السبت، 30 سبتمبر 2017

دع عنك الحقيبة

دع عنك الحقيبة

لم أكن اعتقد أنني مع تلك اللحظة التي حزمت فيها حقائبي استعدادا لمغادرة الوطن ... أنني وضعت داخل الحقيبة تاريخا من الحياة ... لم يساورني الشك بأنني سأحزن على فراق كل شيء ... ولكن كنت أطبطب على قلبي بأن العودة قريبة وأن الطريق للوطن سالك بسهولة وأني في اللحظة التي أقرر العودة سأجد الوطن مرحبا فاتحا ً ذراعيه وكأني ماودعته يوما ،، وأن الأصدقاء ماكثون هناك بانتظاري على تلك المقاعد التي اعتدنا فيها السهر ... وان لاشيء تغير ... وان كل شيء سيعود كما غادرته آخر مرة ... ظننت أن صحبة السنين لاتُنسى بتلك السهولة وأن تلك الموائد التي تشاركنا عليها أفراحنا مازالت قائمة وأن النفوس مازالت تهوى الارواح رغم الغياب .... إلا أن واقع الحياة يوقظك من أحلام الطفولة ... ففي الغياب يبقى صندوق رسائلك فارغ إلا ممن صدقك وعده بالبقاء على عهد الأخوة ... يصدمك النسيان بل يصعقك فذاكرتك الصاروخية تستيقظ بقوة دافعة من قاع جمجمتك للسطح كل أيامك مع من عرفت من تاريخ مولدك للحظة تفقدك لصندوق بريدك الفارغ إلا ممن صدقوا معك ... لا يمكن انكار حقيقة أزلية (من فقدته العين لن يفتقده القلب )

ولكن كثير من الاموات رحلوا ومازالو في حنايا القلب قابعين يستوطنون الذاكرة
وأنت في غربتك لم تعد تصدق خرافات العلاقات فتصبح العلاقات الاجتماعية فرضا عليك لا اختيار ... لم تعد تمتلك ذلك الخيّار الذي كنت تمتلكه في الوطن في اختيار تطابق الافكار ، الاهتمامات ، الارواح

تمتلك خيارين ... الأول أن تتقوقع على ذاتك محاولا لملمت بقاياك وحيدا متأملا بالعودة لوطن مفقود إلا من ذاكرتك ... لأصدقاء فُقِدت من موائدهم المتمردة على الذكريات ليس باستطاعتك أن تلوم من رحل فأنت رحلت متنازلا بكبريائك المهزوم عن كل شيء ربما لو صدقت لصدّقوك الفعل ... أنت الراحل أولا المتخلي غصباً حتى عن أفراحك...

خيارك الثاني هو الخيار المفروض ففي الغربة لا تتكون الصداقات أو ربما هي نادرة الحدوث حتما
فأنت لا تمتلك خيار الانتقاء كوقوفك عاريا مفروض عليك ارتداء ماتراه ، لا مايناسبك حتما ... قد يكون هذا الرداء متناسقا مع جسدك المتعب يقيك صقيع الغربة أو قد يكون فضفاضا يخترق ثقوبه صقيع الغربة متوغلا لبقايا روحك الجليدية المشاعر ...

لم تكن مشاعري يوما ترتدي هذا الصقيع أنا المشتعلة بالعاطفة ... متّقِدة كعاصفة .... لا يقيدني اتجاه ... غالبا ما كنت متسرعة في عواطفي سهلة الاختراق ... لكنك عندما تخرج عن دائرة وطنك تتغير ... تتبدل ... تتحول
ذلك القلب يوصد ... تلك الروح المخترقة ترتفع اسوارها معلنة الحرب لكل مقترب وكل مغترب ... وكلنا سواء

أوجاع الغربة واحدة للمكتفي ... ذلك الشخص الذي كان يملك كل شيء في وطنه ... ماديا ... نفسيا ... عاطفيا ... جسديا وفجأة فقد كل شيء وفقد معه سكون روحه فأصبحت تلك الروح لاهثة ... تائهة ... تبحث عن السكن .... لا يعنيها بذخ الطبيعة ... ليس من ضمن دائرة اهتماماتها المساواة ... الأمان ... لا يخترق هدوء المارة ضجيج الذاكرة فيّسكنها... أنت في اللحظة التي حزمت فيها حقائبك عن الوطن لتغادر كان عليك أن ترحل وحدك بدون حقيبة ملئ بالذكريات ... باختصار عليك أن تتخلى عن الحقيبة التي تحني ظهرك فلا تجعلك واقفا باستقامة تمنعك من النظر للامام ... تمنعك من رؤية ذلك الثقب المنبعث نورا تتوغل لروحك لتدفئ صقيع الغربة وتذيب الجليد وتُعيدك مشتعلا نابضا بالحياة كما كنت ...





ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/souzan-ahmad-alsit/-_13420_b_18061026.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات