الأربعاء، 30 أغسطس 2017

العامل الصغير في المصنع الكبير.. نحو اللاتخصصية من أجل أن تعيش إنساناً

العامل الصغير في المصنع الكبير.. نحو اللاتخصصية من أجل أن تعيش إنساناً

حينما مرض جدي -رحمه الله- مرضه الأخير، ونُقل إلى مصلحة العناية المركزة في المستشفى، كنت أرقب أبناء العائلة من الأطباء يتناقشون أسباب مرضه والعلاج الأفضل له.. شعرتُ بالعجز العميق وبأنني لا أستطيع المساعدة بشيء.. تمنيتُ يومَها لو أن نفسي كانت أقوى قليلاً، لاخترت الطب تخصصاً لي حتى أكون أكثر فائدة لأحبائي وقتَ الأزمات.

كما أنني لما بدأت عملي لأول مرة ووجدتُني في احتكاك مباشر مع شخصيات مختلفة من العملاء، ورغم ثقتي بالرصيد العلمي الذي أحمله معي من سنوات الجامعة، فإنني اكتشفت نقص أدوات الإقناع والتسويق وفنون التواصل مع البشر لديّ ووجدتني مدفوعة إلى القراءة في مجالات أخرى لأغطي النقص.

بعد تخرجي في الجامعة، مواقف مختلفة جعلتني أدرك مساحة الجهل الواسعة داخلي، وبحاجتي الماسة إلى مهارات إضافية تعينني على خوض معترك الحياة.

اختيار الطالب الجامعي لتخصص معيّن دون غيره من التخصصات، ومن ثم انغماره فيه وسيره نحو مزيد من التخصيص في مرحلة الماستر، وربّما انتقاله بعدها إلى البحث حول تفصيل شديد الدقة في مجاله ليحصل على لقب "الدكتور"، هو أشبه بالسير عمودياً داخل قمع لا يزداد إلا ضيقاً وكثافة كلما صعدتَ نحو العنق.. ولعل جداراً من العزلة يبنيه حوله ضريبة للإخلاص والمثابرة في سبيل تحقيق النجاح الأكاديمي، خاصة إذا أغفل المشاركة في الأعمال التطوعية والنشاطات الخارجية.

نحن إذ نتقن مجالاً محدداً فقط في الحياة نشبه ذلك العامل الصغير في المصنع الكبير، الذي يكرر خطوة واحدة لا يعرف غيرها.. يقضي حياته مركزاً على صناعة برغيّ أو قطعة دقيقة فلا يعرف الكيفية الكاملة لصناعة المنتج النهائي.. وهو مبدأ حداثي يُدعى "تقسيم العمل" ينتمي لمفهوم الفوردية Fordism، برز خلال القرن الماضي.. اليوم يتحدث العلماء عن أهمية بناء الجسور بين مجالات مختلفة من العلوم، ما يولّد تخصصات جديدة لا نهائية تشهدها البشرية.. كتزاوج البيولوجيا والتكنولوجيا، واستعمال برامج الإظهار الثلاثي الأبعاد في الطب، وانفتاح مجال الهندسة المعمارية على علم الاجتماع أو البيئة أو الهندسة المدنية أو على تقنيات الواقع الافتراضي، واندماج الرياضيات مع تخطيط المدن والعلوم مع التاريخ وغيرها.

صحيحٌ أنه من غير المعقول أن يطلب الإنسان من ذاته إتقان جميع تخصصات الحياة، ولهذا وُجد التنوّع بين أفراد المجتمع.. وصحيحٌ أيضاً أن التخصص العلمي ضرورة لا مفرّ منها.. إلا أنّنا نواجه احتياجات يومية وتحديات متنوّعة لا بدّ أن نحسن فهمها والتعامل معها.

فبعيداً عن الرياضيات والفيزياء والعلوم، مناهجنا التعليمية لا بُدّ أن تكون موجهة في المقام الأول لبناء أفضل للإنسان.. لا أزال حتى اليوم أتذكر -بكل امتنان- دروس مادة "التربية الأسرية"، والتي درستها أثناء عيشي في إحدى دول الخليج.

ورغم أنها لم تكن من "المواد الأساسية" في المنهاج الدراسي، غير أنها علمتني بطريقة منهجية: كيف أكوي ملابسي، وكيف أشغل غسالة الثياب؟ وماذا يعني أن أعتني بنظافتي الشخصية وتغذيتي وأعطتني بعض المبادئ في الإدارة المالية للمنزل وفي كيفية إدارة الوقت وغيرها مما طوته ذاكرتي من معلومات.

يمر الطالب الجامعي حتماً خلال دراسته بما يُدعى "مهارات البحث العلمي".. هذه المهارات لم توجَد عبثاً ولا لأجل إعداد ورقة بحثية تضاف للسيرة الذاتية، فحسب، وإنما من أجل العيش ضمن نمط حياة قائم على البحث والتعلم المستمر من تجارب الآخرين، ولعل الحسّ العلمي هو أفضل ما تهدينا إياه الدراسة الجامعية.

وظهور المدونات والمواقع ووسائل التواصل الاجتماعي ومنصات التعلم الإلكتروني اليوم، لا يترك لنا عذراً بالجهل.. ومن واجب المتخصصين من المجالات المختلفة أن يستعملوها في تبسيط معلوماتهم للعامّة من أجل خلق سحابة مشتركة، توفر الحد الأدنى مما يجب معرفته في كل مجال: قليلاً حول الإسعافات الأولية، قليلاً حول الأمراض والأدوية والتغذية والصحة، قليلاً عن الإدارة المالية، وعن التربية، والطبخ وإدارة المنزل، وما يجب معرفته من الدين بالضرورة، وقليلاً حول علوم الحاسوب، والنجارة والميكانيكا، قليلاً من القراءة في السياسة وما يجري من أحداث عالمية.. قليل من كل شيء يساعدك على خوض الحياة بالكفاءة المطلوبة.

من أجل الهروب من لعنة التخصص التي تزداد كلما تقدم بنا الزمن، يروق لي أن أتخيل إنشاء مراكز تدريبية توجهنا نحو التعلم الأفقي متنوّع الآفاق، مراكز تدربنا على "الحياة" الحقيقية؛ لئلا تنحصر معرفتنا في عنق القـُمع ونترك سعة الدنيا.


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/sana-mostafa/story_b_17821012.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات