السبت، 17 مارس 2018

"جمهورية كأن" للأسواني.. كل شيء يبدو فيها حقيقياً لكنه مزيف

"جمهورية كأن" للأسواني.. كل شيء يبدو فيها حقيقياً لكنه مزيف

عبر رواية عميقة وفي غاية الجرأة والإبداع، يستمر علاء الأسواني، الروائي المصري الأكثر شهرة وتأثيراً، في الانتصار للإنسان والحرية والديمقراطية والعدالة والقيم الكونية، مما يضعه في مصاف كبار المثقفين في العالم، خصوصاً المبدعين والأدباء، الذين يتحيزون من حيث المبدأ إلى الديمقراطية ضد كل أشكال الاستبداد السياسي والثقافي، كأمثال: الروائي الشيلي أنطونيو سكارميتا في مواجهة انقلاب أوغستو بينوشيه، ومبدع رواية "ساعي بريد نيرودا"، والأديبة الإسبانية "ميرثيي رودوريدا"، التي عارضت حكم العسكر، مبدعة رواية "ساحة الماس".

هذا، دون أن نغفل دور "ماريو فارغاس لوسا" و"غابرييل ماركيز"، والتجربة الإنسانية الفريدة للشاعر الإسباني "لوركا" الذي أعدمه نظام فرانكو وهو يلقي الشعر.

ضمن هذا المعسكر، اختار الأسواني أن يحارب ضد جبهة الاستبداد التي توَجَّه لها بجرأة فريدة، بأصابع الاتهام وبدورها السيئ في إجهاض حلم الشعب المصري بثورته المجيدة.

كل هؤلاء: نظام مبارك، المجلس العسكري، أمن الدولة، الإخوان المسلمين، رجال الأعمال.. المصريون أنفسهم، كلهم مدانون بتهمة إجهاض الثورة وتحويل مصر إلى "جمهورية كأن".


من خلال رواية "جمهورية كأن"، خلّد الأسواني الثورة المصرية التي انطلقت يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011، وشارك فيها نحو 30 مليون مصري وضمن لها استمرار التوهج. ثورة رسمت صورة مشرقة لأمة ظلت إلى وقت قريب منعوتة بالعقلية الشرقية التي تتعايش مع الاستبداد، ولا تعرف الديمقراطية والحرية.

فجاءت الرواية لتؤكد أن الأسواني ليس روائياً بالصدفة الأدبية؛ بل هو مبدع حقيقي مؤمن بوظيفة المعرفة والثقافة والأدب في المساهمة في التغيير الاجتماعي والسياسي لتحقيق الديمقراطية وكرامة الإنسان.

رواية استمرت في الوفاء للمكان كبطل، بعد أن كان مجرد عمارة (عمارة يعقوبيان)، ثم صار مدينة (مدينة شيكاغو)، ثم حقبة تاريخية عنوانها مكان (نادي السيارات) إلى أن وصل إلى البلاد، أي مصر، الهم الأول المعبر عنه في "جمهورية كأن".

رواية "جمهورية كأن" حافظت على أصالة قلم الأسواني وذائقته الأدبية البديعة. فالنص الذي يحتل بياض أكثر من 500 صفحة يبدأ هادئاً وهادراً وعميقاً ومنساباً. إنه شبيه في مراحل تطوره بمراحل الثورة المصرية.

جُمله سلسة ومباشرة، ومعانيه وتعبيراته دقيقة ونافذة ومشتبكة مع وعي ووجدان القارئ. الشخصيات تكاد تخرج من الورق، تراها حقيقية وصادقة ومنطقية، كأنها تنطق هي بنفسها وتعبر بِحرية عن ذاتها وأفكارها، فلا تحركها إرادة الإله السارد.

شخصيات معبرة، أبدع الأسواني في بناء تركيبتها النفسية والاجتماعية والفكرية، فيها المصري البسيط الذي قلَبت الثورة حياته البسيطة، لكن بطريقة دراماتيكية: "مدني" السائق الذي فقد ابنه الدكتور خالد؛ "أشرف" القبطي الأرستقراطي الذي حوّل قربه من ميدان التحرير ورؤية شباب بعمر الزهور يسقطون بالرصاص الحي إلى أكبر داعم للثورة وأحد الثوار المخلصين الذين ولدتهم الثورة بعد أن كان مجرد ممثل فاشل وحشاش؛ بل صاحب موقف غير معلن، سببه تدهور كل شيء في مصر جراء الفساد والرداءة والزبونية والغش. موقف كان لسنوات مجرد إحباط حتى جاءت الثورة وحوّلته إلى عنفوان عارم وإيمان عميق بروح الثورة.


تلك الروح التي تمكن الأسواني بحرفية عالية من إيصالها إلى القارئ عبر زاوية نظر متعددة وتقنية السرد المتداخل، ومن خلال شخصيات شباب شاركوا في الثورة من داخل الحياة اليومية الروتينية (مازن مهندس مصنع الإسمنت/ أسماء، مدرّسةالإنكليزية/ إكرام، المرأة الشعبية الخادمة/ دانية،
ابنة مسؤول أمني رفيع).

كل هؤلاء عاشوا ارتباك اللحظة ونشوة إسقاط الطاغية ورهبة الثورة المضادة التي طالما انتظرها "عصام شعبان"، الشيوعي المحبط ضحية القمع والاعتقال في المرحلة الناصرية، والذي تحول مع الزمن الى أحد أزلام الاستبداد وأجهزة الأمن التي راهنت على إفشال الثورة، عبر تحالف قاده "أحمد علواني" رئيس جهاز أمني غامض ونافذ، مع رجل أعمال فاسد اسمه "الشنواني" الذي وفر المال الكافي لبناء ماكينة إعلامية لغسل أدمغة المصريين عبر فرض الإعلامية "نورهان"، المرأة الوصولية التي تمثل حالة الانفصام الشديد بين السلوك والموقف الديني وما بين الخطاب الذي يمتاح من النص الديني، ما بين الضمير الذي لا يؤنب صاحبه إذا ما قام بأمر مُضر بالآخرين، شريطة أن يكون "الشرع المكيّف" على هوى الشيخ "شامل"، يوافق المسألة.

مثل قصة الشيخ "شامل" مع السائق "مدني"، الذي حاول إقناعه بأخذ الدية في مقتل ابنه من طرف ضابط أمن عمداً؛ لأن الشرع الحنيف دعا إلى ذلك مع القصاص...


لقد جعل الأسواني من الثورة مرآة حقيقية لكشف زيف الوضعية الحالية التي يعيشها الشعب المصري مع نظامه. شعب ثار على رئيس مستبد، لكنه اكتشف أن هناك جبهة أكبر من الرئيس لا يهمها لا الديمقراطية ولا الكرامة ولا حقوق الإنسان.

جبهة يقودها الجيش المصري "الحاكم الفعلي" في مصر والذي يخدم لحسابه الخاص ويوظف فاعلين كُثراً في هذه المسرحية؛ مثل: الإخوان المسلمين، والطبقة السياسية، ورجال الإعلام والثقافة وأساتذة الجامعات.

لقد امتلك الأسواني روح الأديب التوّاقة إلى الحرية مهما كلف الثمن، وصبر ودقة طبيب الأسنان الراغب في تخفيف آلام المرضى، ووضوح المثقف العضوي المؤمن بحكم التاريخ، لصياغة رائعة أدبية تنقله الى مرتبة جديدة في مدار كبار الأدباء المؤثرين في تاريخ الأدب.

نحن أمام علامة في تاريخ الأدب العالمي، رائعة روائية لا تعرف المواربة وهي تقول كل شيء عن الثورة؛ نجاحها وإخفاقها. المرارة والألم، الفرح والتفاؤل. تؤرخ لشهادات ضحايا عنف الشرطة العسكرية ومجازر ماسبيرو ضد الأقباط وشباب مصطفى محمود والعباسية.

صور مؤلمة عن حلم جيل امتلك شجاعة الموت في سبيل حياة كريمة يشعر فيها الإنسان بالكرامة والقيمة، جيل فريد حطم صنم الخوف وصور العجز، معلناً بناء عصر جديدة من الأنوار والحرية التي حتماً ستدخلها الشعوب العربية بعد ثورات 2011.

ولأن الأسواني أديب آمن بالثورة قبل أن تقوم، وشارك فيها، فإنه بهذا العمل القوي ضمن لها الحياة والخلود في وجدان البشرية جمعاء، وضمن لروحها أن تتجدد في وجدان جيل عاش مرارة فشلها.


لقد أراد الأسواني أن يقول إن شباب الثورة الذين شوّهت الماكينة الإعلامية البئيسة صورتهم واتهمتهم بالعمالة والخيانة، هم أنبل ما ولدت أرض مصر، أراد أن يقول إن فشل الثورة (موقف أسماء التي هاجرت بعد تعرضها للتعذيب) لا يعني إنهاء حلم الثورة (مازن الذي قرر البقاء رغم التعذيب).

أراد أن يقول إن الأدب ليس مجرد كتابة رقيقة وبديعة، هدفها إبراز جمال اللغة وحساسية المشاعر، وضمان شهرة للكاتب وإصدار عشرات الطبعات؛ بل هو الوسيلة الأمثل للتأريخ والرصد السوسيولوجي وفهم التحولات العميقة للمجتمعات ومستقبل البشرية...
و"جمهورية كأن" عمل إبداعي يدخل في هذا الإطار...



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/adelwahad-naqaz-/-_15216_b_19370160.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات