الثلاثاء، 18 يوليو 2017

ترانيم "9"

ترانيم "9"

" الماركسي الأنيق "
===
لازم يبقى لينا موقف , كان صوته يعلو بطبقات متباينة من الحدة والخشونة ثم ليونة مستترة , لتوصيل رسالته لنا .
فتوقفت حركة الزهر بكافة رقع الطاولات المنتشرة على مدد البصر بمقهى الشوشاني , سكتنا جميعا احتراما لمقولته ورددها بعضنا في سره وآخرين جهروا بعبارته بعد أن رنّت بآذانهم ووقعت موقعا منغّما جميلا استراحت له أفئدتنا " فعلا لازم يبقى لينا موقف "
ولما رأى أعناقنا قد ألتوت وإشرأبت إليه من مختلف زوايا المقهى الكبير علت وجهه ابتسامة النصر ثم جذب أقرب كرسيّ وجلس كذكر طاووس بألوانه الزاهية ..


وقال : بحكم ماركسيتي وتبحّري بدروب السياسة أكررها لكم وعلى الملأ وبملئ فمي " ينبغي أن تكون لنا وقفة صارمة " وغدا نجتمع في الثامنة صباحا على قلب رجل واحد بالميدان الكبير . ثم صاح فينا مهددا وملوّحا بيده وأشار لعقاب سينزل بالمتخلّفين عن الحضور ثم انصرف.
وبعد رحيله سرت في المقهى شرارة الثورة واندفع الصغار من الروّاد بنزق مفاجئ في التنديد بالوضع ونعتوا الكبار بانهزامية متأصلة وتربية أقرب لتربية الداجنة .. قذفونا بكل نقيصة وألصقوا فينا تهما لم نسمع بها من قبل , ولم نجد غير الصمت رداء نتدثر به تقية من ثورتهم وغضبتهم المفاجئة , وبحلول الحادية عشر مساءا انفض السامر وخلى المقهى من ساكنيه.
في الصباح التالي وقبيل السادسة بقليل أيقظني رنين هاتف , صديق يخبرني بالحضور في الموعد المحدد بالميدان الكبير.
وفي تمام الثامنة كنت أنا والصديق وروّاد المقهى من الصغار والكبار بخلاف كثيرين من المقاهي المجاورة , في الميدان منتظمين في صفوف كما قيل لنا. وانتظرنا مجيئ صديقنا " الماركسي " الأنيق ساعة امتدت لثلاثة ساعات كاملة.
لم يُخرجنا من حيرتنا سوى بائع " فول " يدفع عربته أمامه . وقد فاحت رائحة بضاعته فهّيجت مشاعرنا وتذكرنا أننا خرجنا من ديارنا دون إفطار , فاندفعنا نحو عربة الفول كجيش يحاصر مدينة عتيقة تتداعى أسوارها تحت وطأة بطوننا الخاوية .


" قوقعة "
===
كان الجو صحوا على غير عادته في مثل هذا الوقت من العام , سرت على مهل مستمتعا بلحظة صفا فيها الطقس دون مناسبة , سارح في ملكوت خاص صنعته لنفسي ولا أرغب في الخروج عليه فتمرّدت على فكرة التمرّد غارقا في قوقعة محكمة تضيق بأنفاسي .

أمتار قليلة وقابلتها , فتاة صغيرة باسمة الثغر بعينيها شقاوة الطفولة وتنمّر أنثوي مبّكر , مدت يدها أو كفها الصغير وقالت " عمو هات إيدك عشان أعدّيك الطريق , شكلك مش قادر تمشي "

أسقط في يديّ ولست أدري إن كان ذلك لدهشة من جرأة طفلة في مثل عمرها , أم إعجابا ببراءة زهرة لم تتفتح بعد على منغّصات الحياة , أم لصدمة ألمّت بي من وقع كلماتها البسيطة كسياط ألهبت حواسي فظهر عجزي وشيخوختي أمامها بهذا الشكل ؟!
= انت ساكت ليه مش بتتكلم ؟ هات إيدك .!
كسرت صمتي وضحكت لقولها ثانية , وقلت : لا.. بعرف أمشي كويس أنا بس بستمتع بالجو الجميل ده ..
= طيب تقدر تسبقني في الجري ؟!
بنزق طفولي كامن قلت لها : موافق يلا بينا .
= فجأة اندفعت كاعصار مرّ بجواري مخلّفا بعض من غبار بينما كنت لا زلت استعد للجري فتوقفت لهزيمة مؤكدة .


" ناجح "
===
طباع " ناجح " غريبة للغاية ولا تتناسب مع ظروف حياته الاجتماعية , فقد نشأ في بيئة متواضعة في كل شيئ ومن جانبه لم يبخل " ناجح " في استثمار هذا التواضغ , فغالى في تواضعه بداية من مستوى تعليمه ونهاية بوظيفة متواضعة يكاد دخلها يسد رمقه .
تجلّت غرابته في نمط معيشته اليومي , إذ يصحو مبكرا على غير عادة الجيران , موفور النشاط ينطلق إلى حمامه الصباحي بادئا بحلاقة ذقنه حتى تصبح لامعة مصقولة كمرآة ويرتدي ملابسه على مهل شديد وأخيرا ينتعل حذائه بعد أن يستوثق من لمعته الشديدة .

ومن غرابة تصرفاته و التي أثارت حقدا شديدا بين جيرانه, إصراره على احتساء الشاي بعد الخامسة عصر كل يوم بشرفته الصغيرة التي تطل على " محلج قطن " مهجور منذ سنين طويلة ويتخذه السكان مستقرا لإلقاء قمامتهم .

يجلس مرتديا " روب دي شامبر " وأمامه طاولة خشبة قصيرة الأرجل عليها " صينية " من الألومنيوم تحوي " برّادا صغيرا وكوب من المياه وفنجان كبير " طقس يومي لا يحيد عنه . ويجد متعة كبيرة في ممارسته رغم تحذير البعض.
وقد صبر الجيران والأهل على ترهاته هذه وأرجعوها لعلّة نفسيه تعصف به ,حتى يوم أيقنوا أن " ناجح " قد خرج من الملّة وأحدث في الحي فتنة لن تقوم لهم قائمة بعدها , حينما عكّر صفوهم فتى يقود درّاجة نارية ويحمل صندوقا خشبيا خلفه تتصاعد منه رائحة شواء تأخذ بالعقول فسالت شهيتهم بعد جدب . لم يتركهم في تيههم فبادرهم بالسؤال عن " ناجح " وأنه يحمل إليه بناء على طلبه طعام " دليفري " من مطعم شهير .

" دوام الحال"
===
قال صديقي الحكيم : لا شيء يدوم على حاله ولا بقاء لأحد . ومن قلب العتمة الكاملة يُولد النور والأمل .
أمّنت على كلامه وانصرفت والأمل يموج بداخلي كموج صاخب .

" شاعر"
===
استشعرت يوما ميلي للشعر فبحثت وقرأت .وتعلّمت على أيدي البعض وخُضت في بحور الشعر قراءة وتأملا , حتى وصلت لمعتقد داخلي أن ملكة الشعر قد دانت لي وأضحت طوع بناني.

ثم انطلقت لأقف على أقرب ناصية للشعر وبمفترق طريق شهير للشعراء , وقفت طويلا منتظرا أن تهطل عليّ السماء بمعنى أو يقع على رأسي بيت يصلح كمطلع قصيد , وقفت وحيدا وكثيرا حتى إظلمّت الدنيا وسكنت الريح تعاطفا معيّ وما زلت منتظرا هبوط الوحي ممسكا بقوة بمفردات اللغة .


ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mahmoud-hamdoun/-9-_6_b_17474218.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات