الأحد، 11 يونيو 2017

صحفي خريج هندسة

صحفي خريج هندسة


الكتابة هواية تروق لكل من ضاقت به الدنيا، ورحبت به تلك الكتلة البيضاء الضئيلة. حقاً هي فضل من الله على كل صاحب قلم يعي أهميتها، لكن دَعنا نتفق أنه ليس كل كاتب موهوباً، وإنما كل موهوب بها كاتب.

ولقد أدركت معنى تلك الجملة التي لا تزال تتردد على مسامعي منذُ التحاقي بكلية الإعلام، وقَوِيَ تذكُّرها لديّ بانضمامي إلى قسم الصحافة، الذي طالما حاول الجميع إبعادي وإقناعي بأنه قسمٌ متاعبه كثيرة، وأن إيجاد عمل لي مستقبلاً سيكون أمراً مستحيلاً، ومع متابعة الدراسة أدركت أن الأمر ليس مرتبطاً، لا بقسم الصحافة، ولا بكلية الإعلام.

ظهرت في الآونة كتلة لا بأس بها من الكتّاب بفضل منصات الرأي على مواقع التواصل الاجتماعي؛ ما أكد لي أنه ليس بالضرورة أن تكون دارساً للإعلام كي تُجيد سلوك السبيل لعقل القارئ، وتسهم في تغيير رؤيته.

كي يكون هناك عدل، فلن أخفيك سراً -يا سيدي- أن بعض طلاب الإعلام يجيدون الكتابة الجيدة، لكن ليس قليلاً من يدرك الكتابة المتميزة، ولأقرّ أيضاً بأن أغلب الملتحقين بها هدفهم السعي للوجاهة والطمع في بعض الشهرة؛ فهذا ما تسعى إليه الكثير من النفوس البشرية، لكن ماذا عن الكاتب المهندس، والكاتب الطبيب، وغيرهما؟

مبدئياً، ليس هدفي التقليل من شأن الكاتب الصحفي، الذي أنا أصلاً أنتمي إلى جبهته، لكن دعني أعترف بأن ما رأيته من الجبهات الأخرى، يجعلني أشيد بهم خير الإشادة، وأؤكد ضعف الكثير من جبهتنا.

عندما حضرت لفريق الصحافة بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية، كُنت أحسب أنهم محض فريق للكتابة ذي قدرات عادية، ونحن مُزاولو المهنة مستقبلاً، الدارسون لعلمها وفنونها حالياً، أكثر وعياً وفهماً، وهم ممارسون لا أكثر.

وكانت المفاجأة حين حضرت إحدى الحلقات التعريفية بفنون الكتابة والتعريف بعملهم، وكنت مبهورة بمستوى الكتابات لديهم في كل الفنون الكتابية والصحفية، فوجدت تنوعاً بين كتابة الشعر الفصيح، والعامي، والقصة القصيرة، والمقالات، واللافت أن الأغلبية منهم حديثو الالتحاق بالجامعة. راودني شعور كم أنا قليلة جداً! وكم نحن نتباهى بهشيم عِلم غير راسخ، وإنما يقوى به من سعى ليكون قلمه قلماً ناضجاً.

لم أكتفِ بهذا، لي صديقة تدرس بكلية الصيدلة، أعترف بأن أسلوبها في الكتابة يصيبني بالذهول، هل حقاً هذا أسلوب كاتبة مبتدئة؟! كلا هذا أسلوب نابغة أدبية، وجب أن تكون أحد أكبر عقلاء عصرها، يأخذني أسلوب سردها وتصورها للموضوع لناحية لا يجوز أن أرغب عنها، أيرغب العاقل عن الجمال والسكينة؟! لا والله، ما شهدت لها إلا برصانة الأسلوب، وجودة المعنى، وتسلسل التفاصيل، كأنها ترسم لوحة تصاحبها موسيقى خيالية تناسب المعنى، فبارك الله في عقل جاد عليه بأحسن الحكمة.

ولي زميل في كلية الهندسة يمتلك من الأسلوب الساخر ما يجعلك تنجذب للأمر المطروح بشكل مسرحي كوميدي، فلا يظل يسلسل لك الأحداث كأنك تستمع لنشرة التاسعة في التلفاز الوطني، ولا يجعلك تميل إلى الملل؛ فتغلق الموضوع بعد قراءة أول سطوره.

مع ظهور قوي لأحد المدونين الفلسطينيين الذي ذاع صيته بشكل قوي لسلاسة أسلوبه، وبلاغة معانيه، وفصاحة لغته، أحسب أنه في القريب العاجل سيكون نابغة جيله.

أيعقل أن يبيع الماء في حارة السقائين غير السقائين؟!

كنت أحسب نفسي أبالغ عندما رأيت أن الأمر فعلاً يشبه المثل القائل: "يدّي الحلق للي بلا ودان"، هذا مثَل مصري قديم، قديماً كنت أشكك فيه، لكن هذه الفترة صار شعاعاً لحقيقة وجب الاعتراف بها، متيقنة أن المهندس والطبيب دخلا مجالهما وهما مقتنعان بأن الهوايات تساعد الذهن على الرسوخ لأجل مواصلة السعي.

أما عن جيراني بجبهة الإعلام، فمتى سنتغافل عن فكرة أن الإعلام وجاهة وشهرة ومال ونفوذ؟ فتلك الأحاديث ليس لها مثوى إلا في مجتمعنا العربي وظلت تعيث فساداً في فصوص عقلنا، حتى ظل ذوو الموهبة في الخفاء ينتظرون الفرصة النقية للظهور، فالقراءة هي أصل كل كاتب ناجح، والمحتوى هو أصل تكوين فكر راسخ، فعسانا نقرأ ما يستحق، ونعود لسالف ما فات من عهد، أهل علم، وفصاحة، لا تبديل بينهما.



ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/rana-eshba/-_11837_b_16851932.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات