وسط عائلة ريفية اتخذت من أعالي الجبال الكبدانية "عروشاً" و"مساكن"، وفي منطقة "زخنينية"، بإقليم الناظور، سنة ثمانية وثلاثين وتسعمائة وألف، وُلد محمد، بطل الحكاية، ومحور الرواية، الذي استهل دنياه بالصراخ، قبل أن يتعلم الابتسامة والمناداة "يما" و"بابا".. نشأ فقيراً، أكل من خبز "ثافقونت"، وبطاطا الحقل الصغير، وشرب حليب الماعز، ولعب مع الجديان والخرفان، قبل أن يؤنسه أخوه بعد ثلاث سنوات.
كان الطفل يرافق أباه للرعي والزراعة، منذ الطفولة، وساعده لأول مرة في سن السادسة، حين طلب منه أن يرش البذور على المنطقة المحروثة.. كانت الحياة بسيطة لكنها ممتعة وجميلة، مرت سنين الصغر بسرعة كبيرة، وكل شيء كان يسير على ما يرام أواخر النصف الأول من القرن العشرين.
دقت ساعة الصفر، ودخلت سنة 1950، حاملة معها خلافاً حاداً بين والدي "محمد"، الذي لم يجاوز الثلاثة عشر ربيعاً، انتهى بـ"الطلاق".. نذير الشتات والفراق.. وناقوس الآلام والأحزان.. عصفت الأيام بالطفولة مبكراً، فلم تحتضن الأم الأبناء وتزوجت في أول الفرص، ولم يرعَ الأب الأولاد كرعيه للماشية، فتركهم واقترن بالثانية، فضاع الأطفال بينهما ضياعاً.
لم تصبر الزوجة الجديدة كثيراً على ابنَي زوجها، فقامت بإرسالهما للعيش مع جدتهما، أو بالأحرى طردتهما من المنزل.. ذهب الأخوان مكرهين إلى الجدة العجوز، التي لا تقوى على المشي، ولا تملك من زمام منزلها شيئاً.. دخل "اللطيمان" حزينين على ما جرى صابرين على الصدمات، آملين بزوال الأزمات.. في المأوى الجديد، الذي يوجد فيه إلى جانب الجدة عمهما وزوجته، التي كانت تعاملهما أسوأ معاملة، فلا يزال "محمد"، وبعد مرور أزيد من 60 سنة، يتذكر أخاه "عمر" وهو يمضغ "العلكة" قبل أن تأتي وتخرجها من فمه وتضع التراب مكانها وتوسعه ضرباً!
بعد سنة من "الموت" في منزل الجدة، وفي جبل قريب، كان محمد يرعى الغنم رفقة أخيه، ويحاول إقناعه بضرورة الهرب والرحيل، فأي عيش نحن فيه، على الأقل إن فررنا لن نعيش أسوأ مما عشنا، فلا أب يؤمّننا ولا أم تحن علينا ولا قلب رحيم يشفق على حالنا ولا عيش رغد يغرينا، الموت خير لنا يا أخي!
"عمر" الذي لا يزال في عقده الأول، لم يقتنع في تلك اللحظة بكلام أخيه الذي يكبره بثلاثة أعوام، لكن الأخير كان عازماً على المغادرة، وفي صباح باكر، من شهر أبريل/نيسان، سنة 1952، حمل الطفل معطفاً وقبعة، وتسلل خلسة للمطبخ لأخذ بعض الخبز المتبقي، قبل أن يخرج قاصداً الجبال الشرقية.
كان شروق شمس، اليوم، ذا منظر خاص، كيف لا ومحمد الذي كان يرعى الغنم في هذا الوقت من الأيام الماضية، ذاهب للبحث عن الحياة من مشرق الشمس، علّه يأتي ببصيص أمل يحقق ما يسمو إليه، حرية شخصية وكرامة إنسانية، اللتين فقدهما مباشرة بعد "الطلاق".. وأي طلاق!
مضت أزيد من ست ساعات على بدء الرحلة، وانتصف النهار، ويبدو أن هناك تحدياً يواجه الطفل المغامر، وهو قطع نهر "ملوية"، لكن المشكلة أنه لا يعرف السباحة.. جلس قرب النهر يفكر في سبيل للعبور، وبعد ربع ساعة، ظهر رجل يروي الأغنام، قصده محمد وترجاه أن يساعده على قطع "ملوية" فوافق على فوره!
حمل الراعي الطفل على ظهره ودخل به النهر، سبح قليلاً، وقبل الوصول إلى الضفة المقابلة، قال الرجل للطفل: ادفع لي ثمن مساعدتك وإلا تركتك تموت هنا! بدأ "محمد" بالبكاء والرجاء في الشخص، أن يعطف عليه فلا نقود لديه، ولا شيء عنده للمساومة! غضب الرجل ورمى الطفل في المياه، حاول الصغير إنقاذ نفسه والدموع تنسكب.. قاوم الغرق.. فنجا منه، واستلقى على ظهره يستجمع أنفاسه التي كادت تتوقف، حمد الله على سلامته، وبعد دقائق نهض لإكمال المسير، معتقداً أن أصعب ما في الرحلة قد مر، غير المفاجأة كانت تنتظره في الضفة التي كاد يموت للوصول إليها.. يُتبَع
كان الطفل يرافق أباه للرعي والزراعة، منذ الطفولة، وساعده لأول مرة في سن السادسة، حين طلب منه أن يرش البذور على المنطقة المحروثة.. كانت الحياة بسيطة لكنها ممتعة وجميلة، مرت سنين الصغر بسرعة كبيرة، وكل شيء كان يسير على ما يرام أواخر النصف الأول من القرن العشرين.
دقت ساعة الصفر، ودخلت سنة 1950، حاملة معها خلافاً حاداً بين والدي "محمد"، الذي لم يجاوز الثلاثة عشر ربيعاً، انتهى بـ"الطلاق".. نذير الشتات والفراق.. وناقوس الآلام والأحزان.. عصفت الأيام بالطفولة مبكراً، فلم تحتضن الأم الأبناء وتزوجت في أول الفرص، ولم يرعَ الأب الأولاد كرعيه للماشية، فتركهم واقترن بالثانية، فضاع الأطفال بينهما ضياعاً.
لم تصبر الزوجة الجديدة كثيراً على ابنَي زوجها، فقامت بإرسالهما للعيش مع جدتهما، أو بالأحرى طردتهما من المنزل.. ذهب الأخوان مكرهين إلى الجدة العجوز، التي لا تقوى على المشي، ولا تملك من زمام منزلها شيئاً.. دخل "اللطيمان" حزينين على ما جرى صابرين على الصدمات، آملين بزوال الأزمات.. في المأوى الجديد، الذي يوجد فيه إلى جانب الجدة عمهما وزوجته، التي كانت تعاملهما أسوأ معاملة، فلا يزال "محمد"، وبعد مرور أزيد من 60 سنة، يتذكر أخاه "عمر" وهو يمضغ "العلكة" قبل أن تأتي وتخرجها من فمه وتضع التراب مكانها وتوسعه ضرباً!
بعد سنة من "الموت" في منزل الجدة، وفي جبل قريب، كان محمد يرعى الغنم رفقة أخيه، ويحاول إقناعه بضرورة الهرب والرحيل، فأي عيش نحن فيه، على الأقل إن فررنا لن نعيش أسوأ مما عشنا، فلا أب يؤمّننا ولا أم تحن علينا ولا قلب رحيم يشفق على حالنا ولا عيش رغد يغرينا، الموت خير لنا يا أخي!
"عمر" الذي لا يزال في عقده الأول، لم يقتنع في تلك اللحظة بكلام أخيه الذي يكبره بثلاثة أعوام، لكن الأخير كان عازماً على المغادرة، وفي صباح باكر، من شهر أبريل/نيسان، سنة 1952، حمل الطفل معطفاً وقبعة، وتسلل خلسة للمطبخ لأخذ بعض الخبز المتبقي، قبل أن يخرج قاصداً الجبال الشرقية.
كان شروق شمس، اليوم، ذا منظر خاص، كيف لا ومحمد الذي كان يرعى الغنم في هذا الوقت من الأيام الماضية، ذاهب للبحث عن الحياة من مشرق الشمس، علّه يأتي ببصيص أمل يحقق ما يسمو إليه، حرية شخصية وكرامة إنسانية، اللتين فقدهما مباشرة بعد "الطلاق".. وأي طلاق!
مضت أزيد من ست ساعات على بدء الرحلة، وانتصف النهار، ويبدو أن هناك تحدياً يواجه الطفل المغامر، وهو قطع نهر "ملوية"، لكن المشكلة أنه لا يعرف السباحة.. جلس قرب النهر يفكر في سبيل للعبور، وبعد ربع ساعة، ظهر رجل يروي الأغنام، قصده محمد وترجاه أن يساعده على قطع "ملوية" فوافق على فوره!
حمل الراعي الطفل على ظهره ودخل به النهر، سبح قليلاً، وقبل الوصول إلى الضفة المقابلة، قال الرجل للطفل: ادفع لي ثمن مساعدتك وإلا تركتك تموت هنا! بدأ "محمد" بالبكاء والرجاء في الشخص، أن يعطف عليه فلا نقود لديه، ولا شيء عنده للمساومة! غضب الرجل ورمى الطفل في المياه، حاول الصغير إنقاذ نفسه والدموع تنسكب.. قاوم الغرق.. فنجا منه، واستلقى على ظهره يستجمع أنفاسه التي كادت تتوقف، حمد الله على سلامته، وبعد دقائق نهض لإكمال المسير، معتقداً أن أصعب ما في الرحلة قد مر، غير المفاجأة كانت تنتظره في الضفة التي كاد يموت للوصول إليها.. يُتبَع
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/chafik-annouri/-5-1-_1_b_18657426.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات