الأحد، 24 ديسمبر 2017

أنا والغربة

أنا والغربة

كم هو جميلٌ أن ينتقل الإنسان من مرحلة لأخرى، ويعيش تفاصيلها، يتذوق من عسيلتها تارة، ويغرف من مرارتها تارةً أخرى، ليصدر الحكم المناسب على كل مرحلة بعد مرورها! وللحق، فإن المرحلة الجامعية هي أفضل المحطات التي تمر بها سفينة الحياة؛ لأنها تزود الإنسان بالعلم والمعرفة، والخبرة والتجربة، وبكل ما يلزم، لمواجهة أعباء الحياة، خاصة إن قدَّر لله لك أن تكمل دراستك خارج بلدك، وهذا ما حدث معي.

أنهيت الثانوية العامة وبدرجة عالية، فبدأت رحلة البحث عن منحة دراسية خارجية، وكانت أمنياتي وتطلعاتي تولي وجهها شطر أرض الكنانة (مصر) باعتبارها أم الدنيا، بحكم أننا في فلسطين، وخاصة أهل غزة (فلسطينيون الهوية ومصريون الهوى) كما قال الشهيد القائد ياسر عرفات رحمه الله؛ بل لا غرابة إن وجدنا عائلات فلسطينية تعود أصولها إلى مصر، وأن نسبة كبيرة من أهل غزة متزوجون بنساء مصريات.

لكن، ولأنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد شاء الله أن تولي أشرعتي وجهها صوب بلاد لم يكن في حساباتي أو توقعاتي أو تطلعاتي أن أزورها، فضلاً عن أن أكمل دراستي فيها، حيث رست سفينتي في بلاد الماء والخضرة والوجه الحسن، هناك في المملكة المغربية، فقلت في نفسي ربما هي نعمة، على رأي الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي.

في أثناء التحضير للسفر، نصحتني إحدى عجائز عائلتي قائلةً: "خليك هنا خليك وبلاش تسافر" على رأي جورج وسوف، لكني صممت؛ لأن رغبتي منذ بداية نضجي تلحّ بضرورة الدراسة خارج البلد.. سافرت للمغرب ووصلت إليها برفقة مجموعة من أبناء الوطن، فبدأت أتعرف على الأماكن التي ستصبح جزءاً من عالمي رغماً عني؛ الجامعة، والسكن الجامعي، والمطعم، والسوق، والمقهى، والمؤسسات التي يجب أن أتعامل معها.

وبصراحة، في المغرب، وجدت أناساً يحبون فلسطين كما يحبون الحياة، ورغم أن ما بين المغرب وفلسطين من مسافات جغرافية بعيدة، فإن المسافة الروحية والوجدانية كانت قريبة جداً.

رويداً رويداً، بدأت أشعر بتغيّر الجو في كل النواحي، لم يكن الأمر سهلاً، وتذكرت نصيحة العجوز التي نصحتني بالبقاء في فلسطين وأن أكمل دراستي فيها، لكنني صممت على مواصلة الدرب حتى النهاية.

ويوماً بعد يوماً، استنتجت أنه في الغربة ستتولى زمام أمورك بنفسك، منذ أن تستيقظ من نومك وترتب غرفتك، وتعد إفطارك وشرابك وحدك.

في الغربة، ستذهب للسوق وتطبخ وحدك.. في الغربة، ستشاهد التلفاز وحدك، ستعرف في الغربة قيمة الوطن، وستدرك أن وطنك الذي كنت تشعر فيه ومنه بالضجر هو جنّة كنت أنت تجهلها. في الغربة يمتلئ قلبك بالحنين والاشتياق إلى أشخاص تحبهم وأمكنة كنت تعشقها وأزمنة عشتها.

في الغربة، ستعرف قيمة أمك التي كنت تتوسل لها كي تعطيك ما تريد، ولأبيك، ولأختك التي كنت تتشاكس معها حين تطلب منها أن تعدَّ لك وجبة طعام، ولأخيك الذي تلعب معه ألعاباً عنيفة، ولأصدقاء الطفولة.

في الغربة، ستشتاق إلى أغنية كنت تهواها، وبنت كنت تعشقها، ونادٍ كنت ترتاده. في الغربة، ستتحدث لأصدقائك الجدد عن أصدقائك القدامى.

في الغربة، ستجلس كل يوم في رمضان تتذكر اجتماع العائلة على مائدة الإفطار وحديث ما قبل الإفطار، واللعب خارج المنزل انتظاراً لأذان المغرب والإفطار، ولبرامجك المفضلة بعد الإفطار، وستشتاق إلى مسجدك المفضل، وإمامك المفضل، ستشتاق إلى برنامج زيارات العيد.

ستتألم كثيراً في الغربة لو مرضت ولم تجد أهلك حولك، وستشعر بأن الألم يتضاعف وكأنه ينفرد بك وحدك.

في الغربة، ستتعلم الاعتماد على نفسك في كل شيء، ستكون مسؤولاً عن دفع فاتورة الماء والكهرباء وباقي الخدمات بنفسك. في الغربة، ستمارس دور السفير لبلدك، فتحرص على أن تَكسب الجميع؛ لتعطيهم عن بلدك أجمل انطباع وتعبّر عن هموم بلدك لكل من تتعرف عليه، فرب زميل لك اليوم يصبح ًغدا مسؤولاً في بلده.

في الغربة، ستلتقي أناساً من بلدك نفسها وتقوّي العلاقة بهم. في الغربة، ستجلس بالمقاهي تنظر في وجوه المارة علّك تجد من تعرفه، أو تسترق السمع من لهجات الجالسين لعلك تسمع لهجة قريبة من لهجتك.

في الغربة، يحب عليك أن تتعلم كل ما تستطيع إليه سبيلاً عن البلد الذي تعيش فيه وكأنه بلدك، وتعرف عن تاريخه وجغرافيته وطقوسه وكل شيء فيه، يعني أنك ستتعرف إلى لهجة غريبة أو لغة غريبة؛ للتأقلم مع واقعك الجديد.

باختصار، في الغربة سيتجسد أمامك ما قاله الإمام الشافعي:

تغرَّب عن الأوطان في طلب العلى ** وسافِر ففي الأسفار خمس فوائد
تفــريج هـمٍّ واكتســـاب معيشــــةٍ ** وعلمٌ وآدابٌ، وصحبة ماجــــــد


ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.


المصدر : http://www.huffpostarabi.com/mostafa-abu-soud/post_16553_b_18798198.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi


تعبيراتتعبيرات