منذ سقوط "الخلافة" العثمانية، وأصوات المسلمين لا تفتر عن المطالبة ببذل الجهد لإعادتها.
تبنت حركة الإخوان المسلمين هذه الأطروحة منذ نشأتها سنة 1929، ثم جاء بعدها حزب التحرير منذ نشأته سنة 1953، والذي ما زال يراهن على دعم الجيوش لفكرته، إلى يومنا هذا.
في سنة 1972، وعبر كتابي "الإسلام غداً" و"الإسلام بين الدعوة والدولة"، للإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله، ستخرج الإرهاصات الأولى لمشروع ثالث يطرح فكرة إعادة الخلافة الإسلامية، لكن تختلف اختلافاً جذرياً عن مشروع فكرة الخلافة عند الإخوان المسلمين وعند حزب التحرير.
ينطلق الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، في تصوره وفي مشروعه، من حديث الإمام أحمد، الذي صححه الشيخ الألباني رحمه الله، ويقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة، ثم سكت".
الخلافة، بالنسبة للإمام ياسين، تم إسقاطها بعد ثلاثين سنة من عمرها. وما جاء بعدها إنما هو ملك عاضّ وملك جبري تعقبهما خلافة راشدة ثانية على منهاج النبوة، وهو بخلاف ما جاء في أدبيات الإخوان المسلمين وحزب التحرير، اللذين يعتبران أن آخر معاقل الخلافة "الخلافة العثمانية".
فما مقياس الإمام ياسين، كون ما جاء بعد عصر الخلافة الراشدة الأولى، إنما هو ملك وليس خلافة؟
فبالإضافة إلى الحديث النبوي الذي يحدد فترة الخلافة بعد النبوة ثلاثين سنة، الذي جاء بهذه الرواية:
أخرج أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه وغيرهم كثير بسند صحيح عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك ملكاً". زاد الترمذي: "قال سعيد (الراوي عن سفينة): فقلت له (أي لسفينة): إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
يورد الإمام ما أخرجه ابن سعد في الطبقات أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لسلمان: "أمَلِكٌ أنا أم خليفة؟" فقال له سلمان: "إن أنت جبـيت من أرض المسلمين درهماً أو أقلَّ أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة! فاستعبر (بكى) عمر". وأخرج أيضاً عن عمر أنه قال: "والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك! فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم! قال قائل: يا أمير المؤمنين! إنَّ بينهما فرقاً. قال: ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقاً، ولا يضعه إلا في حق. وأنت بحمد الله كذلك. والملك يعْسِف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا".
فالصحابة الكرام كانوا يفرقون بين نظام الملك وشخص الملك وبين نظام الخلافة وشخص الخليفة، وكانت لهم معاييرهم التي بها يفرقون ويفصلون، وكانت لهم حساسية كبيرة من نظام الملك والملوك، إلى درجة ما رأينا من الخوف والرهبة منه.
لم يقف الإمام وقفة الناظر إلى المستقبل بعين الذين ينتظرون أن يتحقق موعود الله، موعود الله لهذه الأمة أن يمكن لها الله في الأرض، بل سعى لأن يكون ممن بذلوا الوسع والجهد لإنجاز الموعود النبوي، فساهم تنظيراً وتفعيلاً لهذا التنظير وتنزيلاً.
فمسار الحركة الإسلامية، بالنسبة للإمام ياسين، يجب أن ينتهي إلى الخلافة، لكنها، يقول: "لن تكون خلافة على منهاج النبوة إن لم ترب الشخصية الإسلامية الربانية وتنظم وتعبأ على المنهاج النبوي الشامل الكامل الجامع لشعب الإيمان".
يرى الإمام ياسين أن الانتقال من الملك الجبري إلى الخلافة إنما محكّه العدل في القسمة، محكّه إنصاف المستضعفين، محكّه جمع المال العام بحق، وصرفه بحق، ولإنجاز هذا الأمر، لا بد من أربع خطوات:
1ـ تأليف جماعة المسلمين القطرية وتربية رجالها وتنظيمهم:
لتأليف الجماعة القطرية يرفع، الإمام ياسين، ثلاث لاءات:
ـ لا للسرية، ويقتضي الأمر العمل العلني ووضوح المنهاج.
ـ لا للعنف، ويقتضي الأمر العمل السلمي وحقن دماء المسلمين.
ـ لا للتعامل مع الخارج، ويقتضي الأمر، عدم التبعية التنظيمية للتنظيمات العالمية وكذا عدم الاستعانة أو التعامل مع دول أو قوى خارجية أو تلقي الدعم المادي منها، حفاظاً على استقلالية قرارات التنظيم وحمايته.
2ـ إقامة الدولة الإسلامية القطرية:
للوصول إلى الحكم، بعد للجماعة القطرية أن تلج الميداني السياسي، وتعد كل القوة، وتوجه كل الجهد للوصول إلى الحكم في ذلك القطر، وتحريره.
3ـ توحيد الأقطار الإسلامية:
قبل توحيد الأقطار وقبل تحريرها، يكتب الإمام، لا بد من تنسيق بين الجماعات الإسلامية لتهييء الفكر، والاجتهاد، ومنهاج التربية والتنظيم، ومنهاج الحكم، كي تسهل عملية التدرج لوحدة الاندماج، التي يرى، الإمام، ولمزايا توزيع المسؤوليات ولمضار الحكومة المركزية، أن تكون من نوع ما يسميه العصر فيدرالية.
4ـ الخلافة الوارثة:
عندها، أي عند تحرير أقطار المسلمين، وإقامة نظام وحدة فيدرالية بينهم، يجب على المسلمين في العالم أن ينصّبوا خليفة عليهم باجتماع أولي الأمر من رجال الدعوة والدولة، وانتخاب خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم.
هنا يطرح الإمام سؤالاً مهماً جداً: كيف نتلافى أخطاراً شمولية تخنق الإنسان كما فعلت دولة الأيديولوجية؟ كيف تكون خلافة على منهاج النبوة كما جاء الوعد لا استمراراً للملك الجبري ولا تكراراً للملك العاض؟
ثم يجيب الإمام: "الجواب في أن تنزل القرآن من عالم الأحكام إلى عالم الواقع إنما يتم على يد بشر. فحين كان القرآن دستور قيادة رباها القرآن، وكان به لا بغيره الفرقان، وكان هو على غيره البرهان، وكان طابع الجماعة الإيمان والإحسان، نشأت دولة القرآن امتداداً بين الأرض والسماء، تشد وحدتَه وتصونه أن يزيغ العروةُ الوثقى. فكذلك الخلافة الثانية لن تتحقق بمجرد أن الناس فهموا الأحكام القرآنية وكتبوها وتحالفوا على تطبيقها. نجاحهم في تجديد الخلافة لا يتوقف على ذكائهم وإن كان الذكاء من أهم الفضائل، ولا على ضبطهم التنظيمي وإن كان التنظيم قوة واجبة، ولا على أجهزة تُحاذي ما كان في دولة الخلافة الأولى وتحاكيها، إنما ينجحون بمقدار ما معهم من خُلُق القرآن وفرقانه وبرهانه وإحسانه"..
الخلافة عند الإمام ياسين ليست بديلاً لحضارة المادة من حيث صناعتها وإنجازاتها الاجتماعية والسياسية والحياتية، بل تكون استمراراً على شكل جديد لنفس الحضارة المادية، وتكون الدعوة إلى الله، البالغة إلى كل إنسان، الملحّة عليه، المتحببة إليه بالعيش الكريم تحت ظلها، والإيواء الكريم إلى كنفها، هي روح الحضارة ومهمة الخلافة.
نحن المسلمين موعودون بالخلافة في الأرض لنعمرها، لكن عمارتها ليست مقصودة لذات العمارة، إنما عمارتها شرط ليعرف العبد ربه ويتهيأ للقائه بعد الموت.
تبنت حركة الإخوان المسلمين هذه الأطروحة منذ نشأتها سنة 1929، ثم جاء بعدها حزب التحرير منذ نشأته سنة 1953، والذي ما زال يراهن على دعم الجيوش لفكرته، إلى يومنا هذا.
في سنة 1972، وعبر كتابي "الإسلام غداً" و"الإسلام بين الدعوة والدولة"، للإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله، ستخرج الإرهاصات الأولى لمشروع ثالث يطرح فكرة إعادة الخلافة الإسلامية، لكن تختلف اختلافاً جذرياً عن مشروع فكرة الخلافة عند الإخوان المسلمين وعند حزب التحرير.
ينطلق الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله، في تصوره وفي مشروعه، من حديث الإمام أحمد، الذي صححه الشيخ الألباني رحمه الله، ويقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة، ثم سكت".
الخلافة، بالنسبة للإمام ياسين، تم إسقاطها بعد ثلاثين سنة من عمرها. وما جاء بعدها إنما هو ملك عاضّ وملك جبري تعقبهما خلافة راشدة ثانية على منهاج النبوة، وهو بخلاف ما جاء في أدبيات الإخوان المسلمين وحزب التحرير، اللذين يعتبران أن آخر معاقل الخلافة "الخلافة العثمانية".
فما مقياس الإمام ياسين، كون ما جاء بعد عصر الخلافة الراشدة الأولى، إنما هو ملك وليس خلافة؟
فبالإضافة إلى الحديث النبوي الذي يحدد فترة الخلافة بعد النبوة ثلاثين سنة، الذي جاء بهذه الرواية:
أخرج أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه وغيرهم كثير بسند صحيح عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك ملكاً". زاد الترمذي: "قال سعيد (الراوي عن سفينة): فقلت له (أي لسفينة): إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
يورد الإمام ما أخرجه ابن سعد في الطبقات أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لسلمان: "أمَلِكٌ أنا أم خليفة؟" فقال له سلمان: "إن أنت جبـيت من أرض المسلمين درهماً أو أقلَّ أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة! فاستعبر (بكى) عمر". وأخرج أيضاً عن عمر أنه قال: "والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك! فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم! قال قائل: يا أمير المؤمنين! إنَّ بينهما فرقاً. قال: ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقاً، ولا يضعه إلا في حق. وأنت بحمد الله كذلك. والملك يعْسِف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا".
فالصحابة الكرام كانوا يفرقون بين نظام الملك وشخص الملك وبين نظام الخلافة وشخص الخليفة، وكانت لهم معاييرهم التي بها يفرقون ويفصلون، وكانت لهم حساسية كبيرة من نظام الملك والملوك، إلى درجة ما رأينا من الخوف والرهبة منه.
لم يقف الإمام وقفة الناظر إلى المستقبل بعين الذين ينتظرون أن يتحقق موعود الله، موعود الله لهذه الأمة أن يمكن لها الله في الأرض، بل سعى لأن يكون ممن بذلوا الوسع والجهد لإنجاز الموعود النبوي، فساهم تنظيراً وتفعيلاً لهذا التنظير وتنزيلاً.
فمسار الحركة الإسلامية، بالنسبة للإمام ياسين، يجب أن ينتهي إلى الخلافة، لكنها، يقول: "لن تكون خلافة على منهاج النبوة إن لم ترب الشخصية الإسلامية الربانية وتنظم وتعبأ على المنهاج النبوي الشامل الكامل الجامع لشعب الإيمان".
يرى الإمام ياسين أن الانتقال من الملك الجبري إلى الخلافة إنما محكّه العدل في القسمة، محكّه إنصاف المستضعفين، محكّه جمع المال العام بحق، وصرفه بحق، ولإنجاز هذا الأمر، لا بد من أربع خطوات:
1ـ تأليف جماعة المسلمين القطرية وتربية رجالها وتنظيمهم:
لتأليف الجماعة القطرية يرفع، الإمام ياسين، ثلاث لاءات:
ـ لا للسرية، ويقتضي الأمر العمل العلني ووضوح المنهاج.
ـ لا للعنف، ويقتضي الأمر العمل السلمي وحقن دماء المسلمين.
ـ لا للتعامل مع الخارج، ويقتضي الأمر، عدم التبعية التنظيمية للتنظيمات العالمية وكذا عدم الاستعانة أو التعامل مع دول أو قوى خارجية أو تلقي الدعم المادي منها، حفاظاً على استقلالية قرارات التنظيم وحمايته.
2ـ إقامة الدولة الإسلامية القطرية:
للوصول إلى الحكم، بعد للجماعة القطرية أن تلج الميداني السياسي، وتعد كل القوة، وتوجه كل الجهد للوصول إلى الحكم في ذلك القطر، وتحريره.
3ـ توحيد الأقطار الإسلامية:
قبل توحيد الأقطار وقبل تحريرها، يكتب الإمام، لا بد من تنسيق بين الجماعات الإسلامية لتهييء الفكر، والاجتهاد، ومنهاج التربية والتنظيم، ومنهاج الحكم، كي تسهل عملية التدرج لوحدة الاندماج، التي يرى، الإمام، ولمزايا توزيع المسؤوليات ولمضار الحكومة المركزية، أن تكون من نوع ما يسميه العصر فيدرالية.
4ـ الخلافة الوارثة:
عندها، أي عند تحرير أقطار المسلمين، وإقامة نظام وحدة فيدرالية بينهم، يجب على المسلمين في العالم أن ينصّبوا خليفة عليهم باجتماع أولي الأمر من رجال الدعوة والدولة، وانتخاب خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم.
هنا يطرح الإمام سؤالاً مهماً جداً: كيف نتلافى أخطاراً شمولية تخنق الإنسان كما فعلت دولة الأيديولوجية؟ كيف تكون خلافة على منهاج النبوة كما جاء الوعد لا استمراراً للملك الجبري ولا تكراراً للملك العاض؟
ثم يجيب الإمام: "الجواب في أن تنزل القرآن من عالم الأحكام إلى عالم الواقع إنما يتم على يد بشر. فحين كان القرآن دستور قيادة رباها القرآن، وكان به لا بغيره الفرقان، وكان هو على غيره البرهان، وكان طابع الجماعة الإيمان والإحسان، نشأت دولة القرآن امتداداً بين الأرض والسماء، تشد وحدتَه وتصونه أن يزيغ العروةُ الوثقى. فكذلك الخلافة الثانية لن تتحقق بمجرد أن الناس فهموا الأحكام القرآنية وكتبوها وتحالفوا على تطبيقها. نجاحهم في تجديد الخلافة لا يتوقف على ذكائهم وإن كان الذكاء من أهم الفضائل، ولا على ضبطهم التنظيمي وإن كان التنظيم قوة واجبة، ولا على أجهزة تُحاذي ما كان في دولة الخلافة الأولى وتحاكيها، إنما ينجحون بمقدار ما معهم من خُلُق القرآن وفرقانه وبرهانه وإحسانه"..
الخلافة عند الإمام ياسين ليست بديلاً لحضارة المادة من حيث صناعتها وإنجازاتها الاجتماعية والسياسية والحياتية، بل تكون استمراراً على شكل جديد لنفس الحضارة المادية، وتكون الدعوة إلى الله، البالغة إلى كل إنسان، الملحّة عليه، المتحببة إليه بالعيش الكريم تحت ظلها، والإيواء الكريم إلى كنفها، هي روح الحضارة ومهمة الخلافة.
نحن المسلمين موعودون بالخلافة في الأرض لنعمرها، لكن عمارتها ليست مقصودة لذات العمارة، إنما عمارتها شرط ليعرف العبد ربه ويتهيأ للقائه بعد الموت.
المصدر : http://www.huffpostarabi.com/adnan-mohamad-ahmadoun/-_14455_b_18886878.html?utm_hp_ref=arabi&ir=Arabi
تعبيراتتعبيرات