استقروا في إحدى الجزر الأسكتلندية البعيدة جداً عن موطنهم، وفي أعياد الميلاد هذا العام (2017)، كان هؤلاء الناس القادمون من الشرق، الموطن الأول للمسيحية، هم من أتوا بالهدايا.
قبل أعياد الميلاد عام 2015، فتحت جزيرة بوت (أرخبيل يقع قبالة الساحل الغربي لأسكتلندا ضمن مجموعة جزر فيرث أوف كلايد) أبوابها بقدرٍ من الارتياب أمام مجموعةٍ نازحة مكوَّنة من 24 عائلة سورية هاربة من التهديد اليومي الذي يتوعدهم بالقتل والاضطهاد.
ويروي كيفن ماكينا، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة "ذا هيرالد"، والمحرر التنفيذي لصحيفة "الديلي ميل" بأسكتلندا، في تقرير نُشر بصحيفة الغارديان البريطانية، كيف بدأت تجربة هؤلاء اللاجئين، قائلاً: "كان الكثير من سكان جزيرة بوت الـ6500 حريصين على الترحيب بأولئك الذين عانوا كل هذا الرعب، لكن في بعض الأماكن، كان الاستقبال بارداً".
يوضح الكاتب أن سبب رد الفعل البارد هذا، كان درجةً من الريبة والاستياء أشعلتها التغطية الإعلامية التي سعت إلى إثارة الخوف من الأسر اللاجئة، وإحداث انقساماتٍ بين السكان.
وقد شعر محرر صحيفة "ذا بوتمان" الأسكتلندية بالانزعاج الشديد؛ بسبب نبرة بعض تعليقات قُرَّاء صحيفته، حتى إنَّه أحس بأنَّ عليه أن يهاجهم مباشرةً في مقالٍ افتتاحي حاد من كتابته.
فكتب كريغ بورلاند في ذلك الوقت: "في الأغلب، هذه طرق شبه واضحة، يحاول الناس أن يقولوا من خلالها (لا نريدهم في وطننا)، لكنَّي في الواقع أريدهم. أريد أن تكون بوت مكاناً يشعر فيه الأشخاص الذين يأتون إلى هنا وهم معدَمون، ولا يملكون سوى الملابس التي يرتدونها، بالأمان وبأنَّهم في موطنهم".
وقد غادر بورلاند مقعد رئيس التحرير، لكنَّه سيكون سعيداً لمعرفة أنَّ الأُمنية التي تمنَّاها في أعياد الميلاد لعام 2015 قد تحققت. فهذه الأسر السورية آمنة الآن بالفعل، ويشعر أفرادها بأنَّهم في موطنهم. ويحفظ هذا المجتمع الصغير وغير الطائفي لهم مكاناً عزيزاً في قلبه، ويَشعر الوافدون السوريون بدورهم بأنَّهم ينتمون إلى هذا المكان، ويتوقون إلى رد ما لاقوه من لطف.
قبل عامين، شكَّلت أنجيلا كالاغان جزءاً من لجنة استقبالٍ في الجزيرة؛ لمساعدة اللاجئين على الاستقرار والشعور بالترحيب.
وتدير أنجيلا "Bute Oasis" (أو واحة بوت)، وهو متجر لبيع الهدايا والأثاث المستعمل تُستخدم إيراداته لتمويل بنكٍ غذائي. قبل عامين، أعربت أنجيلا عن تفاؤلها بأنَّ تجربة العائلات السورية في بوت ستكون تجربةً سعيدة.
وقالت حيئنذٍ: "سيصبح هؤلاء الناس جزءاً من مجتمعنا، ولن ينتظروا وقتاً طويلاً عند وصولهم حتى يتسلموا وجبات الطعام. أعرف ما سيكون عليه الأمر، وأعرف أنَّه لن يكون مختلفاً بالنسبة لهم، وسنساعدهم على الاندماج هنا".
كيف ردوا الجميل؟
وهذا عام 2017، ستُجهِّز أنجيلا أكثر من 100 صندوق غذاء للعائلات المحلية والسورية على حدٍ سواء، وقدَّمت لهم جميعاً بعض الهدايا المناسبة للاحتفال. يقول كاتب التقرير: "في فترة ما بعد الظهيرة من يوم الجمعة 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وجدتُها كما تركتُها منذ عامين: تُنظِّم تسليم الصناديق، فيما يساعدها شابان سوريان، وهما أهمز فارس وبسام ميداني".
تقول أنجيلا: "يشعران بأنَّهما يريدان رد الجميل لمجتمع بوت. فيساعدان على تنظيم الصناديق هنا، وعلى بيع المشتريات في المحل، والسكان المحليون يحبونهما".
أصبح لمساعدَيها السوريَّين الآن رخصتا قيادة حصلا عليهما بعد إجراء الاختبارات اللازمة في إيرلندا، والتي تقدم الجزء النظري من الاختبار باللغة العربية.
تقول أنجيلا: "استقرت جميع العائلات السورية جيداً هنا، وأصبح المجتمع يعتبرها جزءاً منه، وهذا يشمل بعض أولئك الذين كانوا أقل ميلاً إلى الترحيب بهم عندما جاءوا لأول مرة إلى هنا. لدينا الكثير من الأطفال السوريين الصغار الذين يتحدثون اللهجة الأسكتلندية بطلاقة، وصرتُ أتردد الآن على منازلهم لتناول العشاء واحتساء الشاي برفقتهم".
وأضافت: "لا أعني من ذلك أنَّه لم يكن هناك بعض الصعوبات في البداية، فقد لاحظتُ أنَّ 3 من الأطفال كانوا في معاناة شديدة، وكانوا يحملون بداخلهم خوفاً وغضباً، لكن على مدار بضعة أشهر، صار بإمكاني رؤية التوتُّر يزول من أعينهم شيئاً فشيئاً، ومع أنَّهم في البداية كانوا يطلبون منك التراجع إذا اقتربت منهم، أصبح كل ما يريدونه الآن هو أن يعانقوك ببساطة".
وتروي أنجيلا قصة الطفل الذي أصابه خوفٌ هستيري عندما رأى طائرة هليكوبتر تقترب من الجزيرة. ففي سوريا، كان اقتراب أي طائرة هليكوبتر حدثاً مُروِّعاً يجلب معه القنابل، والموت.
وتُعَد قصة مهند حلمي إحدى قصص النجاح في جزيرة بوت، والذي وصل قبل 10 أشهر مع زوجته رغد البرقاوي، وابنهما نعيم البالغ من العمر 4 سنوات، وابنتها قمر البالغة من العمر 18 شهراً فقط. وكان بعض أفراد عائلته الممتدة يعيشون هنا أيضاً.
يقول الكاتب عنهما: "في غضون فترة قصيرة من الزمن، جعل الزوجان منزلهما المتواضع منزلاً دافئاً ومليئاً بالحب. حين أذهب لزيارتهم، أجد قمر تشاهد قناة تلفزيونية عربية للأطفال فيما تلاعبني بيديها. بدأ والداها في التقاط اللغة الإنكليزية، ويقولان لي إنَّ نعيم الآن لا يتحدثها بطلاقة فقط؛ بل وصار يفكر بلغته الجديدة أيضاً".
يقول حلمي: "نحن سعداء جداً هنا. لم يُبدِ أحدٌ لنا سوى الود والمودة منذ يوم مجيئنا. فالجميع يبتسمون في وجوهنا عندما نذهب إلى المحلات التجارية أو نخرج للنزهة، ويلوحون بأيديهم إلينا. وهدفي هو تعلُّم اللغة الإنكليزية بطلاقة ثم العثور على وظيفة".
لا يشعر مهند بأنَّه سيعود إلى سوريا في المستقبل القريب، على الرغم من أنَّه عندما يتحدث عن وطنه، يبدو الألم في عينيه؛ إذ فرَّت العائلة من بلدة داريا، إحدى ضواحي دمشق، بعد أن سيطرت عليها قوات الرئيس بشار الأسد حين كانت تستهدف المتمردين.
ولأنَّ داريا كانت مُحاصَرة، واجه الناس الموت إمَّا بالقصف، وإمَّا جوعاً. يقول حلمي: "كنتُ أعمل في سوريا طبَّاعاً محترفاً، وأريد ممارسة ذلك في أسكتلندا بعد تحسُّن لغتي الإنكليزية بما يكفي".
وأضاف : "أريد أيضاً أن أرد الجميل إلى هذا المجتمع، لقد كان الناس شديدي اللطف معنا، وصرنا نعتبر هذا المجتمع الآن موطننا. وفي أحد الأيام، بإذن الله، قد نعود إلى سوريا، لكنَّنا نعلم أنَّه لن يكون البلد نفسه الذي تركناه. وإذا عدنا، فسنترك جزءاً كبيراً من قلوبنا في أسكتلندا".
كانت زوجته، وهي امرأة واقعة في حب زوجها بوضوح، حسب وصف الكاتب، تتحرك داخل وخارج المطبخ؛ لتجلب لنا القهوة والكعك. وحين تراهما، تشعر بأنَّهما اكتشفا السعادة ودرجةً من الأمن في حياتهما من جديد، وتشعر أيضاً بأنَّ هذه قد تكون المرة الأولى طوال زواجهما التي يلاقيان فيها قدراً من الهدوء والسكينة.
ويبدو أنَّ قدراً كبيراً من سعادتهما ينبع من حقيقة أنَّ طفليهما قد وجدا الآن مكاناً يمكن أن يكونا آمنَين فيه، واكتشفا الفرح البسيط باللعب دون أي خوف.
يقول حلمي: "نشعر بالأمان والرعاية الشديدة هنا. إنَّه مكانٌ جميل لتربية طفلينا، من الرائع أن نراهما سعيدَين وآمنَين".
ولا يتطرق حلمي إلى تفاصيل ظروف هروبهم من دمشق، لكن من الواضح أنَّ كلا الزوجين وطفليهما كانوا في خطرٍ في كل يوم يقضونه هناك. إنَّهما يبتسمان ويضحكان كثيراً، ويقولان لي إنَّ هنالك الآن رابطة غير قابلة للكسر بين هذه الجزيرة الأسكتلندية الهادئة والأمة السورية القديمة.
خطر وعنف
يَسعد مجلس أرغيل وبوت أيضاً بالطريقة التي استقرت بها الأسر السورية في أسكتلندا، لكنَّه سعيدٌ بصورةٍ خاصة بالطريقة التي استقرت بها في قلب المجتمع الأسكتلندي.
وقد حاول فصيلٌ ما إثارة الشكوك وتنظيم رد فعلٍ عنيف بين السكان، لكنَّ الأسكتلنديين ردعوه بإخلاصهم ونواياهم الحسنة. ولا تزال هناك بقايا للمشاعر السلبية، لكنَّ أولئك الذين يحملونها يمثلون أقلية صغيرة جداً من المجتمع. وتعيش أسر اللاجئين في مساكن احتياطية، ولم تتأثر حياة أو حقوق أي منهم سلباً بأي طريقة.
كانت لحظة الخطر الوحيدة عندما أصدرت بعض وسائل الإعلام اسم المشتبه فيه في تفجير لندن بجانب صورة له على متن عبَّارة بوت. وقد أُطلِق سراحه بسرعة دون توجيه اتهامات إليه، ومع ذلك، تناثرت شكوك طفيفة حول وجود مُهاجِمين تابعين لـ"داعش" مختبئين بين اللاجئين، لكنَّ الضجة هدأت سريعاً.
قال غريم مردوخ، المصور والمصمم الذي عاش في بوت بضع سنوات: "وصلت العائلات السورية إلى بوت منذ وقتٍ ليس ببعيد بعد مجيئي إلى الجزيرة، وكان ما فكرتُ فيه هو أنَّ أحدهم قد يفتتح مطعماً لطيفاً في بلدة روثيساي. وقد التقيتُ العديد منهم في أثناء إقامتي هناك وشعرتُ بكرم أخلاقهم على الرغم من كل ما عانوه، والذي لم يقابله الكثيرون بالمثل في البداية".
وأضاف: "لكن تدريجياً، بدأوا في تكوين الصداقات، وكان أحد الأشخاص الأكثر دعماً هو إيدان كانافان الذي يعمل في بوت برو، وهو مصنع الجعة الصغير المحلي؛ وما يثير السخرية هو أنَّهم لن يتذوقوا أبداً منتجاته؛ لأنَّهم لا يشربون الكحول. أنا سعيدٌ جداً لأنَّ معظم العائلات بقيت هنا. لقد تحسَّن مجتمع الجزيرة الصغير نتيجة لذلك".
وقالت رئيسة المجلس، أيلين مورتون: "حقق برنامج إعادة توطين اللاجئين السوريين نجاحاً كبيراً بالنسبة لكلٍ من بوت والعائلات المعنية، ومن المُشجِّع رؤية الأسر تستقر وتنمو في المجتمع لصالح الجميع".
وأردفت قائلة: "منذ اليوم الأول، كان الهدف من وراء هذا البرنامج هو مساعدة الأسر التي هي في حاجةٍ ماسة إلى بناء حياةٍ آمنة؛ كان الأمر يتعلق بمساعدة الناس الفارين من هول الصدمة على الشعور بالأمان، ويسرني أنَّهم يشعرون الآن بإمكانية الإشارة إلى بوت على أنَّها موطنهم".
وكان للمدرسة الابتدائية والثانوية المشتركة في روثيساي دور شديد الأهمية في عملية الدمج هذه؛ إذ لعبت المدرسة دائماً دوراً حيوياً في هذا المجتمع، فهي المكان الذي سيُتاح فيه للأطفال السوريين ملاقاة القيم التي يسعى المجتمع إلى تعزيزها.
وقال لي أكثر من شخص هنا إنَّ جميع الأطفال يُعتبرون الآن أسكتلنديين، وهم يتحدثون اللغة الإنكليزية بلهجة غرب أسكتلندا السريعة بطلاقةٍ تامة. وأصبح أحد الأولاد السوريين الأكبر سناً قائداً لأحد المباني التابعة للمدرسة، وألقى مؤخراً خطاباً أمام الحرم المدرسي بأكمله.
كيف أنقذوا الجزيرة؟
عمل مُنذر الدرساني حلاقاً لمدة 15 عاماً في دمشق قبل أن يهرب مع عائلته إلى بوت. كان منذر شخصيةً معروفة في المدينة، وكان متجره، "صالون الشرق"، مزدحماً دائماً. وفي وقتٍ سابق من هذا العام (2017)، أُعيد إحياء صالون الشرق من رماد دمشق، ووُلِد مرةً أخرى تحت الاسم نفسه في بوت.
ويبدو أنَّ عمله في روثيساي يزدهر الآن بقدر ما كان مزدهراً بدمشق. وكان حلمه هو أن يُتاح له مزاولة الأعمال التجارية مرةً أخرى في بوت، لكنَّه كان يعلم أنَّ عليه أولاً التمكن من اللغة الإنكليزية.
يقول الدرساني: "بعدما جئتُ إلى هنا، كنتُ أدرس اللغة الإنكليزية لمدة 5 ساعات كل ليلة في بيتي، وبعد مرور 6 أشهر، شعرتُ بأنَّني بدأتُ أتقنها. وكان السكان المحليون متعاونين بشدة، وشعروا بأنَّني حريصٌ على التعلم وكانوا صبورين جداً، وساعدوني عندما كنتُ أنطق بكلماتٍ أو جمل خاطئة".
وأضاف: "أحب المكان هنا. أشعَرَ السكان عائلتي بالترحيب. إنَّه مكانٌ آمن وهذا مهم. وأتطوع أيضاً بمهرجان روثيساي وفي بنك الطعام؛ لأنَّها طريقتي في قول (شكراً) لشعب بوت على مساعدتنا، ولرأفتهم بنا في أحلك الأوقات".
قبل 3 سنوات، نظَّمت بوت اجتماعاً عاماً لاستطلاع الآراء حول كيفية إحياء هذا المكان الذي كان عظيماً فيما مضى، لكنَّه بات يعاني الآن.
فوفقاً لتعداد عام 2011، انخفض عدد سكان الجزيرة بنسبة 10% في العقد الماضي. وكان متنزهها الرائع، الذي وطئت على أرضه سابقاً أقدام الآلاف من ساكني غلاسكو، مصدراً مالياً ساعد على الحفاظ عليه بقية العام.
أما الآن، فإنَّ جميع المتاجر تقريباً الموجودة على طول ساحله فارغة. لكن، بالإضافة إلى "صالون الشرق"، سيُفتتح قريباً مخبز وحلواني سوريان. وربما قد جلب الشعب السوري الهارب من الإرهاب معه معجزة الحياة لبوت.
ويجري تجديدٌ صغير في الجزيرة، وقد وُلِد 4 أطفال جدد للأسر السورية، وهناك طفلٌ آخر في الطريق. إنَّهم يجلبون التفاؤل بطريقتهم الخاصة إلى مجتمعٍ يقع في غرب أسكتلندا، نسي تقريباً ما تعنيه هذه الكلمة.
تعداد اللاجئين
11 مليون شخص، هو عدد اللاجئين السوريين الذين فرّوا من منازلهم منذ اندلاع الحرب الأهلية في مارس/آذار 2011.
وتستضيف تركيا أكبر عدد من اللاجئين السوريين المسجلين، وهو 3.3 مليون، بينما يستضيف لبنان 1.1 مليون، ويستضيف الأردن 660 ألف لاجئ.
وبلغ عدد النازحين داخلياً في سوريا 6.6 مليون.
في حين بلغ عدد اللاجئين السوريين في أوروبا نحو مليون لاجئ. وتجدر الإشارة إلى أنَّ ألمانيا، التي استقبلت أكثر من 300 ألف طلب لجوء، والسويد التي استقبلت 100 ألف، هما كبرى الدول المستقبِلة لطلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبى.
وقد أُعيد توطين 9394 لاجئاً سورياً في بريطانيا، على الرغم من أنَّها تُقدِّم الدعم لعددٍ أكبر من ذلك.
قبل أعياد الميلاد عام 2015، فتحت جزيرة بوت (أرخبيل يقع قبالة الساحل الغربي لأسكتلندا ضمن مجموعة جزر فيرث أوف كلايد) أبوابها بقدرٍ من الارتياب أمام مجموعةٍ نازحة مكوَّنة من 24 عائلة سورية هاربة من التهديد اليومي الذي يتوعدهم بالقتل والاضطهاد.
ويروي كيفن ماكينا، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة "ذا هيرالد"، والمحرر التنفيذي لصحيفة "الديلي ميل" بأسكتلندا، في تقرير نُشر بصحيفة الغارديان البريطانية، كيف بدأت تجربة هؤلاء اللاجئين، قائلاً: "كان الكثير من سكان جزيرة بوت الـ6500 حريصين على الترحيب بأولئك الذين عانوا كل هذا الرعب، لكن في بعض الأماكن، كان الاستقبال بارداً".
يوضح الكاتب أن سبب رد الفعل البارد هذا، كان درجةً من الريبة والاستياء أشعلتها التغطية الإعلامية التي سعت إلى إثارة الخوف من الأسر اللاجئة، وإحداث انقساماتٍ بين السكان.
وقد شعر محرر صحيفة "ذا بوتمان" الأسكتلندية بالانزعاج الشديد؛ بسبب نبرة بعض تعليقات قُرَّاء صحيفته، حتى إنَّه أحس بأنَّ عليه أن يهاجهم مباشرةً في مقالٍ افتتاحي حاد من كتابته.
فكتب كريغ بورلاند في ذلك الوقت: "في الأغلب، هذه طرق شبه واضحة، يحاول الناس أن يقولوا من خلالها (لا نريدهم في وطننا)، لكنَّي في الواقع أريدهم. أريد أن تكون بوت مكاناً يشعر فيه الأشخاص الذين يأتون إلى هنا وهم معدَمون، ولا يملكون سوى الملابس التي يرتدونها، بالأمان وبأنَّهم في موطنهم".
وقد غادر بورلاند مقعد رئيس التحرير، لكنَّه سيكون سعيداً لمعرفة أنَّ الأُمنية التي تمنَّاها في أعياد الميلاد لعام 2015 قد تحققت. فهذه الأسر السورية آمنة الآن بالفعل، ويشعر أفرادها بأنَّهم في موطنهم. ويحفظ هذا المجتمع الصغير وغير الطائفي لهم مكاناً عزيزاً في قلبه، ويَشعر الوافدون السوريون بدورهم بأنَّهم ينتمون إلى هذا المكان، ويتوقون إلى رد ما لاقوه من لطف.
قبل عامين، شكَّلت أنجيلا كالاغان جزءاً من لجنة استقبالٍ في الجزيرة؛ لمساعدة اللاجئين على الاستقرار والشعور بالترحيب.
وتدير أنجيلا "Bute Oasis" (أو واحة بوت)، وهو متجر لبيع الهدايا والأثاث المستعمل تُستخدم إيراداته لتمويل بنكٍ غذائي. قبل عامين، أعربت أنجيلا عن تفاؤلها بأنَّ تجربة العائلات السورية في بوت ستكون تجربةً سعيدة.
وقالت حيئنذٍ: "سيصبح هؤلاء الناس جزءاً من مجتمعنا، ولن ينتظروا وقتاً طويلاً عند وصولهم حتى يتسلموا وجبات الطعام. أعرف ما سيكون عليه الأمر، وأعرف أنَّه لن يكون مختلفاً بالنسبة لهم، وسنساعدهم على الاندماج هنا".
كيف ردوا الجميل؟
وهذا عام 2017، ستُجهِّز أنجيلا أكثر من 100 صندوق غذاء للعائلات المحلية والسورية على حدٍ سواء، وقدَّمت لهم جميعاً بعض الهدايا المناسبة للاحتفال. يقول كاتب التقرير: "في فترة ما بعد الظهيرة من يوم الجمعة 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وجدتُها كما تركتُها منذ عامين: تُنظِّم تسليم الصناديق، فيما يساعدها شابان سوريان، وهما أهمز فارس وبسام ميداني".
تقول أنجيلا: "يشعران بأنَّهما يريدان رد الجميل لمجتمع بوت. فيساعدان على تنظيم الصناديق هنا، وعلى بيع المشتريات في المحل، والسكان المحليون يحبونهما".
أصبح لمساعدَيها السوريَّين الآن رخصتا قيادة حصلا عليهما بعد إجراء الاختبارات اللازمة في إيرلندا، والتي تقدم الجزء النظري من الاختبار باللغة العربية.
تقول أنجيلا: "استقرت جميع العائلات السورية جيداً هنا، وأصبح المجتمع يعتبرها جزءاً منه، وهذا يشمل بعض أولئك الذين كانوا أقل ميلاً إلى الترحيب بهم عندما جاءوا لأول مرة إلى هنا. لدينا الكثير من الأطفال السوريين الصغار الذين يتحدثون اللهجة الأسكتلندية بطلاقة، وصرتُ أتردد الآن على منازلهم لتناول العشاء واحتساء الشاي برفقتهم".
وأضافت: "لا أعني من ذلك أنَّه لم يكن هناك بعض الصعوبات في البداية، فقد لاحظتُ أنَّ 3 من الأطفال كانوا في معاناة شديدة، وكانوا يحملون بداخلهم خوفاً وغضباً، لكن على مدار بضعة أشهر، صار بإمكاني رؤية التوتُّر يزول من أعينهم شيئاً فشيئاً، ومع أنَّهم في البداية كانوا يطلبون منك التراجع إذا اقتربت منهم، أصبح كل ما يريدونه الآن هو أن يعانقوك ببساطة".
وتروي أنجيلا قصة الطفل الذي أصابه خوفٌ هستيري عندما رأى طائرة هليكوبتر تقترب من الجزيرة. ففي سوريا، كان اقتراب أي طائرة هليكوبتر حدثاً مُروِّعاً يجلب معه القنابل، والموت.
وتُعَد قصة مهند حلمي إحدى قصص النجاح في جزيرة بوت، والذي وصل قبل 10 أشهر مع زوجته رغد البرقاوي، وابنهما نعيم البالغ من العمر 4 سنوات، وابنتها قمر البالغة من العمر 18 شهراً فقط. وكان بعض أفراد عائلته الممتدة يعيشون هنا أيضاً.
يقول الكاتب عنهما: "في غضون فترة قصيرة من الزمن، جعل الزوجان منزلهما المتواضع منزلاً دافئاً ومليئاً بالحب. حين أذهب لزيارتهم، أجد قمر تشاهد قناة تلفزيونية عربية للأطفال فيما تلاعبني بيديها. بدأ والداها في التقاط اللغة الإنكليزية، ويقولان لي إنَّ نعيم الآن لا يتحدثها بطلاقة فقط؛ بل وصار يفكر بلغته الجديدة أيضاً".
يقول حلمي: "نحن سعداء جداً هنا. لم يُبدِ أحدٌ لنا سوى الود والمودة منذ يوم مجيئنا. فالجميع يبتسمون في وجوهنا عندما نذهب إلى المحلات التجارية أو نخرج للنزهة، ويلوحون بأيديهم إلينا. وهدفي هو تعلُّم اللغة الإنكليزية بطلاقة ثم العثور على وظيفة".
لا يشعر مهند بأنَّه سيعود إلى سوريا في المستقبل القريب، على الرغم من أنَّه عندما يتحدث عن وطنه، يبدو الألم في عينيه؛ إذ فرَّت العائلة من بلدة داريا، إحدى ضواحي دمشق، بعد أن سيطرت عليها قوات الرئيس بشار الأسد حين كانت تستهدف المتمردين.
ولأنَّ داريا كانت مُحاصَرة، واجه الناس الموت إمَّا بالقصف، وإمَّا جوعاً. يقول حلمي: "كنتُ أعمل في سوريا طبَّاعاً محترفاً، وأريد ممارسة ذلك في أسكتلندا بعد تحسُّن لغتي الإنكليزية بما يكفي".
وأضاف : "أريد أيضاً أن أرد الجميل إلى هذا المجتمع، لقد كان الناس شديدي اللطف معنا، وصرنا نعتبر هذا المجتمع الآن موطننا. وفي أحد الأيام، بإذن الله، قد نعود إلى سوريا، لكنَّنا نعلم أنَّه لن يكون البلد نفسه الذي تركناه. وإذا عدنا، فسنترك جزءاً كبيراً من قلوبنا في أسكتلندا".
كانت زوجته، وهي امرأة واقعة في حب زوجها بوضوح، حسب وصف الكاتب، تتحرك داخل وخارج المطبخ؛ لتجلب لنا القهوة والكعك. وحين تراهما، تشعر بأنَّهما اكتشفا السعادة ودرجةً من الأمن في حياتهما من جديد، وتشعر أيضاً بأنَّ هذه قد تكون المرة الأولى طوال زواجهما التي يلاقيان فيها قدراً من الهدوء والسكينة.
ويبدو أنَّ قدراً كبيراً من سعادتهما ينبع من حقيقة أنَّ طفليهما قد وجدا الآن مكاناً يمكن أن يكونا آمنَين فيه، واكتشفا الفرح البسيط باللعب دون أي خوف.
يقول حلمي: "نشعر بالأمان والرعاية الشديدة هنا. إنَّه مكانٌ جميل لتربية طفلينا، من الرائع أن نراهما سعيدَين وآمنَين".
ولا يتطرق حلمي إلى تفاصيل ظروف هروبهم من دمشق، لكن من الواضح أنَّ كلا الزوجين وطفليهما كانوا في خطرٍ في كل يوم يقضونه هناك. إنَّهما يبتسمان ويضحكان كثيراً، ويقولان لي إنَّ هنالك الآن رابطة غير قابلة للكسر بين هذه الجزيرة الأسكتلندية الهادئة والأمة السورية القديمة.
خطر وعنف
يَسعد مجلس أرغيل وبوت أيضاً بالطريقة التي استقرت بها الأسر السورية في أسكتلندا، لكنَّه سعيدٌ بصورةٍ خاصة بالطريقة التي استقرت بها في قلب المجتمع الأسكتلندي.
وقد حاول فصيلٌ ما إثارة الشكوك وتنظيم رد فعلٍ عنيف بين السكان، لكنَّ الأسكتلنديين ردعوه بإخلاصهم ونواياهم الحسنة. ولا تزال هناك بقايا للمشاعر السلبية، لكنَّ أولئك الذين يحملونها يمثلون أقلية صغيرة جداً من المجتمع. وتعيش أسر اللاجئين في مساكن احتياطية، ولم تتأثر حياة أو حقوق أي منهم سلباً بأي طريقة.
كانت لحظة الخطر الوحيدة عندما أصدرت بعض وسائل الإعلام اسم المشتبه فيه في تفجير لندن بجانب صورة له على متن عبَّارة بوت. وقد أُطلِق سراحه بسرعة دون توجيه اتهامات إليه، ومع ذلك، تناثرت شكوك طفيفة حول وجود مُهاجِمين تابعين لـ"داعش" مختبئين بين اللاجئين، لكنَّ الضجة هدأت سريعاً.
قال غريم مردوخ، المصور والمصمم الذي عاش في بوت بضع سنوات: "وصلت العائلات السورية إلى بوت منذ وقتٍ ليس ببعيد بعد مجيئي إلى الجزيرة، وكان ما فكرتُ فيه هو أنَّ أحدهم قد يفتتح مطعماً لطيفاً في بلدة روثيساي. وقد التقيتُ العديد منهم في أثناء إقامتي هناك وشعرتُ بكرم أخلاقهم على الرغم من كل ما عانوه، والذي لم يقابله الكثيرون بالمثل في البداية".
وأضاف: "لكن تدريجياً، بدأوا في تكوين الصداقات، وكان أحد الأشخاص الأكثر دعماً هو إيدان كانافان الذي يعمل في بوت برو، وهو مصنع الجعة الصغير المحلي؛ وما يثير السخرية هو أنَّهم لن يتذوقوا أبداً منتجاته؛ لأنَّهم لا يشربون الكحول. أنا سعيدٌ جداً لأنَّ معظم العائلات بقيت هنا. لقد تحسَّن مجتمع الجزيرة الصغير نتيجة لذلك".
وقالت رئيسة المجلس، أيلين مورتون: "حقق برنامج إعادة توطين اللاجئين السوريين نجاحاً كبيراً بالنسبة لكلٍ من بوت والعائلات المعنية، ومن المُشجِّع رؤية الأسر تستقر وتنمو في المجتمع لصالح الجميع".
وأردفت قائلة: "منذ اليوم الأول، كان الهدف من وراء هذا البرنامج هو مساعدة الأسر التي هي في حاجةٍ ماسة إلى بناء حياةٍ آمنة؛ كان الأمر يتعلق بمساعدة الناس الفارين من هول الصدمة على الشعور بالأمان، ويسرني أنَّهم يشعرون الآن بإمكانية الإشارة إلى بوت على أنَّها موطنهم".
وكان للمدرسة الابتدائية والثانوية المشتركة في روثيساي دور شديد الأهمية في عملية الدمج هذه؛ إذ لعبت المدرسة دائماً دوراً حيوياً في هذا المجتمع، فهي المكان الذي سيُتاح فيه للأطفال السوريين ملاقاة القيم التي يسعى المجتمع إلى تعزيزها.
وقال لي أكثر من شخص هنا إنَّ جميع الأطفال يُعتبرون الآن أسكتلنديين، وهم يتحدثون اللغة الإنكليزية بلهجة غرب أسكتلندا السريعة بطلاقةٍ تامة. وأصبح أحد الأولاد السوريين الأكبر سناً قائداً لأحد المباني التابعة للمدرسة، وألقى مؤخراً خطاباً أمام الحرم المدرسي بأكمله.
كيف أنقذوا الجزيرة؟
عمل مُنذر الدرساني حلاقاً لمدة 15 عاماً في دمشق قبل أن يهرب مع عائلته إلى بوت. كان منذر شخصيةً معروفة في المدينة، وكان متجره، "صالون الشرق"، مزدحماً دائماً. وفي وقتٍ سابق من هذا العام (2017)، أُعيد إحياء صالون الشرق من رماد دمشق، ووُلِد مرةً أخرى تحت الاسم نفسه في بوت.
ويبدو أنَّ عمله في روثيساي يزدهر الآن بقدر ما كان مزدهراً بدمشق. وكان حلمه هو أن يُتاح له مزاولة الأعمال التجارية مرةً أخرى في بوت، لكنَّه كان يعلم أنَّ عليه أولاً التمكن من اللغة الإنكليزية.
يقول الدرساني: "بعدما جئتُ إلى هنا، كنتُ أدرس اللغة الإنكليزية لمدة 5 ساعات كل ليلة في بيتي، وبعد مرور 6 أشهر، شعرتُ بأنَّني بدأتُ أتقنها. وكان السكان المحليون متعاونين بشدة، وشعروا بأنَّني حريصٌ على التعلم وكانوا صبورين جداً، وساعدوني عندما كنتُ أنطق بكلماتٍ أو جمل خاطئة".
وأضاف: "أحب المكان هنا. أشعَرَ السكان عائلتي بالترحيب. إنَّه مكانٌ آمن وهذا مهم. وأتطوع أيضاً بمهرجان روثيساي وفي بنك الطعام؛ لأنَّها طريقتي في قول (شكراً) لشعب بوت على مساعدتنا، ولرأفتهم بنا في أحلك الأوقات".
قبل 3 سنوات، نظَّمت بوت اجتماعاً عاماً لاستطلاع الآراء حول كيفية إحياء هذا المكان الذي كان عظيماً فيما مضى، لكنَّه بات يعاني الآن.
فوفقاً لتعداد عام 2011، انخفض عدد سكان الجزيرة بنسبة 10% في العقد الماضي. وكان متنزهها الرائع، الذي وطئت على أرضه سابقاً أقدام الآلاف من ساكني غلاسكو، مصدراً مالياً ساعد على الحفاظ عليه بقية العام.
أما الآن، فإنَّ جميع المتاجر تقريباً الموجودة على طول ساحله فارغة. لكن، بالإضافة إلى "صالون الشرق"، سيُفتتح قريباً مخبز وحلواني سوريان. وربما قد جلب الشعب السوري الهارب من الإرهاب معه معجزة الحياة لبوت.
ويجري تجديدٌ صغير في الجزيرة، وقد وُلِد 4 أطفال جدد للأسر السورية، وهناك طفلٌ آخر في الطريق. إنَّهم يجلبون التفاؤل بطريقتهم الخاصة إلى مجتمعٍ يقع في غرب أسكتلندا، نسي تقريباً ما تعنيه هذه الكلمة.
تعداد اللاجئين
11 مليون شخص، هو عدد اللاجئين السوريين الذين فرّوا من منازلهم منذ اندلاع الحرب الأهلية في مارس/آذار 2011.
وتستضيف تركيا أكبر عدد من اللاجئين السوريين المسجلين، وهو 3.3 مليون، بينما يستضيف لبنان 1.1 مليون، ويستضيف الأردن 660 ألف لاجئ.
وبلغ عدد النازحين داخلياً في سوريا 6.6 مليون.
في حين بلغ عدد اللاجئين السوريين في أوروبا نحو مليون لاجئ. وتجدر الإشارة إلى أنَّ ألمانيا، التي استقبلت أكثر من 300 ألف طلب لجوء، والسويد التي استقبلت 100 ألف، هما كبرى الدول المستقبِلة لطلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبى.
وقد أُعيد توطين 9394 لاجئاً سورياً في بريطانيا، على الرغم من أنَّها تُقدِّم الدعم لعددٍ أكبر من ذلك.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/2017/12/25/story_n_18907304.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات