الاثنين، 2 أكتوبر 2017

أنا والمجذوب

أنا والمجذوب

اعتدتُ منذ سنواتٍ طوال على زيارة ضريح سيدنا ومولانا الإمام الحسين بالحي العتيق فى قلب قاهرة المعز، وقد اعتدتُ أن أذهب إلى المسجد بين صلاتَي المغرب والعشاء، ولا أبدأ فى زيارة الضريح إلا بعد الانتهاء من صلاة العشاء حتى يقلّ الزحام.

وفى ذاتِ ليلة منذ ثلاث سنوات توجهت إلى المسجد، صليت العشاء هناك ولما انتهيت من ختم الصلاة توجهت إلى الضريح، وكان الضريح مكتظاً بالزوار والمُريدين من أحباب سيدنا الحُسين فارتطم كتفي بكتف أحدهم ممن يُقال عليهم الدراويش، كان مُتشحا بالملابس الخضراء، مُمسكا بعصا طويلة وتحاط بعنقه عشرات السبح، وكان خارجاً من الضريح، فتبسمت لهُ ابتسامة خفيفة مُعتذراً ثم دلفت إلى الداخل، فتبعني ودخل ورائي وسار بمُحاذاتي، فحسِبتـَهُ يُريد شيئاً من المال، فهممتُ بدس يدي في جيبي لأُخرج له بعض النقود صدقةً له، ولكنني فوجئت به يضمني بيدهِ اليمنى إلى صدره وقال لي: "ستشقى بفراقهما، فلا تجزع واصبر" ثم تركني وانصرف.

قالها بصيغة التثنية، حتى إنني سألت نفسي من هما الاثنان اللذان سأشقى بعدهما! لم أعبأ بقوله كثيراً ولم أُطِل التفكيرَ فيه، فمنظره الخارجي يوحي بأنهُ أحد المجاذيب ممن لا يؤخذ بقولهم ولا يعاتب على فعلهم. أكملتُ زيارتي للضريح وألقيت على صاحبهِ السلام ودعوت الله بما فتح عليّ ثم انصرفت.

ويشاء الله أن تتحقق نبوءة صاحبنا فبعد هذه الواقعة وفي الشهر ذاته نأت عني [ليلى] واختارت الفراق، ونسيت ما كان بيننا من أشواق، ولم تراعِ وعود الحب ولم يردها عن هجرها وفراقها أنين الأشواق، ثم أعقبها ببضعة أيام وفاة أمي، توالت الطعنات معاً؛ ليتجرع قلبي من الأحزان قسوتها، فرأيت من الدنيا إدبارها بعد إقبالها، وتوالت عليّ حسراتها، وتجرعت من أحزانها، فكنت أقول في نفسي: ماذا لو أمهلني الله بأحدهما ليواسيني ويؤنسني عن فراق الآخر؟!

مرّت على تلك الواقعة أيام كثيرة وتوالت عليها ثلاث سنوات حتى إني نسيتها تماماً إلى أن جاء ما يُذكرني بها، فمنذ يومين كنت في زيارتي المعتادة لسيدنا الحسين وكنت أجلس في وسط المسجد فرميت ببصري نحو باب الضريح فوجدت صاحبنا يقف على بابه، في تذكرته وتذكرت نبوءتهُ التي رماني بها منذ ثلاث سنوات، فبالرغم من أن نبوءتهِ قد تحققت إلا أنه لم يمرّ بفكري ولم يخطر على رأسي ذلك الموقف طوال هذه السنوات!

فهممت أن أذهب لأُسلمَ عليه، ولكنني اخترت أن أتجاهل ذلك علّهُ يَرميني بنبوءةٍ أُخرى تؤرقُ فكري وتتعبُ نفسي، ففي خفاءِ الأقدار رحمة، ولكن رؤيته وتحقق نبوءتهِ أشعلت في صدري ذكرى غياب الحبيب، فلم أدرِ إلا والدموع تتساقط من عيني حزناً على فراق أمي وكمداً من غدر ليلى وعدم وفائها، فأعظمُ أوجاع القلوب غيابُ الحبيبِ عن المحبوب. فركنت ظهري على عمود وجلست على الأرض ورأيت وجهي في وسط ركبتيىّ حتى أُخفي عن أعين الناس دمعي، وظللت على هذا الوضع حتى تحسست بيدٍ تربت على كتفى، فالتفتّ، فوجدتُ صاحبنا ينظر إلي بنظراتٍ حادة، وجدتهُ ينظر إليّ وقسمات وجهه غليظة وقال لي ألم أقُل لك (اصبر)، ثم بسطَ وجهه ورسم عليه بسمة خفيفة ونظر لي بحنو ثم رفع حاجبيه وقال:

(إنما يوفى الصابرون أجرهم) وتركني وانصرف، لم أستطع حينها أن أكتم بكائي، أجهشت في البكاء حتى سمع هنهنات بكائي ورأى تساقط دموعي كلّ من حولي، هنا فقط وقفت مُنتصباً فى وسط المسجد ورفعت رأسي للسماء وصرخت بأعلى صوت (يا الله) حتى سمعت صدى صوت يهز كل ركن من أركان المسجد، صحتك هؤلاء المجاذيب الذين كانوا يَصحيون بذكر الله بصوت عالٍ في وسط الأضرحة والمساجد، فعلت مثلهم وأنا الذي كنت ألوم عليهم فعلهم، لم أكن أدري أن هؤلاء القوم تمزقت نفوسهم وتكالبت الأحزان على صدورهم وتوالت الحسرات والنكبات على قلوبهم، فلما عجزت نفوسهم عن تحمل ما لا طاقة لها به صرخوا بلفظه تعالى (يا الله) يستنجدون به ويلوذون إليه أملاً في أن يُخفف عنهم أوجاعهم ويرحم نفوسهم ويُنزل السكنات على صدورهم.. (يا الله).





ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/ayman-ali-dawoud/story_b_18096318.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات