السبت، 4 نوفمبر 2017

تأملات في غزوة بدر الكبرى

تأملات في غزوة بدر الكبرى

ليس الهدف من هذا المقال سرد أحداث غزوة بدر الكبرى، التي لا يكاد يجهلها مسلم، لكن لكل غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم رسائل خاصة لأمته، ومنهج يسيرون عليه، إذا كانوا في ظروف معينة، وبقدر التعمق في دراسة كل غزوة من ناحية الأحداث والوقائع والظروف التي وقعت فيها، يستطيع الباحث أن يستنبط هذه الرسائل.

لذلك نسلط الضوء هنا على غزوة بدر الكبرى، ما يميزها عن غيرها من الغزوات، والدروس والرسائل الهامة المستنبطة منها.

وإن هذه الغزوة تتلخص في كلمة واحدة، هي الحق، أو الفرقان؛ لذلك سُمّيَ يوم بدر بيوم الفرقان أيضاً.

لغزوة بدر عدة نقاط لا تشترك فيها مع أي غزوة أخرى هي:


- أن المسلمين لم يخرجوا للغزو، بل لاعتراض قافلة تجارية فحسب، فكل الغزوات الأخرى كان الاستعداد النفسي والعسكري للمواجهة من قبل تحرك الجيش، إلا في بدر فقد تقرر الأمر في وسط الصحراء!

(وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ .. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)

- الكثير من الصحابة كانوا من الضعفاء والمساكين ومن العبيد والموالي، هؤلاء لم يكونوا مصارعين أو فرساناً أو محاربين، لا يحسنوا حمل السلاح ناهيك عن القتال به، كأمثال بلال وعمار وابن مسعود رضي الله عنهم.

- من تجمع من المسلمين في بدر هم جُلّ المسلمين، فإن هلكوا انتهى الإسلام يومئذ، وهذا ما كان يذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه.

(يَا رَبِّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكَ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الأَرْضِ أَبَداً)

- الغزوة الوحيدة التي قيل عنها: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وكان يطلق على الصحابي (بدريّ) نسبة لغزوة بدر، أي أنه شهد يوم بدر، ولا يزال هذا التصنيف يمدح به الصحابي إلى يوم القيامة، فقط لأنه شهد بدراً.

- إنها الغزوة الوحيدة التي ذكرت في أكثر من موضع في القرآن، وذُكرت بالتفصيل تعظيماً لشأنها عند الله عز وجل.

(إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)

- النقطة الأصعب على الإطلاق هي أن الخصم فيها هم الأهل وذوو القربى، الأب والأخ والعم والخال، ولو لم يقاتل كل صحابي أهله فعلى الأقل سيقاتلهم أحد إخوته في الإسلام، وهذا سيشق الصف بين المسلمين وسينشر الحقد والكراهية بينهم؛ إذ كيف أرى كل يوم قاتل أخي وابن عمي! وكلا الأمرين شديد على النفس، لكن هذا هو ابتلاء الله لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يعدهم إعداداً كي ينشروا هذا الدين في ربوع الدنيا كلها، يصفيهم وينقيهم ويملأ قلوبهم بالإخلاص لله وحده فقط وليس مع ذلك شأن من شؤون الدنيا.

دروس مستنبطة من هذه الغزوة:

1- لسنا نحن فقط الذين نملك فرض وقت الصراع أو وقت الشدائد بأنفسنا، لكن الله قد يفرضه علينا فيبتلي عباده المؤمنين ويمحص الذين آمنوا ويميز الخبيث من الطيب، ونرى إن كان سيظهر أمثال المقداد (الأسود) بن عمرو وسعد بن معاذ في نصرة الحق في مثل هذا الموضع أم لا، فأروا الله منكم عزماً وانصاعوا لأمره واقبلوا ابتلاءه برضا فإن مع العسر يسراً.. إن مع العسر يسراً.

هذا ما قاله المقداد الأسود لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصرةً وتأييداً (يا رسول الله، امضِ لما أُمرتَ به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى "قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ".. ولكن: اذهب أَنت وربك فقاتلا إِنا معكما مقاتلون؛ فوالذي بعثك بالحق نبياً لو سِرْتَ بنا إِلى بِرك الغمَاد لجالدنا معك من دونه، حتى نبلغه).

وهكذا كان قول سعد بن معاذ في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرة الحق: (يا رسول الله.. آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدواً غداً إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، لعل الله يريك فينا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله).

فانظر قوة كلماتهما وكيف نصر الله بهم الإسلام وكيف أعز الله بهم رسوله صلى الله عليه وسلم، واسلك نفس سبيلهم إن واجهتك شدة وإن لم تكن مستعداً لها.

2- مهما كنت ضعيفاً ولا تمتلك الأسباب المادية للصراع فأنت في الواقع لا تنتصر بقوتك، ولكن تنتصر بإيمانك ويقينك في الله مع الشيء اليسير من الأسباب، فهذا فرعون الأمة يقطع رأسه ابن مسعود الضئيل الضعيف صاحب القدمين الدقيقتين النحيفتين، ولم يقتله مثلاً (وهو زعيم الكفر وقائد المشركين يوم بدر) شخصاً بقوة حمزة أو عمر أو سعد أو علي! وهذه سُنة الله في المتجبرين وما أعظمها قصة النمرود التي سطرت هذه القاعدة تسطيراً.

ولا تنسَ أيضاً أن لله جنود السماوات والأرض.. وقد كان لأهل بدر الكثير منها:

- جند من الملائكة:
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ).
(بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ).

- النعاس:
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ).

- المطر:
(وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ).

- قذف الرعب في قلوب العدو وتثبيت المؤمنين:
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ).

3- إذا كان الإسلام وأهله في بلاء عظيم فإياك أن تظن أو يخطر حتى ببالك أن الله سيضيع عباده، لكن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وإن الباطل زاهق لا محالة وإن طال (وَقُلْ جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِل إِنَّ الْبَاطِل كَانَ زَهُوقًا)، وإن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ).. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.. قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ).. وإن الحق منتصر لا محالة مهما كثر الباطل وأهله وعلا شأنه وزادت قوته، فلا قوة تعدل الحق، إنها قوة الله عز وجل التي لا يدركها الظالمون حين يقولون كمثل قوم عاد: (مَن أشد منا قوة)!

(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ).

4- عندما تنجلي الأزمة وتنكشف الغمة، فهؤلاء الذين صبروا وثبتوا وأروا الله من أنفسهم خيراً سيعزهم الله في الدنيا وسيكرمهم غاية الإكرام في الآخرة، فهؤلاء فقط هم المؤمنون حقاً كما ذكر الله في مطلع سورة الأنفال قبل ذكر هذه الغزوة: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، وهؤلاء هم القليل من الآخرين الذين ساروا على نهج الأولين.

5- في وقت الشدائد والمحن والابتلاءات ستجد الكثير من الأقارب والأصحاب يتخلون عنك، بل ربما يهاجمونك ولن يرحموك، ولن يكفوا عن ذلك (وهم على باطل) وأنت على حق، هم على جهل من أمرهم وأنت على بينة من أمرك، هم تحركهم المصالح الدنيوية البحتة وأنت يحركك حبّك للحق (وحب الحق هو حب الله عز وجل فالحق اسم من أسماء الله الحسنى)، فإن وقعت في أمر مثل هذا فلا تحزن، وإياك أن تتخلى عن الحق كي تنال رضا الأهل والأصحاب، وتذكر أن الإسلام لم يأمر بطاعة أحد من دون الله قط، حتى الوالدين، فطاعتهما ليست مطلقة بل مقيدة بطاعة الله تعالى، وإن الله قد أمر ببرهما فقط ومصاحبتهما بالمعروف، فحتى الصحابة كانوا يخالفون آباءهم وأمهاتهم ويسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم كانوا ينتقون أطيب الكلمات في خطابهم لأهلهم ويدعونهم إلى الحق، ولو وصل الأمر أن يهاجمك أو يؤذيك أحد من أهلك فادفع عن نفسك، فإن أهل بدر دافعوا عن الحق أمام أهلهم، فأنت لن تؤمن حقاً حتى يكون الله ورسوله أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك وليس فقط أحب من مالك وأهلك وراحتك، وتذكروا هذه الآية الكريمة التي لم تترك لأصحاب الأعذار حجة إلا ودحضتها: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

فاحرص أخي الكريم على أن تكون من أنصار الحق، وتسير على نهج الصحابة والسلف الصالح في ذلك لا يثنيك عن ذلك بطش جبار عنيد، ولا طلب دنيا، ولا بحث عن رضا الناس وإن كانوا الأهل أو الرفقاء أو الرؤساء في العمل.

وضع هذه الآية نصب عينيك (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ).. انتهى.



ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/amro-shafik-ibrahim/-_13836_b_18363290.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات