الأربعاء، 12 يوليو 2017

الصهيونية العالمية في مخيال الساسة العرب

الصهيونية العالمية في مخيال الساسة العرب

من المرات التي شاركني فيها د. عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- حيثيات كتابة كتاب خلال مكالماتنا الهاتفية التي كنت أصفها بحالة "الدفع الفكري"، كانت فور عودته من إقامته العلاجية وعمليته الجراحية في أميركا سنة 2002، فقد وجد حالة من الهوس بفكرة المؤامرة، ومؤامرة الصهيونية العالمية خصوصاً، التي عززها مسلسل "فارس بلا جواد" وقتها في العقول والنفوس، وأصبحت عقيدة مسلمة عند الجميع تقريباً.

فقرر أن يتفاعل بطريقته لنقض الأساطير المؤسسة لبروتوكولات حكماء صهيون.

الإيمان بالبروتوكولات وقوة الصهيونية الخارقة تجذّرا في قلوب وعقول الناس، حتى شهدت مهاجمة شديدة للمسيري -رحمه الله- عند مناقشة كتابه خلال فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب سنة 2003، فأشفق على نفسه وعليّ وناداني من بين الجمهور، وهو في المنصة، وطلب منّي أن أغادر القاعة مع حفيده الصغير نديم وقتها إلى مقهى المعرض، وانتظاره هناك؛ كي يوفر علينا عنف المشهد (كان الجو وكأنه مجموعة مشاهد من مسلسل "العائلة" لعادل إمام تصبح واقعاً).

هذا الإيمان بالقوة الخارقة للصهيونية العالمية هو الذي سيجعل سياسياً مثل السيد مصطفى الفقي يصرح في آخر عهد مبارك، وتلميحاً لطموح ابنه جمال في إرث عرشه، بأنه لا رئيس لمصر ما لم ترضَ عنه إسرائيل!
مما اضطر عراب انقلاب 30 يونيو/حزيران 2013 لاحقاً السيد محمد حسنين هيكل لكتابة مقال حينها يرمي فيه بالكرة في ملعب المؤسسة العسكرية المصرية، ويشير بطريقة خفيّة لبعض الشخصيات الوطنية.

ليتلقف شباب ثائرون ضمن حركة كفاية وحركة 8 أبريل إشاراته، ويتوافقون في الفترة نفسها على السيد محمد البرادعي، شخصية "وطنية توافقية"، ويبدأون بالتعبئة للتغيير، من خلال حملات شعبية مختلفة، وملء استمارات زادت حدتها بعد عودة البرادعي إلى مصر خلال شهر فبراير/شباط 2010 وأهلت البلد لالتقاط مشعل الربيع بسرعة خاطفة من تونس مع بدايات سنة 2011.

سوف يتضح لاحقاً أن عقيدة السيد مصطفى الفقي ليست نشازاً ولا استثناء، وإنما هي عقيدة متجذرة في أذهان طبقة سياسية حاكمة في دول "الاعتدال" العربي، عرضتها في مبادرة الرياض، ولم نتوقف عندها كثيراً.

متغير الربيع العربي الذي سحب البساط من تحت بعض هذه الطبقة مؤقتاً، سوف يدفع بدول "الاعتدال" العربي لتستقيم على نفس خط ماهية مصلحة الكيان الصهيوني: الوجود.

هي معركة الوجود التي سوف توحد جهود محور "الاعتدال" العربي والكيان الصهيوني؛ حيث الغضب من إدارة أوباما التي تخلت عن حلفائها فعّل غريزة الخوف على المستقبل القريب عند الفريقين، ومتّن التحالف بينهما حد الانصهار.

فبحكمة العجوز الماكر دبر المجلس العسكري المصري شهور الربيع العربي الأولى في هدوء وثبات، ولتشويه صورة الربيع العربي وصورة الثورة وثوارها القريبة في الأذهان سيتم استدراجهم للهجوم على مقرات الأمن الوطني، وليقطع تعاطف الرأي العام والساسة الغربيين على السواء معها، سيتم الاتفاق على تدبير هجوم على سفارة إسرائيل في القاهرة، ثم وهذا هو الانعطاف الخطير والحقيقي في مسار التعاطف الدولي مع الربيع العربي سيتم اغتيال السفير الأميركي في ليبيا لاحقاً.

طبعاً خلال هذا الوقت كان محور "الممانعة" المقابل يعيث فساداً وقتلاً في سوريا وشعبها وهو مطمئن؛ لأنه كما صرح السيد رامي مخلوف لنيويورك تايمز بعد بضعة أسابيع بعد قيام ثورة 17 مارس/آذار 2011 بأن نظام بشار الأسد صمام أمان دولة "إسرائيل".

وجود "إسرائيل" وأمانها التي تحب أن تصف نفسها بأنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة لا يقبل ديمقراطية أخرى منافسة لها فيها، هذه هي المعادلة والقاعدة والإجماع التي وحدت "الاعتدال" و"الممانعة" و"الصهيونية" وأخرجت لنا مشروع الثورة المضادة.

انتخابات دول الربيع العربي التشريعية فضلت صعود أحزاب الإسلام السياسي أو الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية، ما عدا في ليبيا (لاختلاف التجارب والمسارات والسيرورات)، تجربة كانت تعد بتطور هذه الأخيرة في خلال عقد أو عقدين إلى أحزاب ديمقراطية ذات مرجعيات إسلامية تماماً، كما هو حال الأحزاب الديمقراطية المسيحية في غرب أوروبا.

"مقتل" أسامة بن لادن في هذا التوقيت بالذات كان مؤذناً بأن أميركا وأوروبا كانتا مستعدتين للتأقلم مع متغيرات شمال إفريقيا والشرق الأوسط الجديدة، التي أصبح للشعوب فيها الكلمة، وأصبح التعامل لأول مرة بعد تجربة الاستعمار قائماً على أساس: مصالحنا مقابل مصالحكم.

الديمقراطية تهديد للدول الاستبدادية الشمولية، والإسلام الديمقراطي نموذج جديد يأتي على المشروعية الدينية للأنظمة الاستبدادية الدينية وعلى أعمدة البنية التحتية للمخيال الغربي، ونموذج صراع الحضارات و"همجية" و"عنفية" الدين الإسلامي.

لذلك فإن الثورة المضادة لتضمن نجاحها كان عليها تحييد مفهوم "الإسلام الديمقراطي" أولاً في أذهان الشعوب العربية الإسلامية نفسها، والمجتمع الدولي على السواء؛ ليتم استدعاء نموذج "فقه التوحش" وتطبيقه من خلال "تنظيم داعش"، فالعمليات التي قام بها هذا التنظيم (من سبي وهدم للحضارات القديمة والمتاحف وتفنن وإبداع في القتل والترهيب) جديد حتى على أدبيات "الأعمال الجهادية" السابقة، سواء في أفغانستان أو الجزائر والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها.

كما أن زهد الرئيس باراك أوباما في المنطقة، وتوجهه نحو المحيط الهادي سيترك المجال واسعاً للطموحات الإمبراطورية الحنينية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهذا من أهم العوامل التي ساعدت على تماسك حلف "الوجود" المعادي للربيع العربي وآمال شعوبنا في الحرية والديمقراطية والكرامة.

فتدخّل كل الأطراف المذكورة أعلاه في الملف السوري مثال توضيحي على مدى استماتة الجميع من أجل وأد حلم الربيع، وإن ضحوا بملايين البشر.

في نفس الوقت فتحالفات الرئيس محمد مرسي البديلة ومشروع قناة السويس مع قطر ومشروع الإسمنت مع رئيسة البرازيل وقتها وكل المشاريع الاقتصادية الأخرى التي كانت ستجعل من مصر دولة مستقلة مادياً في بضع سنين عجّلت بالانقلاب عليه وبتوصيل مصر لحالة شبه الدولة العالة، التي تعيش على عطايا شركائها.

ولأن التحدي هو الوجود، والفرصة سانحة، فقد فاوضت الدولة العبرية على الحل النهائي للقضية الفلسطينية الذي تريده هي، فهل يملك شركاؤها الحاليون في حلف "الوجود" ترف الرفض أو المناقشة حتى؟

كل الدول المتحالفة معها دون استثناء متورطة في دماء شعوبها، وبعضها في دماء جيرانها وشعوب المنطقة كلها.
لم يكن ينقص الحلم الصهيوني ليتحقق إلا إدارة أميركية مجنونة، وجاءه فوز الرئيس ترامب على حاجة.
في واشنطن وفي الرياض وفي تل أبيب وفي بروكسل ظل الرئيس ترامب يعلن أنه صاحب الحل النهائي للقضية الفلسطينية، ولم يصرح ولا مرة عن كيفية الحل، ولا عن ملامحه.

ولأن له جنوداً لا يعلمها إلا هو، فقد ناب عنه حكماؤنا من حكامنا العرب في شرح بعض خيوط المخطط من خلال الأزمة الخليجية الأخيرة.
أولاً تحييد الإعلام العربي الذي قد يهيج الرأي العام العربي بتحييد قناة الجزيرة من خلال تركيع قطر بالحصار، عزل حماس وكل حركات المقاومة الفلسطينية، ولم لا حرب تركيعية على غزة وتوطين أهلها في سيناء كما لا عودة لفلسطينيي الشتات.

لقد رأينا جميعاً كيف تحسر نتنياهو كما ليبرمان على إضاعتهما للوقت والجهد، وهما يؤمنان بأن التطبيع الكامل مع العرب لا يتم إلا بإيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية، لكن التطور من ميزات البشر، وأصبح التطبيع واقعاً قائماً، والقضاء على المقاومة الفلسطينية مطلباً عربياً قبل أن يكون إسرائيلياً، أليست الصهيونية العالمية على كل شيء قديرة؟!

المتغير الحقيقي في واقعنا إدراكي: إدراكنا لذواتنا وطاقاتنا وإمكاناتنا ومصالحنا خاصة، وإدراكنا لغيرنا وطاقاته وقدراته في نفس الوقت.

ما لم تتحصّن جبهاتنا الداخلية باحترامنا لشعوبنا وحقها في الحرية والعيش الكريم، والعمل على إيجاد توافقات مجتمعية وسياسية تضمن تماسك مجتمعاتنا وقوتها واحترام غيرنا لها، فسنظل رهائن مصالح غيرنا فينا، والذين يسوقون لنا وهم قواهم الخارقة، وقدرتهم على حماية وجودنا، المستمدة فقط من ضعفنا وحاجة عقولنا غير الراشدة للتعليل دائماً بالخوارق والمعجزات.




ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/naima-fadel-abdellaoui/post_15423_b_17467954.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات