاج الذي تربيه الشركات الكبيرة! تسرح أبقارهم في المراعي معظم أوقات الصيف، وتأكل العشب الطبيعي، نساؤهم يرتدين ثياباً كالتي تراها في رسم القرن الماضي، شعورهن مغطاة، رجالهم يرتدون ملابس متحفظة لا يوجد عندهم سراويل قصيرة، ولا قمصان بدون أكمام.

يعيشون بلا كهرباء ولا تلفاز، ولا وسائل تواصل اجتماعي، الذكور والإناث فيهم لا يختلطون إلا بقدر ضئيل، لا تواعد قبل الزواج ولا علاقات جنسية، ومع كل هذا، تحظى الجماعة بالاحترام الكامل من الجميع.

في أول عمل عملت به، كانت رئيستي يهودية، ذكرت لي مرة أنها حين تقابل الحاخام في مناسباتهم الاجتماعية، فإنها لا تمد يدها إليه كي تصافحه؛ لأنها تعلم أنه لا يصافح النساء.

قالت لي هذا باحترام شديد له، بالرغم من أنها علمانية، تأكل الخنزير وتشرب الخمر.

إحدى الجماعات اليهودية المعروفة بأنها ضد الصهيونية، لا يحب زعماؤها التعامل مع النساء. ويفضلون أن يتواصل معهم رجل، وبالطبع لن تسمع كلمة من داخل الجماعة أو من خارجها عن المساواة والحرية بين الجنسين.

وضع هؤلاء الناس حول دينهم وعاداتهم حواجز، وبالرغم من أنها لا تتماشى مع الجو العام الذي يحيط بهم، لكن المجتمع حولهم لم ينكرها عليهم، واحترمها بقدر احترامهم لها.

جاء الإسلام إلى الأميركتين ربما قبل اكتشاف الأوروبيين لها، حسب بعض الدراسات، أو مع قدوم العبيد إليها حسب دراسات أخرى، ثم توالت أفواج المهاجرين المسلمين من كل حدب وصوب.

مع ذلك، لم يؤثر المسلمون في العالم الذي حلوا فيه تأثيراً كبيراً، بل أثر فيهم العالم الجديد؛ فغير ثوابتهم، وتساهلوا في دينهم جرياً وراء مكاسب وقتية.

لم يكن هذا من قلة المال، فالشركات والمؤسسات الإسلامية كثيرة، ولم يكن هذا لقلة نفوذ، فبعض الكيانات الإسلامية الدينية تمتلك نفوذاً يفرض على رؤساء الأحزاب كسب ودهم، لكن معظم القيادات لم تكن على قدر المسؤولية لتواجه التمزق الحادث في عقل الأجيال التي تهاجر هنا، والأجيال التي تولد.

ربما تتساءلون معي عن الحل، يبدو الحل المثالي أن تتوحد جماعات المسلمين، ويتم انتخاب قيادات جديدة مخلصة تمتلك القدرة على العطاء، ولا تبتغي التربّح، ولا الانتفاع من مناصبها، يبدو هذا الحل غير واقعي لدرجة كبيرة، إلى أن يأذن الله بحدوثه.

يبقى جزء من الحل إذاً، على عاتق كل مهاجر جديد يقدم إلى كندا، أن يحافظ المرء قدر ما يستطيع، على مقدار من الحواجز حوله، حاجز حول اللغة العربية، وحاجز حول القيم الأخلاقية، وحاجز حول الهوية الإسلامية كلها.

حواجز لا تعوق النمو الفكري، ولا الاندماج في المجتمع الجديد، لكنها تحفظ قيم الأفراد من الذوبان والاندثار وسط الخليط البشري المتعدد الثقافات والأعراق المتواجد هنا.

وحتى لا نرى، كما نرى اليوم، أجيالاً ممسوخة، لا تعرف عن إسلامها شيئاً سوى الاسم الذي في وثيقة الهوية.



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mona-kamal-hashim/post_16878_b_19178158.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات