الأحد، 17 سبتمبر 2017

العيد الكبير

العيد الكبير

تجتمع عشر فتيات من "الفيمنن" عاريات الصدور أمام السفارة الروسية في باريس فتقوم الدنيا ولا تقعد وتُستنفر الخارجية ويستشيط بوتين ويتوافد الصحفيون.. بينما لا يشكلّ اجتماع مليوني حاجّ مسلم أثراً يُذكر في حياة البشر أو في واقع مليار ونصف المليار مسلم! أليس هذا هو المعنى الحرفي لـ"غثاء السيل" الذي أخبرنا به نبيّنا محمّد؟

قبل أيام، دخل جيش ميانمار إلى إحدى القرى المسلمة فقتل 370 طفلاً وامرأة مسلمة ذبحاً بالسكاكين، ثمّ أحرق كل بيت فيها غير مكترث بمليوني مسلم مجتمعين معاً في وقت المجزرة نفسه، يجمعهم بالأطفال المحروقين الدين والقرآن والإله ذاته! ميانمار من أحط دول الأرض حضارةً، لا تقيم بالاً لمظاهرة تجمع مليوني مسلم فيختارون وقت الحجّ الأعظم لذبح إخوانهم المسلمين!

أليس في ذلك ما يدعونا إلى إعادة التفكير في المعنى والمغزى من الحجّ؟ ما الذي جعل من حجّنا المليونيِّ حدثاً سطحياً بلا أي قيمة تُذكر على الصعيد الإنساني؟ ونزل برسالته إلى أن صار حشداً لا يُسمن ولا يُغني من جوع بدل أن يكون صورة مهيبة لمجتمع مسلم إنساني قوي متكافل متكاتف مُتَّحِدٍ متساوٍ متعاضد، يحسب الوجود له ألف حساب.

في "عرفات الله"، دعا الخطيب لملك السعودية الثمانيني "سلمان" وابنه "محمّد" على وقع تلبية مليوني حاجّ وراءه دون أن يخشى منهم سؤال الاستحقاق! استحقاق من هو الأولى بدعاء يُؤمِّن عليه مليونا حاجّ: عشرات الفتيات السوريات اللاتي تخرج قصص اغتصابهنّ تباعاً على يد جنود بشار أم فتى لا نعرف عن ماضيه أكثر من قصة يخته السياحي الذي اشتراه بـ570 مليون دولار؟! لم يأتِ سعد الشثري، خطيب مسجد نمرة في "عرفات الله"، على ذكرهنّ، كما لم يأتِ على ذكر الكثير ممن هم أولى بالذكر والدعاء!

ولكن وجود الشثري في هذا العام، بحدّ ذاته، كان تغيراً فارقاً، بعد أن ظلّ سلفه عبد العزيز آل الشيخ يخطب على عرفات 35 سنة، منافساً القذافي في البقاء، ولا نذكر من خطبه المستفزة غير صوت صراخه الحادّ.. المهمّ أنّ هذا الشيخ الشثري معروف بعداوته الشديدة للاختلاط، أليس غريباً على من لا يتحمّل اختلاط عشرات الطلبة والطالبات في جامعة أن يخطب في مليوني امرأة ورجل حاجّين مُلبّين "مختلطين"؟! كيف صار الحج موسماً للتناقضات!

في "عرفات الله" يمتلئ المسجد بالحجاج المتزاحمين، إلا أن حاجزاً في المقدمة يفصل حجاج الـVIP عن بقية رعاع المسلمين وفقرائهم.. بالله، أين الإسلام والعدل والمساواة والتواضع والتكافل من ذلك! كيف صار الحج موسماً للطبقية المتعالية البغيضة؟!

الحجّ، أمّة الإسلام وجمع الله ورابطة القرآن ومعنى الأخوّة وحقيقة المساواة، كيف تحولّ إلى مهرجان للحكام يدعون من يشاءون من فناني السيسي وإعلامييه ويمنعون من يشاءون من مفكرين وعلماء وفقراء؟! كيف تحولّ إلى سوق ضخمة لفنادق وأبراج الملوك وزوجاتهم؟!

في آخر مرة كنت هناك وقفت مطولاً وأنا أنظر إلى شرفة قصر الملك فهد المطلّة على الحرم وقد اصطف وراء زجاجها بعض أصحاب الفخامة والسيادة والسمو يصلّون وحدهم في مقصورتهم الفارهة وبقية المسلمين في الأسفل يتدافعون بحثاً عن حيّز صغير ليذكروا اسم الله عليه! أين الحجّ في ذلك ومِن ذلك؟!

وأين هو الحرم والإحرام؟! بل أين هو الإسلام؟! وكيف انقلبت المفاهيم والموازين فتحولّ الحجّ من مجتمع مؤمن متساوٍ متآخٍ مشتركٍ في الملبس والمأكل والدعاء والصلاة إلى صور فجّة من صور البذخ والرفاهية؟ أبداً، هذه ليست شعائر الله ولا بلده الحرام.

قبل أشهر، كنت حاضراً في أمسية لمعماري ألماني فاز بمسابقة لتصميم توسعة هائلة لمكة.. "مكة" الحرم، حيث لا يُصطاد عندها ولا يُقطع شجرها! وفي مشروعه الفائز تصطف الأبراج شاهقة مزدحمة متجاسرة على حرمة الحرم!

وفي محاولته تبرير هذا الجشع الرأسمالي، طَرح الألماني منتشياً سؤالاً: لماذا نبني مباني شاهقة؟ وأجاب نفسه مزهوّاً: لأننا قادرون على ذلك! حقّاً! أهذه مكة؟! ما هذه الركاكة؟! لن يتجاسر أي معماري في الأرض على التفكير في هدم الفاتيكان ليبني مكانها أبراجاً شاهقة!

أنا شخصياً اكتأبت مختنقاً ومتخيلاً نفسي أمشي في شوارع مكة ما بعد الحداثة، متصاغراً تحت الخوازيق الإسمنتية المتعالية على كعبة الله.. "ومن دخله كان آمناً"، أنّى لروحي المتعبة من صخب المادة أن تأمَن وهي تائهة وسط أعمدة الكونكريت الجامدة المتراصة المتكررة المملة اللانهائية تلك؟!

ستشعر روحي بالتصحر والضياع والفقر والدونية والعجز والقهر وهي تهيم مصطدمة باستثمارات استخدمت مكة الله وقِبلة الإسلام ووجهة الملايين الفقيرة مورداً للغنى الفاحش دون أية مسؤولية روحانية أو معرفية.

في تجربة لنا خضناها بمسابقة لتصميم مركز ثقافي في باميان، وهي قرية بأفغانستان طالتها يد طالبان وفجِّرت فيها تماثيل ضخمة لبوذا، كدنا نمحي عمارتنا ونحجبها في أفق الهضاب؛ كي لا نمسّ حضرة المكان وحرمته! فكيف يتجاسر المعماريون على مكة وهي حرم الله بألف خدش وبرج!

ذاك البرج قام على أنقاض بيت خديجة، والآخر حُفر أساسه عميقاً في القلب من دار الأرقم! حاول المعمار راسم بدران أن يشرح لنا السياق الذي أفرز فوز هذا التصميم: بأن كل خطاب المسابقة هو نتاج واقع أليم لجشع ورغبة جارفة في الربح لأصحابها!

ساعة قبيحة وأبراج لا تُبنى ولا تُعزف؛ بل تُفرض من اللامكان لتزيد ربحهم ظلماً!

الحجّ أيام الله، وبوابة الطهر، وموسم الرجوع، وفرصة تبييض الصحائف.. لحظات رجاء وساعات توبة وأيام إنابة، كيف نزل إلى أن صار مناسبة للكوميديا الساخرة بطلها داعية التعايش مع المستبدين عمرو خالد.. دائماً ما أشعر بتعاطف فطري مع من يتعرّض لسهام السخرية والنقد من المجتمع.. إلا أنت يا عمرو، كلما أردتُ أن أتعاطف معك أتذكر أصبعك وأنت ترفعه منتخباً السيسي، بعد أن أشبعتنا عِبراً عن الثبات على الحقّ! المهمّ كيف ترك الناس الحجّ واشتغلوا بـ"عمرو" هذا؟!

في "عرفات الله" نفر الحجيج إلى مزدلفة مُخلّفين ورائهم نحو 15 ألف طن من المخلّفات، كيف لمسلم في أطهر بقاع الأرض حسب معتقده ويؤدي أعظم عبادة مفروضة عليه كيف له أن يلقي بمخلفاته على الأرض ثم يكمل حجّه ودعاءه ورجاءه؟!

نحن أمّة لم تفهم معنى إسلامها.. الغريب جداً ليس ذلك الحاج الذي رمى زبالته على الأرض وأكمل حجه؛ لأن سلوكه جزء من التخلف الحضاري الذي نحن فيه! المستغرب جداً ذلك الذي جرَّد سيفه ليدافع عن أكوام الزبالة واستحضر كل صور الدنيا ليثبت أننا لا نختلف عن غيرنا في رمي القمامة على الأرض! المسكين لا يدري أنه أداننا بدل أن يدافع عن الإسلام.

في "عرفات الله" مخيمات فارهة تقدّم بوفيهات مفتوحة طوال اليوم وكل ما تتمناه من الخدمات حتى المساج.. وأخرى هي مكاره صحية لا يمكن أبداً أن نسميها مخيمات!

غرف فندقية يصل ثمنها إلى 20 ألف دولار لليلة الواحدة و5 آلاف دولار إضافية للإطلالة على الكعبة.. وفقراء ينامون بالشوارع! يجب أن نسأل الضمائر المتعطشة للتوبة والحجّ والإنابة: هل هذا هو حجّ الله: موسم المساواة والتواضع والتلاحم والوحدة والخشوع والإنابة أم أنه موسم كل شيء إلا "الحجّ"!


ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mohammad-adnan-alkilani/-_13294_b_17960956.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات