الأربعاء، 27 ديسمبر 2017

إبراهيم أبو ثريا.. فارس بلا أقدام

إبراهيم أبو ثريا.. فارس بلا أقدام

بنبرة صوت مصمّمة واثقة وإرادة صلبة يلين أمامها الحديد ويذعن لها اليأس صاغراً مستلماً معترفاً أن لا قِبَل له بمقارعة صاحبها أو إثنائه عن هدفه، قال "إبراهيم أبو ثريا"، الشاب الفلسطيني الغزاوي ذو الـ29 عاماً: "هذه الأرض لنا ولم ولن نستسلم، أنا هنا لإيصال رسالة للجيش الصهيوني بأننا أصحاب الأرض، لن نستسلم لقرار الرئيس الأميركي وسنواصل الاحتجاج على الحدود"، تشعرك كلماته أن هذا الشاب المبتور الساقين جيش وحده، فارس في زمن ترجل فيه الكثيرون وأصابهم اليأس، ولكن مِن رَحِم المعاناة يولد الصمود، ومن باطن اليأس يخرج الأمل، وكم من مناضل بلا أقدام يستنهض أمة للوقوف على أقدامها والمثابرة والمطالبة بحقوقها والعمل والتجهيز لانتزاعها، فما ضاع حق وراءه مطالب.

فقد "إبراهيم أبو ثريا" ساقَيه قبل نحو عشر سنوات خلال اجتياح الاحتلال الصهيوني لشرق مخيم البريج وسط قطاع غزة في أبريل/نيسان 2008، بحسب ما قال والده، وليس لديه عمل ولم يتزوج بعد إصابته، وكان يعيش مع عائلته في دير البلح وسط القطاع، استهدفه الصهاينة لقيامه بإنزال عَلَم الكيان المحتل ورفع العَلَم الفلسطيني مكانه، كما روى شقيقه.

سبقته ساقاه إلى الجنة وأبدله الله بهما همّة صلبة لا تلين وروحاً ثائرة لا تستكين، فلم يترك فعالية أو مظاهرة دفاعاً عن الأرض وتنديداً بالاحتلال الصهيوني الغاشم إلا وخرج فيها مثابراً صابراً منادياً: "لبيك يا وطني"، وما إن أعلن "ترامب" عن قراره المشؤوم تجاه "القدس"، لم يتوانَ "أبو ثريا" عن الخروج يومياً على خط التماس والمواجهة المباشرة مع المحتل الصهيوني على حدود قطاع غزة، لم تثنِه صعوبة الحركة، لم تقعِده خطورة الوضع وشراسة العدو ووحشيته وانعدام إنسانيته، لم يؤخره بُعد المسافة بين منزله والحدود، ولسان حاله يقول: إن أنا فقدت ساقيّ ولم أستطع الخروج راكضاً أو ماشياً فسأسعى حبواً لنصرة وطني والدفاع عن مقدساته والذود عن بني قومي وجلدتي.

لله درك يا رجل في زمن قلَّ فيه الرجال! أقمتَ الحجة على كل قاعد ومتخاذل، إقدامك رغم إعاقتك وَصَم بالعار كل متراجع ومتنازل، أرسلت للعالم بأسره رسالة احتجاج تلعن صمته ونكرانه لحقوق الشعب الفلسطيني في حريته وإقامة دولته على أرضه ميراث أجداده، صرخاتك الهادرة وروحك الثائرة شقت جدار الصمت وبرهنت على أن الشعب الفلسطيني لا يتراجع أو يتنازل عن أرضه، وشرفه، وعِرضه، قضيته مهما تكالبت عليه الأعداء وأحاطت به المؤامرات وخذله الجبناء وعجز عن نصرته البعض من بني جلدته من العرب، من لم يستطيعوا أن يستقلوا طائراتهم المرفهة لحضور قمة "القدس" في تركيا، والجهر بكلمة حق وهي أضعف الإيمان وفضّلوا البقاء في ركب السيد الأبيض وحليفه الصهيوني، وحسناً فعلوا فنحن في أيام كاشفة، أظهرت النوايا وكشفت الخبايا ولم يعُد هناك مَن يستطيع أن يستمر في استغلال معاناة الشعب الفلسطيني؛ لتنفيذ مآربه والوصول لأهدافه وإرضاء حلفائه.

الكفاح الفلسطيني يقدم لنا الدرس تلو الدرس والأيقونة وراء الأيقونة، بما يشبه أشعة الشمس التي تكسر وتهزم حلكة الظلام وتجبره على التراجع، معلنةً بزوغ فجر يتجدد لشعب مقاوم عنيد كلما ظن العالم أنه قد استكان وهدأ فإذا هو نار تحت الرماد جذوتها مشتعلة، ما إن يحين الوقت حتى يحرق لهيبها كل أوهام المحتل في فرض إرادته وهيمنته، ويحرق معها كل أحلام حلفائه في المنطقة المنبطحين تحت الطاولة، المختبئين في عباءة "ترامب" التي سقطت وأسقطت وبلا رجعة كل الأقنعة وكشفت بصورة قاطعة كل مخططات التآمر لتصفية القضية الفلسطينية في مئوية وعد "بلفور" المشؤوم، قرن من التآمر والخسة والدناءة لمحتل صهيوني غاشم أرادوا ختامه بما يسمى "صفقة القرن"، التي أرعبتها وفضحتها وأسقطتها صرخات "إبراهيم أبو ثريا" بأن هذه أرضنا، وهذا وطننا، وتلك قضيتنا التي نبذل الغالي والنفيس من أجل نصرتها، تلك الصرخات التي يبدو أن المحتل الصهيوني لم يحتملها وأصابته بالهلع والرعب، فأطلق رصاصه الغادر على رأس الشهيد؛ لتصعد روحه إلى بارئها معلنةً عن استمرار انتفاضة شعب الجبارين والمرابطين الذي لا يقهر.

ليتزامن استشهاده مع الذكرى الـ30 لانطلاقة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" التي تأسست على يد الشيخ الشهيد "أحمد ياسين" القعيد على كرسي متحرك، والذي استشهد هو أيضاً بصاروخ صهيوني غادر في مارس/آذار 2004، وكأن القدر يحاول إخبارنا أن هذا الشعب المجاهد الذي تآمر عليه القاصي والداني، القريب والبعيد، لا ولم ولن يثنيه أو يُقعده شيء عن المطالبة بحقوقه ومقاومة عدوه وتحرير أرضه ورافع راية دولته المستقلة على أسوار "القدس" عاصمة فلسطين الأبدية، ومن البحر إلى النهر "فلسطين التاريخية"، وهو وعد حق سنصل إليه وسيتحقق يوماً ما دام بيننا فرسان ورجال مثل الشهيد "إبراهيم أبو ثريا" رحمة الله عليه، فلترقد في سلام أيها البطل المغوار الأشم، فقد قدمت درساً وعظة أن الفرسان والمجاهدين أحياناً يكونون بلا أقدام.


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/gamal-ahmed-ismael/-_14505_b_18909354.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات