الاثنين، 6 نوفمبر 2017

يجب إعمال العقل في الخبر.. كيف سنقوم من تخلفنا الحضاري؟

يجب إعمال العقل في الخبر.. كيف سنقوم من تخلفنا الحضاري؟

تحدوني رغبة جامحة في تخيّل وضعية ابن خلدون وهو يدوّن هذه القاعدة الذهبية في مقدمته الشهيرة لكتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر من عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر" في قلعة ابن سلامة قرب مدينة وهران سنة 1377 ميلادية، وهل كان يجول في خلده أن هذا المبدأ سوف يكون صرخة في وادٍ سحيق لا يسمعها أبناء جلدته من العرب والبربر، بل سيطير هذا المبدأ إلى بلاد العجم شمال المتوسط ليستقر في كتاب "تأملات في الفلسفة الأولى" للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت سنة 1641؟

بالطبع لن يكون ابن خلدون سعيداً وهو يعرف أنه جاء بأفكار عظيمة وثورية في تاريخ المعرفة البشرية، ثم انغلق بعده باب المعرفة والتفكير وإعمال العقل في الثقافة العربية الإسلامية، وركن العرب والمسلمون في راحة فكرية ما بعدها راحة.

هل كان ابن خلدون يمزح أو يقوم بتزجية الوقت بعد شعوره بالملل القاتل لعدم وجود الإنترنت والتليفون وهو حبيس قلعة ابن سلامة؟ وهو يقول في مقدمة كتابه: "سألت فيها شابيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها، على ذلك النحو الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة"، هذا كلام ابن خلدون.

المفارقة أن ابن خلدون وهو يؤسس لهذه القاعدة الأبستمولوجية كان يقولها بشكل عادي كأنها من مسلّمات التفكير في تلك المرحلة، بل راح يشكك في رواية المؤرخ الإسلامي حول عدد بني إسرائيل عند الخروج من مصر، دون أن يشعر بخطر أو المصادرة أو والتكفير في حين أن ديكارت وهو يؤسس لقاعدته الأولى في "التشكيك المنهجي" في كتاب "التأملات" كان في غاية الرهبة وصلت به إلى حد طبع الكتاب باسم مستعار.

سياق هذا الكلام، هو التنبيه إلى الحالة المعرفية التي يعيشها الفرد العربي، حيث إن المعلومات والأخبار والأحكام والموافق تنهال على عقول الناس بطريقة تشبه المطر، فأغلبنا يتلقى هذا الأمر دون تمحيص أو تدقيق، بل يتم ترتيب مواقع تكون في غالبها دوغمائية ومتعصبة ومدمرة للمنطق.

هناك يومياً ممارسة لتدمير الأسس المنطقية لبناء العقل الجماعي، ممارسة غيرها جعل الناس الذين يحاولون إعمال عقولهم وتدقيق المعطيات الواردة عليهم، عبارة عن مجانين يبحثون عن عين الإبرة.. فهل يعقل أن تنقل نفس القناة الناقلة للمعلومة خبر موت فلان وفي نفس الوقت خبر التكذيب؟

لقد تحولت العديد من المغالطات إلى يقينيات غير قابلة للتشكيك أو حتى للتمحيص حتى يتبين خيط الصواب من خيط الخطأ فيها، والسبب في رأيي، المقررات الدراسية الرسمية التي صيغت في زمن غوغائية حكومات ما بعد الاستقلال، وفي ظل الأنظمة الحاكمة ذات النزعة الشمولية، وبسبب المسلسلات العربية والأفلام الفاقدة للحد الأدنى من التدقيق العلمي والتاريخي، دون الحديث عن نجوم البرامج التي تنطق عن الهواء ولما يطلبه المشاهدون.

لنأخذ مثالاً من بين مئات الأمثلة، صورة المتصوفة رابعة العدوية التي عرفها الجمهور العربي ليس عبر تصوراتها حول العبادة في الإسلام، بل من خلال فيلم انتشر كالنار في الهشيم، ومن خلال ممثلة تجمع ما بين البراءة والإثارة اسمها "نبيلة عبيد"، قدم الفيلم رابعة على أنها مغنية وغانية وراقصة افتتن بها "فريد شوقي" قبل أن تعرف ربها وتتوب وتتحمل العذاب قرباً من الله؛ لكي تموت فتتحول إلى شابة في العشرينات ثم تحملها الملائكة إلى السماء العليا بينما بقي فريد شوقي يبكي فوق الأرض.

إنه الخبل والحمق بعينه، فليس هناك وثيقة تاريخية تحكي هذه الواقعة، فالسيدة عُرفت بالزهد والحكمة والتصوف، عاشت في البصرة في القرن الثاني الهجري، وقليل من أعمل عقله في تمحيص هذه الرواية التي طغى عليها الخيال السينمائي حتى بنى حقائق في أخيلة الناس ليست إلا خيالاً.

المثال الثاني أسوقه من برنامج شهير مخصص للشؤون الدينية يبث على قناة إخبارية خليجية كبيرة، كان المحدث فيها وهو رجل دين موريتاني شهير يقوم بشرح حديث نبوي مصدره "صحيح البخاري" ورواه أبو هريرة، ونصه: "ولولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر".

كان الشيخ يعيد تكرار عبارة "لولا بنو إسرائيل ما خنز اللحم" وهو متيقن فقط لأن الحديث رواه البخاري، مع أن الحقيقة الموضوعية التي يعيش فيها تقول له إن تحلل اللحم ظاهرة عضوية لا علاقة لها ببني إسرائيل أو بني زعبل، وأن الذي اخترع الثلاجة وقاوم تعفن اللحم لم يكن ضد القوانين الكونية عندما وضع حداً لمشكل تعفن اللحم.

ليس الغرض من المثال السابق التشكيك في الأحاديث النبوية أو قدح الإمام البخاري، فالعاملون بشؤون الحديث النبوي يعرفون اختلافات المحدثين في هذا الأمر، لكن الغاية في التنبيه لخطورة الأحكام الجاهزة التي تنزل على أفهام عقول الناس البسطاء دون قيد ولا شرط.

والمثير أنه في نفس البرنامج وفي نفس الموضوع وعلى نفس الحديث شكّك رجل دين مصري شهير في موضوع خنز اللحم، فمن نصدق؟

لقد فقد الإنسان العربي المعاصر القدرة على المبادرة في الحصول على المعرفة وبات عقله خواء تحتله الأفكار الشاردة والواردة والآراء الفاقدة للتوثيق وتُرهات نجوم التلفزيون والنت وبرامج الحلول لكل المشاكل.

العقل العربي، إن جاز استعارة عبارة المفكر المغربي عابد الجابري، يمر من أزمة عميقة ومأزقية؛ لأن هذا العقل معطل وغائب بغياب المعرفة والثقافة، فليس هناك أمة على وجه الأرض خرجت من التخلف قبل الخروج من الجهل إلا عبر العلم والمعرفة التي هي شهادة بقاء للشعوب والحضارات.

ولتدقيق هذا المعنى، فإن المفكر المصري يوسف زيدان أثار ملاحظة جوهرية في ضرورة وجود الكتاب المرجعي لحماية أي جماعة من الاندثار فتساءل كيف لمجموعة بشرية صغيرة مثل بني إسرائيل أن تستمر في الوجود لمئات السنين، بينما مجموعة ضخمة كالهنود الحمر اندثرت بطريقة درامية؟! وكيف لليهودية أن تبقى ببقاء التوراة بينما ديانات كبيرة مثل الزرادشتية قد اختفت باختفاء كتابهم الافستا؟

الحقيقة الساطعة أمامنا أنه لا بناء للأوطان والإنسان والعقل دون القراءة التي هي وسيلة المعرفة والتعلم، والحقيقة المفزعة أننا من أقل الشعوب قراءة، فالعربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً، بينما يقرأ الأوروبي بمعدّل 200 ساعة سنوياً، العربي يقرأ ربع صفحة في السنة بينما الأميركي 12 كتاباً والبريطاني 7 كتب، وغاية المفارقات أن إنتاج الكتب، أي دليل إنتاج المعرفة في العالم العربي كله يطبع 1650 كتاباً بينما أميركا تطبع أكثر من 200 ألف لوحدها.. دون الحديث عن الترجمة فتلك حكاية أخرى.

فهل نحتاج إلى أدلة أخرى لنتأكد من مرضنا العضال، ولكي نتأكد أننا ندمر كل يوم مضاداتنا الحيوية التي تساعدنا على الصحة والنهوض عندما نحارب العقل والتفكير بدعوة حماية التراث مرة، وبدعوة حماية الدين والمقدس مرة أخرى، وأن هناك مؤامرة "صهيو - أميركية" علينا وغيرها من نظريات المؤامرة التي تضحك وتبكي في نفس الآن، وتجعلنا نقول كما قال أبو الطيب المتنبي منذ ألف سنة:
هل غاية الدين أن تحفوا شواربكم ** يا أمة ضحكت من جهلها الأمم






ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/adelwahad-naqaz-/-_13875_b_18396220.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات