هو عُرْوة بن الوَرْد العَبْسي، شاعر قبيلة عَبْس ومن أَفرس فرسانها، عاصَر الملك زهير وابنه قَيْس، كما صاحب عنترة بن شداد زماناً، وإن اختلفت الرُؤى بينهما، فعنترة نشأ في موضع ذُلّ وصَغار جعله يطمح لكسب المكانة المرموقة عند والده وقومه، فظل جُلّ حياته يَرمي بنفسه إلى المعالي لكسب رضا القوم وثَنائِهم، أما عروة فقد كان أهله من كبار القوم، وكان هو مع هذا الكبر عظيم النفس، كثير الفضيلة، حتى افتخرت به العرب من ملوكها مروراً بشعرائها، وحتى عبيدها وصعاليكها.
ومن الآراء التي قيلت في عروة:
قال عبد الملك بن مروان الأموي: "من زعم أن حاتماً (يقصد حاتم الطائي) أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد".
ويروى أن عمر بن الخطاب قال للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف حازم، وقال: كيف؟ قال: كان فينا قيس بن زهير وكان حازماً، وكنا لا نعصيه، وكنا نَقْدُم أَقْدام عنترة، ونَأْتمّ بشعر عروة بن الورد.
يظهر لنا جلياً أن عروة كان نبراساً وضّاحاً للقبيلة يهتدون به، ويتعلمون منه حسن السلوك، والأخلاق، والقيم.
غير أن التاريخ عَلّمنا -ولا يزال- أن مَن كان العدل والمساواة مطلبه فسيصطدم رأيه برأي السادة والكبراء إن عاجلاً أم آجلاً؛ حيث إن هذه المبادئ تُزْعجهم، إذ هي تسلبهم سيادتهم المزعومة، وتَحُدّ من أطماعهم في الاِستحواذ والاِستيثار بالخيرات.
ومن ثَمّ نشأت القطيعة بين عروة بن الورد وسادات قبيلة عَبْس، وأَوّلهم والده، فاتهمهم هو بالاِستيلاء والظلم والترف، واتهموه هم بإثارة الفتنة والطعن في المقدسات، ودام الخلاف واحْتدم الصراع حتى اضْطُرّ عروة لترك قبيلته، فارْتدّ عن قومه بِبَدنه بعد أن كان قد ارتدّ عنهم بأخلاقه ومبادئه، واتّجه إلى التّصَعْلُك ليُفْتَح شطر جديد في حياة عروة بن الورد.
والتصعلك لغة هو الفقر، وفي لسان العرب، الصعلوك هو الفقير الذي لا مال له ولا اعتماد، وصعاليك العرب هم ذُؤْبانها أو ذِئابها.
من هذا التعريف نستنتج أن التصعلك عند العرب كان نوعاً من الفشل والتهميش، وأن الصعاليك لم يكونوا سوى شِرذمة من اللصوص وقطاع الطرق وشُذّاذِ آفاق لا انتماء لهم ولا اعتبار؛ لذلك كان دَمُ أغلبيّتهم مَهْدوراً، حتى إن دم بعضهم كان مطلوباً كشأن الشَّنْفَرة صاحب اللَّامَيّة وغيره.
غير أن مفهوم التصعلك وأهدافه طرأ عليه تغير ملحوظ بعد دخول عروة بن الورد في عِقد الصعاليك؛ حيث تأثّروا به وبمبادئه الإنسانية فشاركوه في غاراته على قوافل الأغنياء وتوزيع الغنائم على الفقراء والمعدومين، وسَّن لهم هو أُسُس الغزو وقَنّنَهُ، وأمسى التصعلك ثورة جماعية على الظلم والاستبداد من أجل نشر مبادئ العدل والمساواة بين الأثرياء والمملقين، وبين السادات والعبيد، بالسيف تارةً وبالشعر تارة أخرى.
ومرة أخرى يذكّرنا التاريخ أن الغلبة تكون للثقافة السائدة التي يدعمها، ويسهر على دوامها التوأمان: المال، والسلطة، فأصحاب الدُّثور وأسياد الأقوام لا يتمُّ لهم الأمر إلا بوجود العبيد والخدم، والذين لا بد أن يكونوا فقراء ذوي حاجة إلى أسيادهم.
من ثّم قَضّ التصعلك، على نهج عروة بن الورد، مضاجع القوم فحاربوه وقُتل معظم رؤوس الصعاليك كثابت بن فؤاد المعروف بلقبه تَأَبَّط شَرّا والشنفرة والسُّليك بن السَّلكة.
مع مُرور السّنوات الطوال وقتل رفقائه الصعاليك أدرك عروة قلة الجدوى من التغيير الشمولي لكلّ الجزيرة العربية فقرّر العودة إلى قبيلته الأمّ والتركيز على الإصلاح المحلي فيها، فصالح الأسياد وعادت إليه مكانته بوصفه شاعر القبيلة وفارسها مع عنترة بن شداد، غير أنه ما انفكّ يعتني بالفقراء والعبيد ويطعمهم من طعامه، ويؤثرهم على نفسه حتى أثّر ذلك في وجهه، ونَحِف جسده، فعيّروه بذلك، فردّ عليهم ردّاً قوياً ينِمّ عن شموخ وزُهوٍّ وزهد في الدنيا منقطع النضير وقتئذ:
إني امرؤ عافي إنائي شِرْكَةٌ ** وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سَمِنْتَ وأن ترى ** بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أُقَسِّم جسمي في جسومٍ كثيرةٍ ** وأَحْسو قَرَاحَ الماء والماء بارد
المتأمل في هذه الأبيات يدرك مدى استخفاف عروة بالدنيا وأبنائها، ومدى حرصه على إحقاق الحقّ، وإن كان شاقاً مجهداً، هكذا قضى عروة بن الورد حياته يخدم الغايات النبيلة الإنسانية، فعاش ومات صعلوكاً متمرّداً على عادات قومه، وعلى قِيَم زمانه.
وختاماً فما أحوجنا إلى أمثاله في زماننا هذا زمان السلطة المطلقة، سلطة الفرد الواحد الآمِر الناهي المتمكن برأس ماليّته المستعلية من رقاب العباد وأموالهم.
ما أحوجنا إلى ثورة فكرية تنظيمية كالتي أحدثها عروة بين الصعاليك، فحوَّلهم من قُطَّاع طُرُق يخدمون أهدافاً فردية نَفْعِيّة قريبة المدى إلى حاملين لمشروع الإصلاح البعيد المدى، مشروع البذل والعطاء والتمرد على السلطة الغاشمة من أجل تحقيق العدل والمساواة.
ومن الآراء التي قيلت في عروة:
قال عبد الملك بن مروان الأموي: "من زعم أن حاتماً (يقصد حاتم الطائي) أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد".
ويروى أن عمر بن الخطاب قال للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف حازم، وقال: كيف؟ قال: كان فينا قيس بن زهير وكان حازماً، وكنا لا نعصيه، وكنا نَقْدُم أَقْدام عنترة، ونَأْتمّ بشعر عروة بن الورد.
يظهر لنا جلياً أن عروة كان نبراساً وضّاحاً للقبيلة يهتدون به، ويتعلمون منه حسن السلوك، والأخلاق، والقيم.
غير أن التاريخ عَلّمنا -ولا يزال- أن مَن كان العدل والمساواة مطلبه فسيصطدم رأيه برأي السادة والكبراء إن عاجلاً أم آجلاً؛ حيث إن هذه المبادئ تُزْعجهم، إذ هي تسلبهم سيادتهم المزعومة، وتَحُدّ من أطماعهم في الاِستحواذ والاِستيثار بالخيرات.
ومن ثَمّ نشأت القطيعة بين عروة بن الورد وسادات قبيلة عَبْس، وأَوّلهم والده، فاتهمهم هو بالاِستيلاء والظلم والترف، واتهموه هم بإثارة الفتنة والطعن في المقدسات، ودام الخلاف واحْتدم الصراع حتى اضْطُرّ عروة لترك قبيلته، فارْتدّ عن قومه بِبَدنه بعد أن كان قد ارتدّ عنهم بأخلاقه ومبادئه، واتّجه إلى التّصَعْلُك ليُفْتَح شطر جديد في حياة عروة بن الورد.
والتصعلك لغة هو الفقر، وفي لسان العرب، الصعلوك هو الفقير الذي لا مال له ولا اعتماد، وصعاليك العرب هم ذُؤْبانها أو ذِئابها.
من هذا التعريف نستنتج أن التصعلك عند العرب كان نوعاً من الفشل والتهميش، وأن الصعاليك لم يكونوا سوى شِرذمة من اللصوص وقطاع الطرق وشُذّاذِ آفاق لا انتماء لهم ولا اعتبار؛ لذلك كان دَمُ أغلبيّتهم مَهْدوراً، حتى إن دم بعضهم كان مطلوباً كشأن الشَّنْفَرة صاحب اللَّامَيّة وغيره.
غير أن مفهوم التصعلك وأهدافه طرأ عليه تغير ملحوظ بعد دخول عروة بن الورد في عِقد الصعاليك؛ حيث تأثّروا به وبمبادئه الإنسانية فشاركوه في غاراته على قوافل الأغنياء وتوزيع الغنائم على الفقراء والمعدومين، وسَّن لهم هو أُسُس الغزو وقَنّنَهُ، وأمسى التصعلك ثورة جماعية على الظلم والاستبداد من أجل نشر مبادئ العدل والمساواة بين الأثرياء والمملقين، وبين السادات والعبيد، بالسيف تارةً وبالشعر تارة أخرى.
ومرة أخرى يذكّرنا التاريخ أن الغلبة تكون للثقافة السائدة التي يدعمها، ويسهر على دوامها التوأمان: المال، والسلطة، فأصحاب الدُّثور وأسياد الأقوام لا يتمُّ لهم الأمر إلا بوجود العبيد والخدم، والذين لا بد أن يكونوا فقراء ذوي حاجة إلى أسيادهم.
من ثّم قَضّ التصعلك، على نهج عروة بن الورد، مضاجع القوم فحاربوه وقُتل معظم رؤوس الصعاليك كثابت بن فؤاد المعروف بلقبه تَأَبَّط شَرّا والشنفرة والسُّليك بن السَّلكة.
مع مُرور السّنوات الطوال وقتل رفقائه الصعاليك أدرك عروة قلة الجدوى من التغيير الشمولي لكلّ الجزيرة العربية فقرّر العودة إلى قبيلته الأمّ والتركيز على الإصلاح المحلي فيها، فصالح الأسياد وعادت إليه مكانته بوصفه شاعر القبيلة وفارسها مع عنترة بن شداد، غير أنه ما انفكّ يعتني بالفقراء والعبيد ويطعمهم من طعامه، ويؤثرهم على نفسه حتى أثّر ذلك في وجهه، ونَحِف جسده، فعيّروه بذلك، فردّ عليهم ردّاً قوياً ينِمّ عن شموخ وزُهوٍّ وزهد في الدنيا منقطع النضير وقتئذ:
إني امرؤ عافي إنائي شِرْكَةٌ ** وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سَمِنْتَ وأن ترى ** بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أُقَسِّم جسمي في جسومٍ كثيرةٍ ** وأَحْسو قَرَاحَ الماء والماء بارد
المتأمل في هذه الأبيات يدرك مدى استخفاف عروة بالدنيا وأبنائها، ومدى حرصه على إحقاق الحقّ، وإن كان شاقاً مجهداً، هكذا قضى عروة بن الورد حياته يخدم الغايات النبيلة الإنسانية، فعاش ومات صعلوكاً متمرّداً على عادات قومه، وعلى قِيَم زمانه.
وختاماً فما أحوجنا إلى أمثاله في زماننا هذا زمان السلطة المطلقة، سلطة الفرد الواحد الآمِر الناهي المتمكن برأس ماليّته المستعلية من رقاب العباد وأموالهم.
ما أحوجنا إلى ثورة فكرية تنظيمية كالتي أحدثها عروة بين الصعاليك، فحوَّلهم من قُطَّاع طُرُق يخدمون أهدافاً فردية نَفْعِيّة قريبة المدى إلى حاملين لمشروع الإصلاح البعيد المدى، مشروع البذل والعطاء والتمرد على السلطة الغاشمة من أجل تحقيق العدل والمساواة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/hamza-taleb/-_12241_b_17310078.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات