في الجنوب الموسيقى تُعزف لأجل الموسيقى، الكلمات تخرج لتجد طريقها سريعاً لقلوب السميعة، النيل هناك أنقى ومياهه أعذب مثل الموسيقى، الروح صافية كصفاء سماء أسوان، من الجنوب جاء.
منيب الذي خلق الموسيقى ونقلها هنا حيث صخب القاهرة وزحمة المارة، حيث كل شيء يمر سريعاً، حيث الموسيقى التي اكتست برداء غربي فلم نعُد نرى همومنا ولا أفراحنا فيها.
يقول أفلاطون: "لو لم أكن فيزيائياً من المحتمل أن أصبح موسيقياً، غالباً ما أفكر بالموسيقى.. أحلام اليقظة لديّ موسيقى وأنظر إلى حياتي بدلالة الموسيقى أجمل أوقاتي هي تلك التي أقضيها بالعزف على الكمان".
في مشهد مهيب يقف عبد الناصر رافعاً يده لردّ التحية على الجماهير التي احتشدت للاستماع لخطابه "أيها الإخوة، إن السد العالي الذي نبدأ اليوم العمل فيه إنما هو حافز مستمر لكل الأمم في إفريقيا وآسيا، يذكرها دائماً أن الشعوب الصغيرة مهما تضاءل ما تملكه من معدات الدمار الذري تستطيع أن تقوم دائماً بأعظم الأعمال الإنشائية، وتستطيع -ولو اقتضى الأمر- أن تحفر طريقها ولو بأظافرها. تستطيع أن تحفر هذا الطريق ولو بأظافرها ودمائها في وسط الصخور".
في قرية "توماس وعافية" تعالت الآهات تمجيداً بقرار عبدالناصر، هذا التمجيد سيتحول إلى سخط من قِبل أهالي القرية على القرار بعد التأكد من ترحيلهم عن قراهم التي عاشوا فيها لسنوات، بناء السد سيؤدي لغرق القرية والقرى المجاورة.
فتى أسمر يافع لم يتجاوز الثانية عشرة من أبناء قرية "توماس وعافية" يقف رفقة أهله منتظرين القطار الذي سيقلهم إلى بلدتهم الجديدة، القدر اختار "إسنا" بمحافظة قنا لإعادة تسكين أهالي القرية، ستة أعوام أخرى مضت وكان الفتى على موعد لهجرة أخرى نحو الشمال؛ حيث الإسكندرية، بدأ العمل كموظف ببنك الإسكندرية، بعدها بدأ في الميل تجاه الموسيقى، هذا الحب للموسيقى تعارض مع رفض والده للغناء، ومن ثم الطرد من المنزل بعد فشل محاولات إثنائه عن الموسيقى؛ لذا لم يكن أمامه مفر إلا ترك بنك إسكندرية وتقديم استقالته والتوجه نحو القاهرة، وبالأخص حي عابدين، في القاهرة بدأ منيب بحضور الموالد والغناء في الأفراح النوبية.
مرة أخرى عبدالناصر يكون له أثر في رحلة منيب الغنائية، فبعد تسببه في رحيل منيب من قريته "توماس وعافية" بعد قرار بناء السد، كان لعبدالناصر دور في إنتاج واحدة من أفضل الأغاني الإفريقية في القرن العشرين.
ففي سجن الواحات اعتاد الثلاثي منيب وحدّاد ومحمد حمام أن يتغنوا بالأشعار والألحان من باب كسر الملل وقتل الوقت، بعد أن صدرت أوامر بالقبض على السياسيين والشيوعيين وكل مناهضي فكر عبدالناصر، وكان قد طال الاعتقال الفنان أحمد منيب والشاعر فؤاد حداد والفنان محمد حمام والمحامي زكي مراد وآخرين.
قرر الثلاثي الأول ذات ليلة وافقت عيد الميلاد الخامس والثلاثين لرفيقهم في الزنزانة المحامي زكي مراد أن يحتفلوا بهذه المناسبة، قام الشاعر فؤاد حدّاد بكتابة قصيدة شعرية، لحنها أحمد منيب وغناها محمد حمام وأهدوها لزكي مراد، فكان ميلاد أغنية "الليلة يا سمرا"؛ لتكون بذلك أول أشعار تُغنّى للشاعر فؤاد حداد الذي كان رافضاً لفكرة غناء أشعاره، والتي أعاد غناءها محمد منير وطرحها في ألبوم شبابيك سنة 1981، وتم اختيارها ما بين أفضل خمسين أغنية إفريقية في القرن العشرين.
بعدها بسنوات كان عبد الرحيم منصور لديه شيء ثمين يهديه لمنيب، شاب نحيل ذو وجه أسمر وشعر كثيف لديه صوت قوي يؤهله للتربّع على عرش الأغنية في مصر، لكن الأصوات وحدها لا تؤهل أصحابها لتبؤ المراتب الأولى، توجد عدة مزايا توفرت في تجربة منير الغنائية، أولها أن منير الشاب وقتها لديه نهج ثابت يسير عليه، هذا النهج وإن فُصّل من قبل أحمد منيب لكن قماشة منير كانت الوحيدة الملائمة للتفصيل، رسم منيب خطوط السير لمحمد منير مؤمناً بقدرته على تلبية طموحاته التلحينية هذه الطموحات التي اصطدمت بواقع تغير الأغنية في القاهرة بعد إصدار أول ألبوم "علموني عينيكي" عام 1977، الانفتاح الاقتصادي الذي أحدثه السادات آنذاك كان له تأثيره على الحياة الاجتماعية كذلك الموسيقى وسوق الأغنية.
مالك الشركة المنتجة هاني ثابت نقل الأغاني من الأسطوانة إلى الكاسيت الذي كان مجهولاً لفئة كبيرة من الناس في ذلك الوقت، الأمر الذي أدى إلى عزوف معظم الجمهور عن شرائه، عدم النجاح في الألبوم الأولي دفعهم بتوسيع دائرة العمل في تحلين ألبوم منير الثاني بنتولد عام 1978، فاشترك في تلحينه كل من أحمد منيب وهاني شنودة وكان من إنتاج نفس الشركة، حقق الألبوم نجاحاً معقولاً وقتها قبل أن يصل منير لذروة نجاحه مع إطلالة ألبوم "شبابيك" الذي تعاون فيه مع الموسيقار يحيى خليل وفرقته، التي تولت توزيع الألبوم بالكامل، ورغم طرح الألبوم في عام اغتيال السادات فإنه حقق أعلى مبيعات لألبوم غنائي في ذلك الوقت.
منيب الذي علم نفسه وأتقن العزف على العود بمفرده، كانت أول ألحانه الأغنية النوبية "صندليجا الصندل"، وتأثر فيها بفكرة أغنية "البوسطجية اشتكوا"، حاول منيب دراسة العزف بتعمق أكثر ودراسة المقامات الشرقية، لكن لم يستطِع الاستمرار مبرراً أنه لا يرى نفسه في هذه المقامات.
منير الابن المدلل والقطيعة مع منيب
في عام 1984 وقع خلاف بين أحمد منيب وفتاه المدلل محمد منير، هذا الخلاف أجبر أحمد منيب على أن يصدر أول ألبوم غنائي له عام 1984 بعنوان "مشتاقين"، حينها تخبط منير بعد وفاة كاتب أغانيه عبدالرحيم منصور ومقاطعة ملحنه منيب؛ لذلك ابتعد لسنوات.
اقتنع منيب بأنه أحق بلحنه من الآخرين قناعة تضاءلت مع عدم نجاح ألبومه الغنائي الثاني "يا عشرة " مقارنة مع نجاح ألحانه.
أنتج منيب سبعة ألبومات غنائية هي "مشتاقين، ويا عشرة، وكان وكان، وبلاد الدهب، وراح أغني، وقسمة ونصيب، وحدوتة مصرية"، أعاد محمد منير غناء بعض أغاني منيب التي لحّنها وغناها في سنوات المقاطعة، ما أحدث خلافاً بين ورثة منيب ومنير على عدم أحقية منير في غناء ألبومات أحمد منيب بعد وفاته ومطالبتهم بحقوقهم فيها.
قدّم بعدها إيهاب توفيق ولحّن له أغنيتين هما "إكمني بهواك"، و"علمي علمي"، لحن أحمد منيب لمطربين عدة أمثال علاء عبد الخالق "الحب ليه صاحب" عمرو دياب، و"يا طير يا متغرب"، فارس، و"هاكتبلك" حسن عبد المجيد، و"ربك هو العالم" وغيرهم.
تزوج منيب من "نعيمة محمد" ابنة عمته، زواجاً تقليدياً مثل معظم الزيجات في ذلك الوقت بعدها تحول إلى حب شديد للمرأة التي صبرت وكافحت بجانبه، قدم منيب أغنية "أم العيال العشرية" عرفاناً بالجميل لزوجته التي تقول: "مين اللي يسهر جمبي الليل، مين اللي باله معايا طويل، مين لما أتعب يسعدني ومعايا حمل الهم يشيل، مين هيا غير ست الستات وياها بتصبح وأبات وأجيب لمين غيرها وأهادي، أم العيال العشرية".
آخر ألحان منيب كانت بعنوان "مين بيعيش" للشاعر محمد القصاص وغناء حسن الأسمر، وكلماتها "مين بيعيش في غير زمانه أو بيموت في غير أوانه، صافية ولا حزن مالينا، ضحكة ولا مكتوب علينا"، وانتهى منها قبل 20 يوماً من وفاته، وغناها حسن الأسمر، صدرت أغنية في ذكرى رحيله من غناء أحمد جوهر، وحسن عبد المجيد، وريكو، وأمنية، وآخرين بعنوان "رحلته موال".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/amr-sarhan/story_b_18656570.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات