السبت، 30 سبتمبر 2017

آفة حارتنا

آفة حارتنا

(ولكنني كنت أعیش من أجل غد لا خوف فیه، وكنت أجوع من أجل أن أشبع ذات یوم، وكنت أرید أن أصل إلى هذا الغد، لم یكن لحیاتي یومذاك أیة قیمة سوى ما یعطیها الأمل العمیق الأخضر بأنّ السماء لا یمكن أن تكون قاسیة إلى لا حدود، وبأنّ هذا الطفل الذي تكسرَّت على شفتیه ابتسامة الطمأنینة سوف یمضي حیاته هكذا ممزقاً كغیوم تشرین رمادیاً، كأودیة مترعة بالضباب، ضائعاً كشمس جاءت تشرق فلم تجد أفقها.

ورغم ذلك.. كنت أقول لذات نفسي: "اصبر یا ولد أنت ما زلت على أعتاب عمرك وغداً وبعد غد سوف تشرق شمس جدیدة ألست تناضل الآن من أجل ذلك المستقبل؟ سوف تفخر بأنك أنت الذي صنعته بأظافرك منذ آسة الأول.. إلى الآخر" وكان هذا الأمل یبرر لي ألم یومي، وكنت أحدق إلى الأمام أدوس على أشواك درب جاف كأنه طریق ضیق في مقبرة". (1)

كان الخوف -وما زال- موضوعاً یجده الأدباء حقلاً خصباً یستقون منه المعنى، یجدون فیه بحراً واسعاً ینهلون منه لإثراء كتابتهم، وآثرت أن أبدأ بمقطع كتبه غسان كنفاني في مجموعته القصصیة تحت عنوان "موّت سریر رقم 12 ".

"إننى أكتب عن الخوف بدافع الخوف من الخوف!".
عندما یشتد بك الألم أول ما تبحث عنه هو مُسَكّن یمنع عنك الألم، یحجبه، أو ربما یخففه إلى الحد الذي تستطیع تجاهله، تعتاد تدريجیاً علیها إلى الحد الذي قد یدفعك إلى إدمانها كأنها تحولت إلى احتیاج مثلها مثل الماء.

الألم هو مربط الفرس، ومنه المنطلق فهو جسديّ أو نفسي، وهناك الألم الناشئ عن الخوف، الألم المرتبط بالوهم.. إلخ.

لا یهمني سوى ألمَین منها: الألم الناشئ عن الخوف، والألم المرتبط بالوهم، أمّا الأول فهو ما سأتناوله بالحدیث، وأمّا الآخر فنفرد له مساحة أخرى.

الألم الناشئ عن الخوف، هو جزء لا یتجزأ من التركیبة النفسیة لأي إنسان فلا یوجد إنسان لا یخاف، مهما ادّعى ذلك أو أنكر أو تجاهل، فلا یوجد إنسان بلا خوف ولا یسكن الخوف إلا إنساناً، لا یشغلنا الخوف الطبیعى ولكن تشغلنا الحالات المتقدمة التي یتحول فیها الخوف إلى شعور دائم "قلق" وقد یتطور إلى اكتئاب أو وسواس، وفي عصرنا هذا يندر وجود الإنسان السويّ نفسياً أو للدقة يستحيل وجوده، وكعادة كل شيء يزيد على حدة يتحول إلى خلل يؤثر على باقي الجسم.

في زيادته عن الحد يتحول إلى زائر دائم ربما أفسد علیك فرحتك بشيء ما یوماً، أو طرد النوم من عینیك لیالي طوالاً، أو ربما دفعك إلى ملازمة سریرك أیاماً لا تتحدث، أو ربما أفقدك رغبتك في الحیاة، وملأ رأسك بأفكار دفعتك إلى الاقتراب من حافة الجنون.

أجده يسلك سلوك القاتل الصامت الصبور الذي ینهش فيك، یترصد بك، یرافقك في كل لحظة، ینتظر لحظته المُثلى لیقضي علیك؛ لیدفعك لموت محتم، والموت هنا مجازي وحقیقي فكم من أناسٍ هم "موتى ولكن على قید الحیاة".

ربما أورثك هماً أو حزناً دفیناً أو ولَّد فیك خوفاً من كل شيء وسلبك أغلى ما تملك، ربما سلبك الفرصة، والعمر، والأمل حتى أصبحت مجرد خواء في جسدٍ ما أن تمر بك ریح عاصف حتى تقتلعك من جذورك إن كان لك جذور!

أحیاناً قد یسلبك إیمانك، إیمانك باللّه، إیمانك بنفسك، إیمانك بكل شيء، إیمانك بجدوى أنك تكون على قید الحیاة، في حالاتٍ متقدمة منه تنتهي غالباً بنهایة مأساویة.

أجده سلاحاً خطیراً لو سكن الناس لفسدت أمورهم وانتكس حالهم، في القدیم كان الخوف بسیطاً، مجرد خوف من الوحوش، خوف من ألا یجد الإنسان الطعام والماء، ألا یجد المأوى، لكن كعادة الزمن لا یظل شيء على حاله، كلما تعقدت المجتمعات وتطورت تعقد الخوف وتتطور، لكن صاحبنا هذا لم يظل على حاله فتوحش.

لقد صرنا كحالة الإنسان الأول أمام الوحوش، ولكنه وحش من نوع مختلف، وحش لیس له وجود مادي، ربما هو أقرب إلى روایات الخیال العلمي وقصص الفانتازيا والرعب التي ضيعت النوم من أعيننا في صغرنا.

فى مشهد من الفيلم الساخر "النوم في العسل" یجد ضابط المباحث نفسه أمام وباء ينتشر في المناطق ذات التكدس العالي، عجز جنسي أدى إلى انتحار وجرائم قتل على مستوى واسع، وبرغم سخریة الفرضیة وما ترتب علیها في أحداث الفيلم التي دفعت ضابط المباحث إلى البحث عن أصل الظاهرة ومسبباتها، والتي قادته إلى سؤال أحد الأطباء، في حواره مع طبيب الأمراض التناسلية تحدَّث عن الخوف كأحد مسببات الوباء، وأقتطع جزءاً من الحوار عن سبب الظاهرة:
* ضابط: انت شایف إيه؟
- طبیب: ممكن تكون حالة إحباط عامة، برامج التليفزيون بتجیب إحباط، قرایة الجراید بتجیب إحباط، كتر سماع الكذب بیجیب إحباط، الخوف من المستقبل ممكن یعمل خلل في كل وظایف الجسم.
* ضابط: ممكن یبقى سبب ملموس.. سبب مرَضي مثلاً؟
- طبیب: مفیش غیر المخ، ممكن كل وظایف المخ تصاب بالخلل.

تخیل إن مجرد شعور یمكن أن یترك هذا الأثر في نفس صاحبه، ما بالك بهذا الوحش یهاجم المجتمع فرداً فرداً لا یترك حیاً إلا ویتلبّسه، یدفعه إلى الانطواء أمام الخوف من عدم قدرته على تلبیة احتیاجاته الشخصیة، یجعله یتصاغر، ینسحق أمام واقعه، أمام طموحه، أمام جمیع من خذلهم بدعوى الخوف من الآتي!

یصیب المجتمعات كوباء وهو في خرابه أشد من الوباء یسلبهم كل شيء، یصبحون أقرب إلى القطیع الذي یبحث عن مرعى وعشب وماء فقط، أو مجرد خیالات وانعكاسات له، مجرد ضحایا لنفس القاتل في جریمة إبادة جماعیة على مرأى ومسمع من الكل، لكن لم یلاحظها ولم يلتفت لها أحد!

وصاحبنا هذا ما أن يحل بأرض حتى يجعل البلاد والعباد فريسة سهلة لكل ظالم مستبد، یدفع بجلادیه إلى الناس فلا یتركونهم إلى وزرعوا فیهم الخوف من السوط ومنافقة الحكام.

قالوا آفة حارتنا النسیان، ولكن في الحقیقة "آفة حارتنا الخوف".

الخوف من الماضي والحاضر والمستقبل، منذ أن یولَد الطفل حتى موته مع كل مرحلة یُزرع فیه الخوف من شيء ما، كأنه جاء إلى هذه الدنیا لیضیّع عمره في الخوف:
الخوف من عصا الأب، الخوف من الناس، الخوف من المستقبل، الخوف من الله والآخرة، الخوف من الحاكم، الخوف من الفرص الضائعة، الخوف من أن یفوتك قطارات الحیاة، الجواز، الخلفة، الشغل.. إلخ.

دوائر من خوف لا تنتهي، وكأن العالم عُملة لها وجهان، یقع الخوف على أحدهما.

"الخوف أذل أعناق الرجال.. السينما تعج بالأبطال الذين يتحدون الظلم.. الكتب تعج بالرجال ذوي المبادئ الذين لا يخافون ولكن يغضبون.. أحلام المراهقات مفعمة برجال مفتولي العضلات منتصبي القامة يتحدون الشر.. يخيل لي أن السينما والكتب والأحلام أخذت كل هؤلاء الرجال، فلم يبقَ منهم عدد كافٍ للحياة نفسها".(2)

فهل یوماً سنرى ثورة على الخوف؟ سننتفض لنطهر أنفسنا من میراث الخوف؟
نحمل الشجاعة لخوض المواجهة مع هذا المحتل الغاشم لننتزع منه ما تبقى من حیواتنا؟
أن ننتزع منه الإرادة مرة أخرى، أن لا نسير متوجسين من كل شيء، أن نجد لحيواتنا بعداً آخر لا يسلب فيه الخوف حتى آخر ما تبقى في قلوبنا من ضحك، أن لا نسلم له دواخلنا دون عناء!

هي معركة فردية في الأساس، فكم منا من يمتلك الشجاعة ليخوض غمارها، لست بعالم اجتماع أو بخبير نفسي ولا أملك العلاج الناجع، لا أملك سوى أن ألفت النظر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) غسان كنفاني، موت سرير رقم 12.
(2) أحمد خالد توفيق، مثل إيكاروس.





ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/moaz-abd-alkader-hassan/post_16014_b_18109748.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات