الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

عفوية الاحتجاج واليسار المغربي

عفوية الاحتجاج واليسار المغربي

1- عفوية الاحتجاج وتحديه للاصطلاحات السياسية العتيقة:

ربما علينا القول إن الصحوة الاحتجاجية في بلاد المغرب صارت ثقافة وسلوكاً جماعياً حضارياً، تبّناه أغلب المغاربة منذ سنين، فصار لا يقتصر على منطقة دون أخرى (كما هو حال منطقة الريف حالياً).

- فما هو معروف حتى الآن أن ظاهرة الاحتجاجات المبتكرة، قد شهدتها كثير من مدن المغرب، وفي زمن تاريخي متقطع ومتقلب، ومنذ تحديداً تلك السنوات العجاف، المتوترة سياسياً، من نهاية القرن الماضي.

لهذا فأفضل ما يمكن أن يقال عنها راهناً كوقائع استثنائية (تبعاً لدرجات ذاك المنحنى التاريخي التجريدي والمتقطع الذي يرسمها خفية) أن تيارات وحركات احتجاجية قادمة ستنبثق فجأة من عمق الخريطة وهوامشها وستليها مباشرة بوتيرة متواصلة وعجيبة، حتى ترسخها وتتوّجها كتقليد.

ففي ظرف وجيز، إذن، تمددت بسرعة، وشهدت صواعق أحداثها الخاطفة فضاءات عدة تنتمي إلى مدن ما يطلق عليه سياسياً بالمغرب العميق، وخاصة منها المتضررة جهوياً (مدن: سيدي أفني تازة صفرو الحسيمة طنجة...).

وها هي الآن هذه الاحتجاجات، صارت تتحدى القوالب الاصطلاحية المعروفة في الأدبيات السياسية، المعمول بها لدى الخبراء والتي حاولوا عبر شبكتها، احتواء دلالات هذه الأحداث الاستثنائية عملياً ونظرياً أو حتى رسم تشكلات تداعياتها المنفلتة.

ولهذا نظن أنه لا يكفي -كما هو مقترح في بعض منتديات النقاش الجانبي- تناولها ومقاربتها كسلوك احتجاجي فقط، معه أنه صحيح بدأ يتبلور في بؤرة ثقافة اجتماعية ثورية، وجدت جنينيتها الناشئة تنبثق من صلب مكتسبات حركات سابقة لها، اختبرتها فئات متعددة؟ (وعلى رأسها المعطلون من حمَلة الشواهد وما سيليها من نضج سياسي صب في خرجات حركة 20 فبراير/شباط وما حملته من شعارات قوية جريئة..).

بل ربما سيتطلب الأمر التأهب أكثر، ومضاعفة مجهود التحليل العلمي الاجتماعي الموضوعي الرصين، واستحداث ترسانة مفاهيمية جديدة ومرنة لمواكبة ديناميتها كلياً، حتى تتضح الصورة التاريخية أكثر، في المستقبل القريب.

ثم هناك ثانياً التساؤل البديهي الذي سيطرح نفسه بخصوص هذه الظواهر الاحتجاجية والذي يتعلق أفقياً بمسألة: "التأطير".

وربما سيبدو من وجهة نظر المتخصصين، أنه تساؤل ملغوم، ولن يصدر إلا من جهة واحدة وهي جهة السلطة، أو من أجهزة استعلاماتها وقواتها العمومية (التي تبقى هي الوحيدة قانونياً التي تحتكر شرعية الحق في استعمال القوة وحفظ الأمن والنظام).

ونحن نعلم أن مثل هذا التساؤل المطروح (الرازح على كاهل كل السلطات) يتحول لديها إلى وساوس وهواجس تتناسل تباعاً على هذه الشاكلة:
- من وراء تأطير الجموع وحثها على التظاهر المتواصل؟ وما هي دوافع هذه الحشود للخروج بهذه المثابرة والاستماتة؟ وما هي مرجعية محركيها إن كانت فعلاً موجودة؟

وهكذا ينقلب التساؤل فيمتزج بكثير من التوجس الأمني المغالى فيه (وحتى حين يكون غير معلن عنه لا في تلك الجلسات السرية ولا في الخرجات الإعلامية المتبناة من طرف السلطات المحلية).

- فالسلطة، في الأخير، لا يمكن أن تقتنع بأن مثل هذه الحركات الاحتجاجية عفوية، ووليدة تنظيم ذاتي أو أنها مجرد تصريف ناجح (مع كثير من جميل الصدف وحسن الحظ) لتضامن شعبي مبتكر لأشكال من النضال والمقاومة تنهج طرقاً ذاتية خاصة تميز إبداع ساكنة مدن مغرب اليوم.

حتى إن الجميع تفاجئ وبدون استثناء بمن فيهم محللو السلطة التابعون والموالون الرسميون لها، الذين يثرثرون بإفراط حول كل شيء: التوقعات والأزمات... إلخ.

ويصيبهم الخرس دفعة واحدة حول انبجاس هذه الحالات المستعصية وليدة الاحتجاجات والانفجارات الاجتماعية العفوية التي لم يحتوها سلفاً أي تنظيم معلن؛ لأن ما هو متعاقد ومتفق عليه والمعهود أن تدبير قطاعات حيوية ومراقبتها مهمة كانت دوماً موكولة للدولة.

وأن الحشود عند الاحتجاج تبقى قاصرة لا تعرف كيف تتدخل عند اللزوم لإصلاح أعطاب طارئة أو دفع أزمات خارج بؤر الاحتقان والتوتر.

فمن جهة يبقى هاجس الدولة الدائم هو:
- أنه لا بد لها من الشروع في التدخل والتحرك بالنيابة عن الكل.

- فحضورها الأخطبوطي بجهازها الأمني البيروقراطي قائم أساساً لجلب الاستقرار بأي ثمن ولحماية حقوق أطراف النزاع كما تتصورها مع استعمال القوة العمومية بإفراط عند لحظة العجز في فهم واحتواء الحراك.

2 - وضعية اليسار المعتدل راهناً:

اليسار المعتدل يحارب اليسار المتطرف، ويعتبر مساندته للحراك نوعاً من التحالف المرحلي غير المسؤول، مع جموع الغوغاء التي يحركها الوازع الديني أكثر من أيديولوجيا ما فارقة وواضحة المعالم، (والتي في نظره لا تفعل إلا أنها تصرف غضبها لا شعورياً والتي لا تعرف ما تريد، وتقسم المجتمع إلى طالح/ صالح كافر/ علماني عار متبرج/ محتشم محافظ.. إلخ).

واليسار المعتدل يعتبر أن بقايا أقصى اليسار حين يتحالف مع الحشود باسم محاربة الاستبداد والقمع لمجرد تصفية حسابات عصيبة مع المخزن القديم/المتجدد هذا التحالف المصلحي هو السم المدسوس الذي ما زال يمزق أحشاء اليسار المغربي كله في صمت.

ونحن نقول مثل هذا من الوسطيين المعتدلين لا يستوعبون بعد أبعاد الحراك الاحتجاجي وتراكماته ومكتسباته التي عرفها الشارع المغربي منذ عقد ونصف العقد من الزمن.

لكن ما هو صحيح أن هناك بين حراك وحراك خيطاً رفيعا لا يجب قطعه ألا هو البرنامج المطلبي وسقفه، إنه البوصلة التي توصل خارج النفق.

ولتوضيح الأمر أكثر بخصوص وضع هذا الجناح المعتدل من اليسار المغربي، سيكون الأفضل مقاربته من الجانب المؤسساتي:

فكل المؤسسات السياسية التاريخية ذات التوجه اليساري المعتدل، أضحت تقريباً اليوم متصدعة داخلياً، صارت قابلة للاختراق بكل الأشكال، ومهيأة العدّة تماماً لاحتضان الأغنياء الجدد (حتى من كانت منهم تطاله شبهة فساد مالي) النابتين كالفطر والحائمين حول الدوائر العليا الرقيبة المشرفة على كثير من المواقع النافذة الحساسة في البلد.

الدليل على ذلك أنّ كل أولئك اليساريين الذين كانوا يطمحون فيما مضى إلى التغيير، مستعدون ويأملون الآن تسيير المؤسسات المنتخبة جنباً إلى جنب مع الوافدين التكنوقراط الجدد، (غير المتمرسين بفن السياسة أو بفن تعاطيها نزاهة وبنظافة اليد) وبموجب الشروط المملاة عليهم من الجهة الماسكة زمام الأمور؛ الشيء الذي يجعل مثل هذه الشروط معطلة نسبياً، في رأينا، للمكتسبات وللصلاحيات التي أتت بها مقتضيات دستور جديد، معدل، يبقى غير منزل كفاية وبالسرعة المطلوبة.

ثم يبقى هذا انحناء واحتكاماً من اليساريين كذلك لثقل موازن القوى القائمة، التي رست طواعية - على عكس ما هو مأمول ديموقراطياً بشكل جذري- على النهج القديم في الحكم؛ وبالتالي استسلاماً منهم، مرة أخرى، للثقة الإرادية الممنوحة من فوق ومن أصحاب السيادة.

فها هم الآن يأملون قيادة المؤسسات تماماً كما هي بكل ما تتضمنه من سلطة وهيبة موروثة عن النظام القديم، بحيث صار يحدث هذا، كما لو أنه قد قُضي على تلك الفكرة القديمة التي تقول: كل مؤسسة منتخبة شرعياً كيفما كانت هي قابلة للنقد والتغيير.

ثمّ إنه لم يعد يحدث هذا بخلق تبريرات جديدة من طرفهم ودفعها إلى الواجهة لتبرير مرحلة بطيئة في تسريع موجبات الانتقال الديمقراطي الملموس والفعلي المرغوب فيه والذي مازال يراوح مكانه؛ ذلك لأن فعل التبرير نفسه صار عندهم غير مجدِ الآن وببلوغ هذه النتيجة سيهتمّ الكلّ بالتدرب على وسائل السيطرة والتعبئة وكيفية استثمارها سريعاً داخل القنوات الحزبية والمنتخبة، عوض الالتفات إلى وعود الثورة الإصلاحية، كما ظهرت بوادرها الاحتجاجية في مطلع سنة 2011.



ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/-jamal-agadiri-/story_b_17980972.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات