الاثنين، 2 أكتوبر 2017

فلاح القرآن

فلاح القرآن

عندما أقابل في اللغة كلمة "دهقان" وهي كلمة فارسية تسربت إلى العربية، بمعنى فلاح، تشير إلى سعة العلم بالمجال، فمثلاً نقول: فلان من دهاقنة الحرب، أي: من أبرع الناس فيها.

أتذكر موقفاً جميلاً من فخر ما ترك لي جدي رحمة الله عليه؛ إذ كنت أشتري مستلزمات مدرسية من إحدى مكتبات قريتنا وسألني البائع عن اسمي واسم والدي، فلما قلت له مَن أكون فهلل مرحباً، وقال لأحد زبائنه: أتعرف إن جدها هذا "فلاح" قرآن.

وقتها، كان الموقف بالنسبة لي عادياً؛ إذ ربط البائع كون جدي فلاحاً يحرث ويزرع ويقلع، بكونه إماماً لأحد المساجد ومحفظاً وأستاذاً في أحد معاهد القراءات.

إلا أنني لما رأيت لفظة دهقان، وتذكرت الموقف، راجعت شريط حياة جدي وعلاقته بالقرآن.

نعم لقد كان فلّاح قرآن، يغوص في المعاني والتراكيب اللغوية وتباين القراءات وتاريخها ويستنبط الخواطر مستعرضاً الواقع على القرآن تارة، ومستنبعاً إياها من مشاعره الفياضة بها عيناه تارات أخرى، فكان هذا حرثه بالقرآن.

لم يترك خطاً ولا حرفاً إلا أعاده على نفسه مراراً باختلاف ما أوتي من أوجه، كما يقلّب المحراث أوجه الأرض فيخرج ما خفي ويهذب وينظم ويصف الصفوف.

هكذا تفعل حين تعرض القرآن على نفسك، فيقلب لك دواخلها ويسطر لك شعثها وينظم لك الدنيا صفوفاً فتزرع فيها ما شئتَ.

أما جدي فأظنه اختار أن يزرع في صفوف نفسه، التجرد، نعم فكان هكذا تجده، فلاحاً متجرداً للأرض، زوجاً متجرداً للولاء، قرآنياً متجرداً للقرآن، يخشى أن يتحول في حياته إلى السبب الأول في المهنة وكسب العيش وإن لم يمانع في ذلك، حتى يحفظ نفسه في مأمن من عواصف الفتنة والسعي خلف الرزق من خلال القرآن، وأن يصبح القرآن وسيلة لا غاية في حد ذاته.

ولعل الوجه الآخر من أوجه الشبه بين الفلاحة وعلاقة جدي بالقرآن هو الأهم، أنه كان يبذل في كليهما كل ما أوتي من قوة، لم أتذكر أبداً فيض قوة جدي ليعبث فيما لا ينفع، وأما العبث معنا كجد، كان اقتطاعاً نعده ونذكر مشاعره واحداً واحداً، لم يكثر لدرجة أن نألفه فننساه.

وهكذا كان مع نفسه أيضاً، لم يكن ليستطيع النوم إلا إذا سقط مغشياً، يستيقظ باكراً قبل البكور، ويمضي فارساً على حماره يقارع الأرض والزرع والتحفيظ والتعليم ومعاملة الناس، ثم يغدو إلى بيته ليسهره القرآن حتى إنه كان يحتمّ من السهر ولا يغلبه النعس في بعض الأوقات لشدة تعلقه بالقرآن.

فإذا فرغ من الحفظ والمراجعة، تبين كتب التفسير أو القراءات أو الخواطر التي لم يكثر من قراءتها على قدر ما أكثر من استنباطها بقلبه الحي، والتي تكشفت عنها أوراقه الصفراء التي تفوح بمزيج من فرمونات جسده التي شكلت لدي مزاجاً خاصاً ومقياساً لشدة احتواء العناق، وطين أرضه الذي ملأ مسام جسده، والفل، عطره الذي لازم أدراج مكتبه، والذي ورثته عنه بعد مماته.

وكما الفلاح ينظر إلى بهجة زرعه النضر المخضر فيرتوي قلبه وينسى ألمه، كان جدي أيضاً ينظر إلى قدر القرآن بيننا بحثاً عن بهجة قلبه وريه، التي لا أظن أننا أشبعناه منه ولو قدراً يسيراً، سامحنا الله.

فكان إذا أحسنت القراءة فاضت عيناه، لكنه استطاع أن يتابع النظر، حتى إذا بلغت الخشوع وبكيت ابتسم بعينيه الدامعتين، حتى إذا بلغت الوجل لآية قرأتها أو موعظة تأثرت بها فاض منتحباً، راجياً داعياً في وقار لم يفارقه قط.

ولعله ترك فينا بعد مماته شجيرات، أدعو الله أن تكون شجيرات زيتون تثمر البركة وإن طال ريها، وأسألكم أن تتذكرونا جميعاً بالدعاء ألا نهمل تلك الشجيرات.




ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/israa-mahmoud-abdullatif/-_13469_b_18094102.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات