تستطيع أن تغلق عينيك عن شيء لا تود رؤيته، لكن قد تقف عاجزاً عن إغلاق قلبك أمام خبر لا ترغب بحدوثه أو عاصفة على هيئة نبأ اغتيال صديق أو رحيل عزيز.
الدناءة هي الغريزة السائدة لدى القتلة، ومن يمتهنون الخيانة والغدر لا يخجلون من توصيف ذلك بالخدمة المجانية التي يقدمونها للمجتمع المستهلك للأحزان!
بات الحزن هو الصورة الأكثر قتامةً وتعبيراً عن واقع مدينةٍ تكتسحها الفواجع المتلاحقة ويستمر فيها نزيف الشجعان.
ليس من السهل تحمّل صعق كهربائي يصعق الجسد والروح معاً بشحنات كهربية عالية، وكذلك هو الحال مع فولتية صعقات الاغتيالات المتكررة، تُصعق مدينتي ممشوقة الأحزان بتيار مستمر من أخبار معنونة بالأحمر مضمونها رحيل رجال لا وجود لنسخٍ مماثلة لهم ولن يكررهم الزمن.
منذ عامين تصعقنا الفواجع تباعاً، غير أن خبر استشهاد صديق في مواجهة الميليشيا يختلف عن نبأ استشهاد صديق برصاصة غادرة في شارع مدينة حررها من الغزاة، لم أكد أنتهي من الحزن على صديقي عمار الصراري، الذي كان يملأ الساحات والجبهات ضجيجاً يبعث على الحياة، عمار الصاخب سلبت روحه رصاصة صامتة، حتى اللحظة تدور في رأسي تساؤلات عدة وتعصف بذهني ألف علامة استفهام حول حادثة اغتياله، ثمة غموض يلف الحادثة، توقف دوران علامات الاستفهام في رأسي، وتجمدت التساؤلات مع نبأ اغتيال الأستاذ والمربي الفاضل أحمد الشرماني، لعل الكثير شاهد حوادث سير مؤلمة مثل اصطدام شاحنة بسيارة أجرة وموت كل مَن فيها، لكن ثمة صداماً أكثر مأساة من ذلك، إنه صدام بين حزن وآخر في ذاكرة شاب لم يعتد على حوادث سير في ذاكرته، إنه أمر يشبه اصطدام دراجة هوائية بقطار يسحقها ثم يمر في طريقه!
إنها الصورة الكاملة لحزن يكتسح القرى والبوادي بفواجع متلاحقة، مديريتي يخيم عليها الحزن برحيل اثنين من أبنائها الأبطال، ثمة بيوت ومناطق أخرى مظلمة أيضاً بفعل عمليات الاغتيال الحديثة، في إحدى جروبات الواتس قال أحد أبناء المنطقة:
احترقت أكبادنا لم نعد نحتمل.. اللعنة، وددت لو أنه لم يقل ذلك ليس كبتاً لمشاعره ولكن حتى لا يسمع الحزن مقولته ويوجعنا بآخر، فالحزن يخيم على مَن وقف عند حد النواح ونحن أبناء مدينة لا تنوح، قال آخر بحزن:
إن هذه الحرب وقودها الشرفاء والأبطال، قلت له إن الشهداء ليسوا حطباً أو وقوداً لحرب، بل دعائم وطن خائر، وعكاكيز بلدنا المكسور وبهم يقف شامخاً.
يستهدف الجبناء مخزون المدينة من الرجال ظانين أنهم بذلك يغتالون المدينة وحلمها ومشروع الدولة فيها، وذلك ما لن يحدث فلا يمكن لرصاصة مرتعشة أن تغتال حلم مدينة، تقول تعز ذلك.
رحل عمار ومن الصعب احتمال رؤية دموع أُم سبعينية العمر تذرفها أسفاً على شاب ثلاثيني استطاع بأسلوبه صنع علاقات حميمية مع أجيال متفاوتة، وانتماءات متعددة إلا مع كاتم الصوت الغادر.
استشهد الأستاذ أحمد، وليس من السهل على مدينة كتعز أن تودع رجلاً نادراً بنسخة فريدة من الوطنية والجسارة، سيحتفل حسام ابنه الشهيد بقدومه وسينشب حريق في قلب زوجة شهيد وأم شهيد، حريق يصعب إطفاؤه، تشعله الدموع كلما خبا سعير اشتعاله، ربما لن يحدث ذلك كون زوجة أستاذنا أحمد مناضلة لربما تمنت الشهادة قبلهما، لكن يبقى الحزن شعوراً لا يمكن السيطرة عليه.
كان أحمد الشرماني، الرجل القروي المثقف الأستاذ الذي زاد جسده صلابة عمله الشاق قبل أن يصبح أستاذاً فهو ذلك الرجل الشريف الذي يأكل من عرق جبينه حلالاً، قبل أشهر كثيرة جمعتنا جنازة شهيد ووجبة غذاء، وبعد أن انتهينا اصطحبنا الطريق معاً، لم أكن أعرف أنه ابن ماوية التي أنتمي إليها عرفت يومها، ماوية التي يتهمها البعض بالخنوع، بينما ترد عليهم برفدها لجبهات المدينة بقادة أمثال أحمد وعمار وحسام والعامري وغيرهم كُثر، افتتح حديثه وسريعاً ما وصلنا لنقطة سنفترق عندها سيذهب هو إلى الجبهة؛ حيث مترسه الذي ألفه، وسأواصل أنا طريقي حيث مكان عملي، لم أرغب أن ينتهي حديثه فقد كان حديث بطل لا يُمل، يسردُ تاريخاً مشرفاً وينسج لوحة فخر باسمه ونيابةً عن وطن وهبه فلذة كبده ودمه.
كان عمار صديقي الذي اختاره كاتم الصوت كذلك قائداً سيطول حديثي إن أخذتكم في جولة حول بطولاته، لكن يكفي أن تسألوا الصلو وجبهة غرب المدينة ومقر اللواء 35 عنه.
وفيما يستمر مسلسل استهداف القادة والرجال فيما المفصعون يعبثون بأمن المدينة لا تطالهم رصاصات الغدر، بل يحصدون العائدات والضرائب، ذلك مشهد لا يمكن احتمال مشاهدته.
الذين لم نرَهم ولم نمشِ خلف نعوش جنائزهم، ما زالوا أحياءً، هكذا نؤول لأنفسنا للتخفيف من أعباء الأسى والبؤس المخيم على أرواحنا.
ستُكرم مقبرة الشهداء بأبطال جدد وجثامين ثقبتها رصاصات الغدر التي ثقبت قلب المدينة قبل أجسادهم، دفنا عمار وآخرين استشهدوا غدراً، نجل قائد الشرطة العسكرية كذلك ودعه وداع الأبطال قرباناً في سبيل الوطن، وسنودع أحمد إلى مثواه الأخير ليس اليوم أو غداً بل بعد غد، تنفيذاً لوصيته ألا يدفن بعد استشهاده إلا يوم الجمعة، هكذا يصنع السامقون تاريخهم أحياء وأمواتاً.
بعد أيام سننسى هذه الفواجع، على وقع فواجع أخرى، سيصمت الناس، ستخجل بيانات الإدانة ولن يخجل القادة، سيتناول القاتل الماء البارد بيده التي باشر بها القتل، بينما ستستقبل السماء دعوات حارة وحارقة، لا بد لها من أن تشعل حياة الغادرين ناراً بحجم الأحزان المتقدة، وأما أرض المدينة فستفتح حضنها لأحبة جدد، قد تستمر الفواجع وتُفتح مقابر أخرى، وتُنكأ جراحنا من جديد، غير أن هذا لن يكون نهاية المشهد، فالأرض التي تحتضن كل يوم حراً، لا بد أن يلتهم قاعها قاتلاً، والمدينة الجريحة لن تظل كذلك، فلكل مغدور ولَدٌ يحمل اسمه، لن يجف نسل الأبطال، ورصاصات الغدر لن تجد مكاناً غير صدور مطلقيها، كل شهيد تنتظره جنة، وكل قاتل ينتظره موت، ولعنة دهر أبدية.
الدناءة هي الغريزة السائدة لدى القتلة، ومن يمتهنون الخيانة والغدر لا يخجلون من توصيف ذلك بالخدمة المجانية التي يقدمونها للمجتمع المستهلك للأحزان!
بات الحزن هو الصورة الأكثر قتامةً وتعبيراً عن واقع مدينةٍ تكتسحها الفواجع المتلاحقة ويستمر فيها نزيف الشجعان.
ليس من السهل تحمّل صعق كهربائي يصعق الجسد والروح معاً بشحنات كهربية عالية، وكذلك هو الحال مع فولتية صعقات الاغتيالات المتكررة، تُصعق مدينتي ممشوقة الأحزان بتيار مستمر من أخبار معنونة بالأحمر مضمونها رحيل رجال لا وجود لنسخٍ مماثلة لهم ولن يكررهم الزمن.
منذ عامين تصعقنا الفواجع تباعاً، غير أن خبر استشهاد صديق في مواجهة الميليشيا يختلف عن نبأ استشهاد صديق برصاصة غادرة في شارع مدينة حررها من الغزاة، لم أكد أنتهي من الحزن على صديقي عمار الصراري، الذي كان يملأ الساحات والجبهات ضجيجاً يبعث على الحياة، عمار الصاخب سلبت روحه رصاصة صامتة، حتى اللحظة تدور في رأسي تساؤلات عدة وتعصف بذهني ألف علامة استفهام حول حادثة اغتياله، ثمة غموض يلف الحادثة، توقف دوران علامات الاستفهام في رأسي، وتجمدت التساؤلات مع نبأ اغتيال الأستاذ والمربي الفاضل أحمد الشرماني، لعل الكثير شاهد حوادث سير مؤلمة مثل اصطدام شاحنة بسيارة أجرة وموت كل مَن فيها، لكن ثمة صداماً أكثر مأساة من ذلك، إنه صدام بين حزن وآخر في ذاكرة شاب لم يعتد على حوادث سير في ذاكرته، إنه أمر يشبه اصطدام دراجة هوائية بقطار يسحقها ثم يمر في طريقه!
إنها الصورة الكاملة لحزن يكتسح القرى والبوادي بفواجع متلاحقة، مديريتي يخيم عليها الحزن برحيل اثنين من أبنائها الأبطال، ثمة بيوت ومناطق أخرى مظلمة أيضاً بفعل عمليات الاغتيال الحديثة، في إحدى جروبات الواتس قال أحد أبناء المنطقة:
احترقت أكبادنا لم نعد نحتمل.. اللعنة، وددت لو أنه لم يقل ذلك ليس كبتاً لمشاعره ولكن حتى لا يسمع الحزن مقولته ويوجعنا بآخر، فالحزن يخيم على مَن وقف عند حد النواح ونحن أبناء مدينة لا تنوح، قال آخر بحزن:
إن هذه الحرب وقودها الشرفاء والأبطال، قلت له إن الشهداء ليسوا حطباً أو وقوداً لحرب، بل دعائم وطن خائر، وعكاكيز بلدنا المكسور وبهم يقف شامخاً.
يستهدف الجبناء مخزون المدينة من الرجال ظانين أنهم بذلك يغتالون المدينة وحلمها ومشروع الدولة فيها، وذلك ما لن يحدث فلا يمكن لرصاصة مرتعشة أن تغتال حلم مدينة، تقول تعز ذلك.
رحل عمار ومن الصعب احتمال رؤية دموع أُم سبعينية العمر تذرفها أسفاً على شاب ثلاثيني استطاع بأسلوبه صنع علاقات حميمية مع أجيال متفاوتة، وانتماءات متعددة إلا مع كاتم الصوت الغادر.
استشهد الأستاذ أحمد، وليس من السهل على مدينة كتعز أن تودع رجلاً نادراً بنسخة فريدة من الوطنية والجسارة، سيحتفل حسام ابنه الشهيد بقدومه وسينشب حريق في قلب زوجة شهيد وأم شهيد، حريق يصعب إطفاؤه، تشعله الدموع كلما خبا سعير اشتعاله، ربما لن يحدث ذلك كون زوجة أستاذنا أحمد مناضلة لربما تمنت الشهادة قبلهما، لكن يبقى الحزن شعوراً لا يمكن السيطرة عليه.
كان أحمد الشرماني، الرجل القروي المثقف الأستاذ الذي زاد جسده صلابة عمله الشاق قبل أن يصبح أستاذاً فهو ذلك الرجل الشريف الذي يأكل من عرق جبينه حلالاً، قبل أشهر كثيرة جمعتنا جنازة شهيد ووجبة غذاء، وبعد أن انتهينا اصطحبنا الطريق معاً، لم أكن أعرف أنه ابن ماوية التي أنتمي إليها عرفت يومها، ماوية التي يتهمها البعض بالخنوع، بينما ترد عليهم برفدها لجبهات المدينة بقادة أمثال أحمد وعمار وحسام والعامري وغيرهم كُثر، افتتح حديثه وسريعاً ما وصلنا لنقطة سنفترق عندها سيذهب هو إلى الجبهة؛ حيث مترسه الذي ألفه، وسأواصل أنا طريقي حيث مكان عملي، لم أرغب أن ينتهي حديثه فقد كان حديث بطل لا يُمل، يسردُ تاريخاً مشرفاً وينسج لوحة فخر باسمه ونيابةً عن وطن وهبه فلذة كبده ودمه.
كان عمار صديقي الذي اختاره كاتم الصوت كذلك قائداً سيطول حديثي إن أخذتكم في جولة حول بطولاته، لكن يكفي أن تسألوا الصلو وجبهة غرب المدينة ومقر اللواء 35 عنه.
وفيما يستمر مسلسل استهداف القادة والرجال فيما المفصعون يعبثون بأمن المدينة لا تطالهم رصاصات الغدر، بل يحصدون العائدات والضرائب، ذلك مشهد لا يمكن احتمال مشاهدته.
الذين لم نرَهم ولم نمشِ خلف نعوش جنائزهم، ما زالوا أحياءً، هكذا نؤول لأنفسنا للتخفيف من أعباء الأسى والبؤس المخيم على أرواحنا.
ستُكرم مقبرة الشهداء بأبطال جدد وجثامين ثقبتها رصاصات الغدر التي ثقبت قلب المدينة قبل أجسادهم، دفنا عمار وآخرين استشهدوا غدراً، نجل قائد الشرطة العسكرية كذلك ودعه وداع الأبطال قرباناً في سبيل الوطن، وسنودع أحمد إلى مثواه الأخير ليس اليوم أو غداً بل بعد غد، تنفيذاً لوصيته ألا يدفن بعد استشهاده إلا يوم الجمعة، هكذا يصنع السامقون تاريخهم أحياء وأمواتاً.
بعد أيام سننسى هذه الفواجع، على وقع فواجع أخرى، سيصمت الناس، ستخجل بيانات الإدانة ولن يخجل القادة، سيتناول القاتل الماء البارد بيده التي باشر بها القتل، بينما ستستقبل السماء دعوات حارة وحارقة، لا بد لها من أن تشعل حياة الغادرين ناراً بحجم الأحزان المتقدة، وأما أرض المدينة فستفتح حضنها لأحبة جدد، قد تستمر الفواجع وتُفتح مقابر أخرى، وتُنكأ جراحنا من جديد، غير أن هذا لن يكون نهاية المشهد، فالأرض التي تحتضن كل يوم حراً، لا بد أن يلتهم قاعها قاتلاً، والمدينة الجريحة لن تظل كذلك، فلكل مغدور ولَدٌ يحمل اسمه، لن يجف نسل الأبطال، ورصاصات الغدر لن تجد مكاناً غير صدور مطلقيها، كل شهيد تنتظره جنة، وكل قاتل ينتظره موت، ولعنة دهر أبدية.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/abdulrahman-abdullh-mohammed/post_15548_b_17635220.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات