آه.. يا أيها الوطن، فتنت بك بجنون
وإن كنت في ظلمة الليل، وقدماي في القيود..
لكنني أتذكر هامتك
فلا تظنني أنساك
لا السجون ولا المعارك تجبرني على بيعك
كلمات عبّر بها الشاعر الكردي فائق بيكس "1905 - 1948" عن حبّه لوطنه، وعشقه لأرضه، واستعداده للتضحية في سبيله، حتى لو كان هذا الوطن بلا حدود معروفة، أو خطوط مرسومة فالوطن في نظر بيكس يتخطى حدود الدولة بمراحل، فمن المعروف أن الشاعر كردي الأصل ولم يظهر للكرد دولة حتى وفاته؟!
حب بيكس للوطن كما جاء في القصيدة التي سمّاها "الوطن" نوع من العشق الأفلاطوني، فهو العاشق المفتون بوطنه الذي كان وما زال يعيش في أزمة ويخضع للمؤامرات الدولية، وربما هذا الوضع الذي يعيشه الوطن السبب الأكبر في هذا العشق، ففي ظل الأزمة يكون الوفاء والاستعداد للتضحية بلا حدود..
بعيداً عن عشق "بيكس" للوطن، نظرياً يمكن التعبير عن الوطن بمجموعة من الألفاظ والمصطلحات فهو كلمة لا تصفها الحروف، ولا تطويها كتب أو مجلدات، الوطن حالة مختلفة بداخل كل إنسان، إحساس أكبر من الوصف.
عملياً يمكن النظر للوطن على أنه المكان الذي نعيش فيه، ولكن ليس أي مكان يصلح أن يكون وطناً، فالوطن ليس مجرد رصيف نعيش فيه، فالرصيف ليس مكاناً للحياة ولا يستحق لقب وطن، والوطن ليس مكاناً نهان فيه، فالوطن لا يهين أبناءه، الوطن مكان نشعر فيه بآدميتنا، الوطن دولة ترعى مواطنيها وتوفر لهم حياة كريمة.. الوطن هو الإنسان، كما وصفه الشاعر الفذّ أحمد مطر:
نموت كي يحيا الوطن
يحيا لمَن؟
نحن الوطن
إن لم يكن بنا كريماً آمناً
ولم يكن محترماً
ولم يكن حُراً
فلا عشنا.. ولا عاش الوطن
ظاهرياً قد يبدو أن هناك تناقضاً بين نظرة الشاعرين الكبيرين للوطن، ولكن بنظرة أعمق على الأبيات ومغزاها سنكتشف أن كلمات "مطر" العقلانية ستقودك لأحاسيس "بيكس" الرومانسية.
فالوطن الذي يقدم لك حياة كريمة آمنة حرة محترمة لا بد أن تبادله الحب وتكون على استعداد للتضحية من أجله حتى لو كانت مسلسلاً في قيودك خلف أسوار السجون في ظلمة الليل الحزين.
تبدو العلاقة بين الوطن والمواطن بحاجة لإعادة نظر، ففي زمن المادية البحتة لا توجد علاقة بلا مقابل، فالجنسية التي حوّلتها بعض الدول لسلعة تباع وتشترى لا يمكن أن تشتري مواطناً مخلصاً، فالمواطن المخلص لا يشترى ولا يستعار، كما أن الوطن لا يباع ولا يشترى أو هكذا تربينا.
العلاقة بين الوطن والمواطن لم تعد شيكاً على بياض يقدمه المواطن في سبيل إثبات انتمائه للوطن دون أى حقوق يلتزم بها الوطن تجاه مواطنه، ففي مرحلة ما بعد الحداثة ربما يكون هناك واجبات على المواطن مقابل حقوق للوطن، فالعلاقة تبادلية بشكل كبير، فالوطن الذي يحترم أبناءه ويوفر لهم الحياة الكريمة والكرامة الإنسانية والعدل والمساواة، لا بد أن يقدم له أبناؤه كل الحب والوفاء والتضحية في سبيل رفعته والموت فداءً له، لا يمكن أن تطالب مواطناً بأن يقدم الروح والدم من أجل وطن لم يعامله يوماً كإنسان، ولا يمكن أن تطالب وطناً بالعفو عن مواطن فاسد أو خائن.
هذه النظرة المثالية للعلاقة بين الوطن والمواطن شهدت تحولاً مع انتشار نعرة القومية العربية مع منتصف القرن العشرين، فتقزم الوطن الذي سبق أن تعدى حدود الدولة كما وصفه "بيكس" ليصبح الحاكم هو الوطن، وتتمادى وسائل الإعلام في ترسيخ هذه النظرية السلطوية، فرأينا الإعلام يختصر مصر في شخص مبارك؛ لتصبح مصر مبارك، وسوريا الأسد، والعراق صدام، وليبيا القذافي.
هذا التدني الذي أصاب منظومة الوطن كان له تبعات سلبية على علاقة المواطن، وأصبح هناك نوع من التصنيف والتمييز للمواطنين وهو ما أفقد المواطن حق المساواة أحد أهم شروط الولاء والإخلاص للوطن، فمع تقزم الوطن في شخص تم تصنيف المواطن على حسب قربه وموالاته لهذا الشخص، وأصبحت درجة الوطنية تقاس بمدى التقرب والتزلف من هذا الشخص، فالأقربون هم أهل الوطنية والشرف، أما المعارضون والمخالفون في الرأي فهم رموز الخيانة والعمالة ولا مانع من استدعاء الدين في مواجهتهم، فلن يخلو زمان من علماء السلطان الذين يجعلون الدين مداساً في حضرة الزعماء.
أصبحت الوطنية سلعة تباع وتشترى بعد أن بيعت الأوطان في سوق النخاسة، صُنف المواطنون على أساس أعراقهم ومواقفهم ودياناتهم، سكت الجميع، لا صوت يعلو فوق صوت الوطن، صار الشعب في خدمة الوطن "الحاكم"، استقطعوا من أشعار أحمد مطر أول أبياته "نموت كي يحيا الوطن" دون أن ندري يحيا لمن؟ المهم أن نموت.. انتهت الصفقة وتفككت أواصر العلاقة بين الوطن والمواطن بعد أن سادت القومية واستُغلت الأديان.
فى ظل هذا الخلل في العلاقة، سكت المواطن قهراً، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، تحلّل المواطن في قرارة نفسه من اتفاقه مع الوطن وقرر الانفصال، فليس هذا الوطن الذي أحبّ فالوطن ليس صنماً يُعبَد، فقد المواطن إحساسه بالمكان وأصبح يبحث بداخله عن وطن بعد أن سُرق وطنه أو اختفى قسرياً.. وما زال البحث جارياً.
وإن كنت في ظلمة الليل، وقدماي في القيود..
لكنني أتذكر هامتك
فلا تظنني أنساك
لا السجون ولا المعارك تجبرني على بيعك
كلمات عبّر بها الشاعر الكردي فائق بيكس "1905 - 1948" عن حبّه لوطنه، وعشقه لأرضه، واستعداده للتضحية في سبيله، حتى لو كان هذا الوطن بلا حدود معروفة، أو خطوط مرسومة فالوطن في نظر بيكس يتخطى حدود الدولة بمراحل، فمن المعروف أن الشاعر كردي الأصل ولم يظهر للكرد دولة حتى وفاته؟!
حب بيكس للوطن كما جاء في القصيدة التي سمّاها "الوطن" نوع من العشق الأفلاطوني، فهو العاشق المفتون بوطنه الذي كان وما زال يعيش في أزمة ويخضع للمؤامرات الدولية، وربما هذا الوضع الذي يعيشه الوطن السبب الأكبر في هذا العشق، ففي ظل الأزمة يكون الوفاء والاستعداد للتضحية بلا حدود..
بعيداً عن عشق "بيكس" للوطن، نظرياً يمكن التعبير عن الوطن بمجموعة من الألفاظ والمصطلحات فهو كلمة لا تصفها الحروف، ولا تطويها كتب أو مجلدات، الوطن حالة مختلفة بداخل كل إنسان، إحساس أكبر من الوصف.
عملياً يمكن النظر للوطن على أنه المكان الذي نعيش فيه، ولكن ليس أي مكان يصلح أن يكون وطناً، فالوطن ليس مجرد رصيف نعيش فيه، فالرصيف ليس مكاناً للحياة ولا يستحق لقب وطن، والوطن ليس مكاناً نهان فيه، فالوطن لا يهين أبناءه، الوطن مكان نشعر فيه بآدميتنا، الوطن دولة ترعى مواطنيها وتوفر لهم حياة كريمة.. الوطن هو الإنسان، كما وصفه الشاعر الفذّ أحمد مطر:
نموت كي يحيا الوطن
يحيا لمَن؟
نحن الوطن
إن لم يكن بنا كريماً آمناً
ولم يكن محترماً
ولم يكن حُراً
فلا عشنا.. ولا عاش الوطن
ظاهرياً قد يبدو أن هناك تناقضاً بين نظرة الشاعرين الكبيرين للوطن، ولكن بنظرة أعمق على الأبيات ومغزاها سنكتشف أن كلمات "مطر" العقلانية ستقودك لأحاسيس "بيكس" الرومانسية.
فالوطن الذي يقدم لك حياة كريمة آمنة حرة محترمة لا بد أن تبادله الحب وتكون على استعداد للتضحية من أجله حتى لو كانت مسلسلاً في قيودك خلف أسوار السجون في ظلمة الليل الحزين.
تبدو العلاقة بين الوطن والمواطن بحاجة لإعادة نظر، ففي زمن المادية البحتة لا توجد علاقة بلا مقابل، فالجنسية التي حوّلتها بعض الدول لسلعة تباع وتشترى لا يمكن أن تشتري مواطناً مخلصاً، فالمواطن المخلص لا يشترى ولا يستعار، كما أن الوطن لا يباع ولا يشترى أو هكذا تربينا.
العلاقة بين الوطن والمواطن لم تعد شيكاً على بياض يقدمه المواطن في سبيل إثبات انتمائه للوطن دون أى حقوق يلتزم بها الوطن تجاه مواطنه، ففي مرحلة ما بعد الحداثة ربما يكون هناك واجبات على المواطن مقابل حقوق للوطن، فالعلاقة تبادلية بشكل كبير، فالوطن الذي يحترم أبناءه ويوفر لهم الحياة الكريمة والكرامة الإنسانية والعدل والمساواة، لا بد أن يقدم له أبناؤه كل الحب والوفاء والتضحية في سبيل رفعته والموت فداءً له، لا يمكن أن تطالب مواطناً بأن يقدم الروح والدم من أجل وطن لم يعامله يوماً كإنسان، ولا يمكن أن تطالب وطناً بالعفو عن مواطن فاسد أو خائن.
هذه النظرة المثالية للعلاقة بين الوطن والمواطن شهدت تحولاً مع انتشار نعرة القومية العربية مع منتصف القرن العشرين، فتقزم الوطن الذي سبق أن تعدى حدود الدولة كما وصفه "بيكس" ليصبح الحاكم هو الوطن، وتتمادى وسائل الإعلام في ترسيخ هذه النظرية السلطوية، فرأينا الإعلام يختصر مصر في شخص مبارك؛ لتصبح مصر مبارك، وسوريا الأسد، والعراق صدام، وليبيا القذافي.
هذا التدني الذي أصاب منظومة الوطن كان له تبعات سلبية على علاقة المواطن، وأصبح هناك نوع من التصنيف والتمييز للمواطنين وهو ما أفقد المواطن حق المساواة أحد أهم شروط الولاء والإخلاص للوطن، فمع تقزم الوطن في شخص تم تصنيف المواطن على حسب قربه وموالاته لهذا الشخص، وأصبحت درجة الوطنية تقاس بمدى التقرب والتزلف من هذا الشخص، فالأقربون هم أهل الوطنية والشرف، أما المعارضون والمخالفون في الرأي فهم رموز الخيانة والعمالة ولا مانع من استدعاء الدين في مواجهتهم، فلن يخلو زمان من علماء السلطان الذين يجعلون الدين مداساً في حضرة الزعماء.
أصبحت الوطنية سلعة تباع وتشترى بعد أن بيعت الأوطان في سوق النخاسة، صُنف المواطنون على أساس أعراقهم ومواقفهم ودياناتهم، سكت الجميع، لا صوت يعلو فوق صوت الوطن، صار الشعب في خدمة الوطن "الحاكم"، استقطعوا من أشعار أحمد مطر أول أبياته "نموت كي يحيا الوطن" دون أن ندري يحيا لمن؟ المهم أن نموت.. انتهت الصفقة وتفككت أواصر العلاقة بين الوطن والمواطن بعد أن سادت القومية واستُغلت الأديان.
فى ظل هذا الخلل في العلاقة، سكت المواطن قهراً، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، تحلّل المواطن في قرارة نفسه من اتفاقه مع الوطن وقرر الانفصال، فليس هذا الوطن الذي أحبّ فالوطن ليس صنماً يُعبَد، فقد المواطن إحساسه بالمكان وأصبح يبحث بداخله عن وطن بعد أن سُرق وطنه أو اختفى قسرياً.. وما زال البحث جارياً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mohamed-ahmed-mohamed/-_13187_b_17896076.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات