الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

الإرهاصات الفكرية والعسكرية لتنظيم الدولة الإسلامية

الإرهاصات الفكرية والعسكرية لتنظيم الدولة الإسلامية

لم يكن ما حدث ليلة السادس من يونيو/حزيران عام 2014 شيئاً مفاجئاً لدى قلة من المراقبين، ففي هذا اليوم سقط البنك المركزي العراقي ونصف مليار دولار وسد الموصل وتقريباً ثلث عتاد الجيش العراقي وثاني أكبر مدينة في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق، أو ما اصطلح على تسميته "تنظيم داعش".

لم يكن حدث بمثل هذه الضخامة ابن تلك الليلة، ولا حتى وليد أحداث الأنبار وصلاح الدين وتكريت قبل أشهر قليلة، بل علينا أن نرجع كثيراً زمنياً حتى نحدد كيف ومتى وُلد تنظيم داعش.

نبدأ مع "أحمد فضيل نزال الخلايلة" الأردني ذي السجل الإجرامي والكاره للتعليم وما صاحبه من الهروب المتكرر من المدارس، فهذا الرجل الذي بدأ يقتنع شيئاً فشيئاً بجدوى السلفية الجهادية قد سافر إلى أفغانستان قبيل نهاية 1990، حينما كانت الحرب تضع أوزارها، فما لبث أن عاد إلى الأردن ثم صدر في حقه حكم قضائي حضورياً بست سنوات، بعدما عثر في منزله على أسلحة ومتفجرات.

وبعد أن صدر أمر بالعفو الملكي عنه عام 1999 -بمناسبة تولّي الملك عبد الله الثاني بن الحسين الحكم بُعيد وفاة والده- قام بالسفر مرة أخرى لأفغانستان.

هنا يجب أن ندرك أن التوجهات الفكرية للشاب أحمد الخلايلة أو من ستتم تسميته لاحقًا بـ(أبو مصعب الزرقاوي) كانت شاذة بعض الشيء عن توجهات تنظيم القاعدة، فمن عدم مهاجمة الأسواق وعدم تفجير الحسينيات وخلق أشكال من التكافل الاجتماعي وزرع أفكار الارتباط المصيري بهدف توفير الحواضن الشعبية، مروراً بعدم الدخول في حروب حصرية مع الأنظمة الحاكمة للبلاد الإسلامية، انتهاء بمهاجمة المصالح الأميركية على الأراضي الإسلامية، وسط كل هذا لم يستسغ الزرقاوي تلك العقائد الفكرية، فكان في صدام تنظيري دائم مع أقطاب القاعدة الفكرية، هذا كله لم يترك خياراً لابن لادن إلا تسريب إحداثيات موقع الزرقاوي لقوات الاحتلال الأميركية في أفغانستان في شتاء عام 2001.

حقيقة لم يكن بن لادن بتلك الندالة فلقد أخبر الزرقاوي مسبقاً بالغارة، نرى هنا أن زعيم تنظيم القاعدة لم يكن يعتبر الزرقاوي مارقاً فكرياً حتى الآن، هو فقط رأى فيه خطراً شديداً على الأيديولوجيات السائدة داخل التنظيم فأراد إبعاده عن البلاد قدر المستطاع مع التهديد بوجود خطر حقيقي عليه، مما أفضى إلى هروب الزرقاوي للعراق وتأسيسه هناك لتحالفات فكرية مع ثلة من أكراد الشمال العراقي فيما يعرف بـ"تنظيم أنصار الإسلام"، وذلك تزامناً مع عملية الغزو الأميركي للعراق.

وعندما ظهر أبو مصعب للعالم -كان هذا من خلال تسجيل مصور شهير يرتدي فيه السواد مدججاً بالسلاح- كان ذلك بمثابة إعلان الميلاد الرسمي لتنظيم "التوحيد والجهاد"، وما تبع ذلك من استباحة الدماء الشيعية في الحسينيات والشعبية في الأسواق والحكومية في دور السلطة ومنشآت الحكومة، ضارباً بالفكر القاعدي عرض الحائط، مؤسساً فكراً جديداً قائماً على استعداء الجميع وإشاعة الرعب مغلفاً بفكر عسكري شديد الذكاء يبطن العمليات النوعية الفردية، ويظهر الخسائر التي لا تشرق إلا في وجود تنظيم عسكري محترف قائم على تنفيذها.

هنا لم يكن أمام تنظيم القاعدة ومنظّريه إلا أن يتخلصوا من هذا الشيطان الحربي ذي الفكر بالغ التشدد القابل لأن يسحب البساط من تحت أقدام الراعي الرسمي للحروب باسم المظلومية التاريخية في العالم الإسلامي، فللمرة الثانية خلال أقل من عشر سنوات تم تسريب موقع الزرقاوي للمخابرات الأميركية مع اختلاف بسيط: لم يتم تحذيره مسبقاً.

سقط الزرقاوي قتيلاً في بعقوبة في السابع من يونيو/حزيران عام 2006 إثر غارة أميركية وسط روايات تفيد بمقتله داخل سيارة إسعاف -نقل إليها وهو في وضع صحي بالغ السوء- على أيدي أفراد القوات الخاصة الأميركية، سقط الزرقاوي مخلفاً وراءه فلول جيش جهادي شديد الحرفية بالغ المهارة ثابتاً كالطود عقائدياً، ولكن قلة عدد المقاتلين كانت أكبر نقاط الضعف.

إنه عام 2003 حيث قامت القوة العسكرية الأميركية باحتلال العراق في 180 ألف جندي، لم يقاوم الجيش العراقي كثيراً اللهم "أم القصر" الذي شهدت معركة ملتهبة نسبياً انتهت سريعاً بالنصر المبين للأميركان.

"بول بريمر" الحاكم العسكري الأميركي للعراق يتخذ قراراً مفاجئاً بحل الجيش العراقي بهدف اجتثاث البعث من المجتمع العسكري الجديد، هل يدري أحد ما كارثية مثل هذه القرارات؟ رجل بالجندية منذ أكثر من 20 عاماً تأتي إليه لتقول: (شكراً على لا شيء، لا نحتاجك هنا، ابحث عن فرصة عمل أخرى حقيقية)، قرارات لا تؤخذ إلا من قِبَل المحدودين فكرياً أو الطامعين في إحداث شيء ما خطير مستقبلياً.

إليك -عزيزي القارئ- بعض النقاط التي تساعدك في استخلاص شيء ما وسط هذا الغبار الدامي لفترة ما بعد سقوط بغداد:
• كان الجيش العراقي رابع أقوى قوة عسكرية على سطح الكوكب قُبيل حرب الخليج الأولى.
• قام الجيش العراقي بما يدعى "الحملة الإيمانية" عقب هزيمة حرب الخليج الثانية، وهي حملة فسرها اسمها فلم يبقَ لي شيء لإيضاحه.
• بالفعل قام الجيش العراقي بتفكيك أسلحة متقدمة ليستعملها كقطع غيار لأسلحة أخرى أثناء سنوات الحصار الطويلة.
• لم يكن النظام البعثي القُطري في بغداد يلعب النرد طوال مدة حكمه للعراق، ففي الجبهة الداخلية قام النظام بإنشاء المثلث السني فيما بين صلاح الدين وبعقوبة والفلوجة والعمل على بناء شبكة أنفاق لن نبالغ إن قلنا إنها مدن كاملة تحت الأرض شبه محصنة ضد الهجمات النووية.

كان التعداد الرسمي للجيش العراقي قبيل الغزو بأيام 400 ألف جندي، فلنفترض جدلاً أنه تم قتل 100 ألف جندي عراقي من قِبَل الأميركان في معارك لم تحدث! ماذا يتبقى لنا؟ بالضبط، 300 ألف جندي كانوا في يوم يشكلون قوة عسكرية عظمى في العالم، كلهم تم تسريحهم ليصبحوا فعلياً عاطلين عن العمل في معضلة عقلية يصعب على أشد العقول اتقاداً فهم دوافعها.

لم يبحث فلول الجيش العراقي المسرّح من الخدمة طويلاً قبل أن يجد الحاضنة الشعبية خاصته في الفلوجة، في هذا الوقت كان الاتفاق بين وجهاء المدينة الصغيرة وجيش الاحتلال على أن يسيطر الأخير على أطراف المدينة عسكرياً فقط مع الاعتراف الضمني بالسيطرة الأميركية على قلب المدينة اسمياً فقط.
لم يدُم هذا الاتفاق طويلاً كعادة الإدارات الأميركية أثناء الاتفاقات التي تنصف طرفي المساومة معاً، فلقد دخلت قوات الاحتلال حتى سيطرت على قلب المدينة فخرج أهالي البلدة في مظاهرات تندد بهذا الخرق لشروط الاتفاق في يوم 28 أبريل/نيسان عام 2004 ليرتقي 17 شهيداً عراقياً، أعقب ذلك بيومين مظاهرة بعثية القوام -لا يخفى على أحد منظموها- ليرتقي ثلاثة آخرون على يد طلقات الاحتلال.

دقت طبول الحرب لدى الاحتلال الذي أراد أن يفرض سيطرته عسكرياً على كامل المدينة؛ لتقوم أكبر معركة من فصلين في الألفية الثالثة تلقت أميركا في شطرها الأول هزيمة عسكرية أفقدتها مفاصل أبواب حكمتها؛ لتنهي الشطر الثاني من المعركة بوحشية إرهابية رهيبة، ففي معركة الفلوجة الأولى تكبدت قوات الاحتلال خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات بكمائن محكمة وخطط كر وفر شديدة الاحترافية لا ينفذها إلا عسكري قح بلغ من إحكامها أن فشلت أميركا أقوى قوة عسكرية ظهرت في تاريخ الكوكب في أن تحتل مدينة صغيرة في العراق، ربما أصغر حرفياً من مزرعة لحوم متوسطة المساحة في الجنوب الأميركي، هل يدق هذا أمامكم جرساً؟! بالفعل، لقد نجحت بقايا فلول الجيش البعثي في السيطرة على زمام الأمور في تلك المدينة وحانت لهم لحظة الانغماس في حرب لم تأتِهم الفرصة لخوض غمارها سابقاً، ففي معركة الفلوجة الأولى يتضح لنا أن تسمية الجيش العراقي برابع أقوى جيش منذ أربعة عشر عاماً لم تكن عبثية أو بلا منطق، فلقد تكبدت القوة المهاجمة للفلوجة خسائر جسيمة في هذه المعركة بفضل الخبرة الحربية التي تمتع بها المقاومون لها حالياً الجنود النظاميون العراقيون سابقاً.

في هذه اللحظة وصلت بقايا فلول تنظيم التوحيد والجهاد للفلوجة -الذي سيتخذ لنفسه اسم الدولة الإسلامية في العراق لاحقاً- محمّلاً بكراهية للجميع بمن فيهم حلفاؤء السابقون عقب تعذيب الأهالي في سجن أبو غريب المرعب بعد رفضهم أن يغادروا مدينتهم (حاضنة شعبية جاهزة)؛ لينضم إلى بقايا فلول الجيش البعثي الذي أدى صموده الأسطوري لعدم انتصار أميركا في هذه المعركة حتى الآن، مكوناً جيشاً عسكرياً نظامياً بخلفية جهادية في سريالية حديثة لم يكن سلفادور دالي ليحلم بربعها!

كما جزمنا بمظاهر الحرب الجهادية أثناء المعركة من حفر خنادق وبيعات سلطوية وانعدام عنصر الخيانة من أجل المال، يجب أن نؤكد أن الجيش العراقي كان حاضراً بقوة في التكتيكات العسكرية، فصب السكر على الشماغ اتقاء لشر هجمات الغازات السامة لم تكن تقنية معروفة لزمرة من السلفيين الجهاديين أو المدنيين المقاومين، بل إننا نستطيع تتبّع أصل هذا التكتيك على خلفية تنامي القوة الكيماوية للجيش العراقي، فحلابجة أفضل شاهد لنا على صحة تلك الفرضية.

سرعان ما اتحد الفريقان، وأيضاً سرعان ما بدأ الفكر الجهادي يظهر في المجهود الحربي أثناء معركة الفلوجة الثانية -في الفترة الممتدة من 7/11/2004 إلى 23/12/2004- من خلال حفر خنادق حول المدينة مما أدى لتعاظم صعوبة سقوط المدينة، الأمر الذي أفضى بأميركا إلى أن تضاعف عدد قواتها إلى سبعة أضعاف أي 15 ألف جندي مقابل خمسة آلاف مقاتل عراقي ما بين بعثي عسكري وسلفي جهادي ومدني مقاوم.

يمكننا القول إن ميلاد تنظيم الدولة بدأ أثناء هذه المعركة وسنحتفظ بوجوه مستقيمة، فأكثر من ثلاثين يوماً من القتال المستمر ليل نهار صنع روابط ترابط بين المقاتلين المدافعين عن المدينة على اختلاف توجهاتهم الفكرية والأيديولوجية، لقد أصبحوا إخوة في السلاح شركاء في القضية في ظروف فريدة من نوعها فرضت على الجميع من عسكري وسلفي ومدني حتمية الإيمان بوحدة المصير وكراهية جميع مَن خذلوهم ووجودية المقاومة.

يجب هنا أن ندرك أن الجيش البعثي لم يكون من خريجي السوربون، فمنهم ذوو الهوى السلطوي، ومنهم مَن شارك في جريمة حلابجة غير الإنسانية، ومنهم مَن كان مستقيماً فكرياً وهم كثر، وعلى الطرف الآخر من المعادلة نجد أن التنظيم الوليد لم يكن أعضاؤه ممن يقدرون العلم حقَّ قدره أو مَن كان طاهر الذيل معتدل السلوك قبل انضمامه، بل إن مؤسسه الحقيقي للتنظيم (أبو مصعب الزرقاوي) كان دائم الهروب من المدرسة أثناء مراهقته، لعلنا نجد في هذا تفسيراً لوجود مختلين عقلياً منحرفين سلوكياً كأعضاء في داعش يظهر عليهم الخبل النفسي والوسواس القهري، في عدد غير قليل من تسجيلاتهم المصورة اليوم.

بعد الحرب الثانية على الفلوجة قُتل مَن قُتل وفر مَن فر ليكونوا بداية تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ولكن مع تغير كبير في بوصلة العقيدة، فبعد أن كان العدو هو الاحتلال أصبح ما يطلق عليه الصحوات هم الأعداء، ذلك إدراكاً من التنظيم الجهادي لطبيعة الفكر السائد في القرن الحادي والعشرين القاطع بعبثية الاحتلال العسكري، ربما لم يكن ليحدث مثل هذا الانحراف إلا بتغيير المنظّرين الحقيقيين للتنظيم، هذه أشياء لا تحدث بين أصاغر الأعضاء، بل تحدث في قمة الهرم السلطوي لمنظومة ما.

وهنا نرى أن ما حدث في الشيشان من (الشيشنة) تم استنساخه حرفياً في العراق ليصبح أمر (العرقنة) هو المسكن الدائم للإدارة الأميركية أمام صداع المقاومة، هذه تغيرات لم نرَها في أفغانستان التي لم يحارب فيها عسكري واحد، بل رأيناها في الشيشان التي كان الطرف الغالب في المعارك هم العسكريين النظاميين السابقين.

إن استخدام داعش للشبكات السفلية لمدينة الأنبار بمهارة فائقة ساهم في سقوط المدينة قبل عامين، والتكتيكات المستخدمة لتضليل الرصد الجوي من حرق إطارات لحجب الرؤية مع تبريد الأجسام لتقليل فرص الرصد الحراري كانت تقنيات معروفة للجيش العراقي البعثي والجيش الصربي، بجانب الوعي الجمعي لهذا التنظيم الذي كان يسير المواكب العسكرية ويروج للاستعراضات بالمركبات، ويتحرك في أرتال وكتائب مشاة ميكانيكية لا ينبئنا بأي شكل بقحة التنظيم الجهادية، فهذه السمات هي سمات الجيوش النظامية ومظاهر الاحتفال الوحيدة في أي عقل عسكري حديث.

كما أن بناء المدارس والجامعات وتوفير فرص العمل وحرفية وسائل الإعلام وتمهيد الطرق وتوفير الإعانات الاجتماعية ليست سمات التنظيمات الجهادية ذات الرؤى المحدودة، بل كل ذلك من سلوك أعباء المستعمر الكلاسيكي ذي الفكر العسكري النظامي، هناك حقيقة أخرى لا أعلم شخصياً لماذا يتغاضى المحللون عنها ولا يقوم أحد بذكرها، وهي أن التنظيم منذ استيلائه على الموصل وحتى خروجه من الأنبار لم يحدث لقوة تابعة له أن تم تطويقها، حتى إن خط سير التقدم العسكري توقف قبيل بغداد عام 2014 ولا يمكن أن يكون التوقف هذا إلا لتأمين نقاط اتصال مع القيادة برياً، ولتأكيد سلامة خطوط الإمداد والنقل المتشعبة من سوريا حتى العراق.

حقيقة لا يمكن لأي عاقل يبحث بموضوعية ألا يجزم بولادة التنظيم على أيدي الزرقاوي، وألا يؤكد أن هذا التنظيم عسكري بالأساس قائم على كل أسس وقوائم الجيوش الحديثة التي كان لسيطرتها على السلطة تبعات مزلزلة على شعوبها لعقود وعقود من الزمن.





ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/eslam-mohammed-elsherif/-_13327_b_17976732.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات