السبت، 4 نوفمبر 2017

جرثومة موت السلطة السياسية

جرثومة موت السلطة السياسية

السلطة السياسية، أي سلطة في العالم، التي تتميز بثقافة ذات طابع شعبوي كلياني، تتبنى العنف والفساد والميوعة والدروشة والإقصاء والمحسوبية والجهوية، تصير ثقافتها مع الوقت مُعدية وتنتقل بسلاسة إلى الحمض النووي لشعوبها، على رأي أنطونيو غرامشي "ثقافة الطبقة المهيمنة على السلطة، وبحكم عوامل عديدة، يمكن أن تكون بمرور الوقت هي الثقافة المتبنّاة من قِبل الطبقات والشرائح الاجتماعية المتضررة من تسيُّد تلك الثقافة".

كما أن السلطة المنكفئة على نفسها، والمقتنعة بما لديها من نخب أو مصادر دخل، لا تجد نفسها مضطرة إلى العمل والإنتاج والإبداع- هي أنظمة فاشلة بامتياز؛ لأنها تسير من دون استيراتيجية عقلانية وواقعية، وتتجاهل حركة التاريخ وتتعارض معها، مما يقودها إلى إهدار الطاقات البشرية والطبيعية وتعميم الفشل في جميع المجالات، متجرِّدة من أي رؤية مستقبلية أو وازع أخلاقي ضابط.

وحين تخفق الدولة التي تسير وفق سلطة تفتقد آليات الحوكمة الراشدة، في تنمية موارد المجتمع وإشباع حاجات طبقاته وشرائحه المختلفة وإرضائها، تلجأ -كما يقول سعد محمد رحيم في كتابه "أنطقة المحرم"- إلى "الاحتماء منه، وذلك بالانكفاء عنه، واستمالة أقلية انتهازية من الأفراد"، غالباً ما يتم انتقاؤهم بعناية من دوائر الجهلة وعديمي الضمير والفاسدين والقاسية قلوبهم، "فتغدق عليهم الأموال وتمنحهم الامتيازات على حساب الأغلبية"، ليكونوا أداتها في قهر وقمع أي نزعة للتغيير؛ ما يقود الجميع نحو شفير هاوية مرعبة، كما حدث مع الكثير من أنظمة الدول العربية التي انفصلت عن شعوبها واحتمت منها بدلاً من الاحتماء بها.

فهذا النوع من السلطة، بمؤسساتها السياسية والإعلامية والدينية والاجتماعية، مخنوق بتراتبية علاقات صارمة مبنيّة وفق معمار هرمي لا يسمح بالنقاش والحوار والرأي المخالف، ولا بتبادل الأفكار وتلاقح الاتجاهات، ولا يؤمن ألبتة بإمكانية النقد وإعمال العقل لكشف الأخطاء وفضح العيوب وتحفيز الإنتاجية وترشيد الحوكمة، المجد للصوت الواحد الشديد اللهجة الذي يسبّح باسم الأصنام -وما أكثرها!- الغلبة فيها لمن يحوز هامش سلطة ولو كان حارس بوابة.

لذلك، غالباً ما يكون التموقع فيها واتخاذ مكانة اجتماعية أو سياسية مرموقة، متوقفين على درجة الولاء وشدة التملق ومسح أحذية من هو فوق في الترتيب الهرمي، وليس شيئاً آخر كالكفاءة والأخلاق مثلاً. لذلك، نجد المنتفعين في مختلف المراكز والمسؤوليات، الذين يسوّقون للوهم ولعبارة "كل شيء على ما يرام"، هم غالباً من التافهين والجهلة والفاسدين، الذين يسعون جاهدين للحفاظ على امتيازاتهم ومصالحهم الشخصية، ولا يهمهم مستقبل أوطانهم ولا مصائر شعوبهم.

إن أي سلطة، أو نظام حكم من هذا الطراز، دأبها كدأب ذلك الضرير الذي يسير دون حادٍ، نحو شفير الهاوية في مسار مستقيم، محكوم عليه -لا محالة- بالوقوع في قعرها الموحش والمظلم، ما لم يتم تصحيح مساره.

المتأمل في حال العالم اليوم، يجد -بلا ريب- أن الدول المبنيَّة على العلم والكفاءة في تولي المسؤوليات وبسط نفوذ العدل والمساواة، تتقوى وتتمدد اقتصادياً وسياسياً. أما المبنيَّة على الجهل والشعبوية والظلم، فتضعف وتتبدد وتخسر سيادتها.

فهذا هو الناموس الذي ازدهرت به حضارات وأفلتت بسببه أخرى، والتاريخ يحفل بالكثير من الأخبار في هذا السياق، ولا حرج في أن نستأنس من عِبر وسير الرجال في حضارتنا التي أزهرت وأثمرت حتى فاض خيرها على الأرض قاطبةً، لا سيما في عصرها الذهبي الذي صنعه الخلفاء العباسيون الممجِّدون للعلم والعلماء، ومنهم خليفة عباسي عظيم، كان حاكماً ربانياً انتصر للعلم والعلماء وأهل الاختصاص، فمدَّت دولته جناحيها كالنسر، وهو الخليفة المنصور الذي توفي مُحرِماً في طريق الحج سنة 158هـ.

وقد اشتهر-رحمه الله- بتولية الرجال الأكفاء المقتدرين، لذلك بلغت دولته الآفاق وعمَّ الرخاء في طولها وعرضها، وكانت له إضافات مهمة زادت من عز العباسيين وتسيُّدهم، والسبب أنه كان حريصاً على إسناد المسؤوليات إلى أهل العلم والكفاءة والقدرة، ولا يتراخى في ذلك أو يتساهل، فقد روى المؤرخون أن "ابنه المهدي طلب إليه أن يعهد ببعض الولايات إلى رجل من الأشياع، ذكر أنه أخلص الخدمة للبيت العباسي، فسأله أبوه المنصور عن الصفات الإدارية التي يتحلَّى بها هذا الرجل، فقال: ليس له من الصفات إلا إخلاصه لبيتنا، فقال المنصور: يا بني، يمكننا أن نقابل إخلاصه لنا بإغداق النعمة عليه من مالنا الخاص، ولا يجوز لنا أن نركبه على أكتاف الرعية".


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/zouaghi-abdelali/-_13883_b_18406610.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات